هل تنجح التكنولوجيا البحرية في إعادة تشكيل نظام الطاقة الأوروبي؟

في عمق بحر الشمال، حيث تختبر ألمانيا حدود هندستها البحرية وقدرتها على إنتاج طاقة نظيفة بلا دعم حكومي، ينهض مشروع He Dreiht باعتباره مختبراً حيّاً يختبر كفاءة التوربينات العملاقة، وجدوى التمويل الجديد، وحدود نظام الطاقة الأوروبي نفسه.

  • هل تنجح التكنولوجيا البحرية  في تشكيل النظام الطاقي الأوروبي؟
     (الصورة:  Sergio Fdez Munguía)

في قلب بحر الشمال، وعلى مسافةٍ تُبعده عن اليابسة بقدر ما تضعه في صدارة ثورة الطاقة النظيفة، يتشكّل مشروع  He Dreiht  كاختبارٍ علمي وعملي غير مسبوق لقدرة التكنولوجيا البحرية الأوروبية على إعادة صياغة مستقبل الطاقة.

فهو ليس مجرّد مزرعة رياح جديدة، ولا خطوة أخرى في طريق توسعة البنية التحتية الخضراء، بل مشروع يُعاد من خلاله تعريف مفهوم الجدوى الاقتصادية، والهندسة البحرية، وتمويل الطاقة في القارة.

ولعلّ المفارقة التي يلتقطها قارئ هذا التحوّل بسهولة هي أنّ المشروع ينجز ما فشلت فيه حكومات وبُنى تنظيمية على مدى سنوات: الجمع بين الابتكار عالي المخاطرة والاعتماد على السوق من دون درع الدعم الحكومي.

من منظور علمي وتقني، يقدّم He Dreiht ما يشبه منصة اختبار ضخمة، ولدينا هنا مزرعة رياح بقدرة 960 ميغاوات تعتمد على جيل من التوربينات لم يُختبر على نطاق ضخم من قبل: Vestas V236-15 MW، التي تُعدّ أكبر توربينات متاحة تجارياً اليوم.

هذا الحجم وهذا المستوى من القدرة التحويلية للطاقة من الرياح إلى كهرباء قابلة للتغذية في الشبكات، يدفعان المشروع إلى مرتبة "المختبر البحري العملاق" الذي يُستخدم لقياس حدود ما يمكن أن تقدّمه الرياح البحرية للقارة الأوروبية في سنواتها الحرجة المقبلة.

تكنولوجيا على الحافة: عندما تتحوّل كلّ دورة ريح إلى معادلة علمية

في العبارة التي بدت أشبه برسالة موجّهة للمتخصصين، ذكرت EnBW أنّ دورة واحدة للدوّار العملاق تكفي لتزويد 4 منازل بالطاقة ليوم كامل.

هذا ليس خطاباً تسويقياً بل وصف عملي يكشف طبيعة التحدّيات الهندسية وراء تلك التوربينات. فبقطر يبلغ 236 متراً، ومساحة مسح هوائي تُقارب 44 ألف متر مربّع، تتطلّب كلّ دورة من الدوار تنسيقاً محكماً بين الديناميكا الهوائية والتحكّم الرقمي الحراري والميكانيكي، كي يتحقّق ذلك المستوى من الكفاءة.

ارتفاع محور التوربين، الذي يبلغ 142 متراً، يضعه في طبقة هوائية أعلى وأكثر استقراراً من حيث سرعة الرياح واتجاهها، وهو ما يزيد من تكرار الإنتاجية المنتظمة. غير أنّ هذه الأبعاد كلّها تُحوّل الصيانة والمراقبة إلى عملية تعتمد بدرجة أكبر على الذكاء الصناعي، والطائرات من دون طيّار، والاستشعار بالليدار، بدل الاعتماد على فرق بشرية تُبحر في ظروف قاسية.

تمويل بلا دعم حكومي: تجربة اقتصادية غير مسبوقة

الركيزة الأخرى التي تجعل مشروع He Dreiht تجربة فريدة هي كونه أحد أوائل المشاريع البحرية الضخمة التي تُبنى من دون دعم حكومي. وهذا التحوّل ليس بسيطاً، خصوصاً في قطاع حسّاس تقنياً ومالياً مثل طاقة الرياح البحرية.

  • هل تنجح التكنولوجيا البحرية  في تشكيل النظام الطاقي الأوروبي؟
    بحر الشمال ليس فقط موقعاً مناسباً للرياح، بل هو منطقة جيوسياسية للطاقة (الصورة: Vestas Wind Systems)

بدلاً من الدعم التقليدي المرتبط بقانون الطاقة المتجدّدة الألماني (EEG)، تستند EnBW إلى اتفاقيات شراء الطاقة (PPAs) طويلة الأجل. ويبدو أنّ الشركات الكبرى، التي تواجه ضغوطاً للانتقال نحو الطاقة النظيفة، أصبحت شريكاً أساسياً في تمويل هذه التجربة.

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by EnBW (@enbw_ag)

فمن Fraport إلى Evonik وBosch وDeutsche Bahn وغيرها، باتت الشركات الصناعية تتعامل مع الطاقة كما تتعامل مع المواد الخام: ضمانات طويلة الأجل، أسعار يمكن التنبؤ بها، واستقلال أكبر عن تقلّبات الأسواق.

هذه المقاربة تخلق بيئة جديدة:

·        المنتج يحصل على دخل مستقر وقابل للتوقّع.

·        المستهلك الصناعي يحصل على تحوّط مباشر ضدّ تقلّبات أسعار الكهرباء.

·        السوق ينتج آلية بديلة لتمويل مشاريع الطاقة المتجدّدة من دون عبء على الخزينة العامّة.

وقد عزّز المشروع هذه القاعدة عبر جذب استثمارات بمليارات اليوروهات، بينها تمويل طويل الأجل من بنك الاستثمار الأوروبي بقيمة 600 مليون يورو، وبيع حصة 49.9% لتحالف Allianz – AIP – Norges Bank، ما يضيف شرعية مالية وعمقاً في إدارة المخاطر.

أوروبا البحرية الجديدة: أين تتقاطع التكنولوجيا مع الجغرافيا؟

بحر الشمال ليس فقط موقعاً مناسباً للرياح، بل هو منطقة جيوسياسية للطاقة. عبر عشرات السنين، شكّل هذا البحر منصة استخراج الغاز الأوروبي، واليوم يتحوّل إلى منصة "تصنيع الطاقة" بشكلٍ نظيف.

ومشروع مثل He Dreiht، الممتد على بعد 90 كيلومتراً من "بوركوم" و110 كيلومترات من "هيلغولاند"، يغيّر شكل العلاقة بين القارة وبحارها.

جزء أساسي من المشروع يعتمد على البنية التحتية التي تديرها TenneT، والتي تربط المزرعة بالشبكة عبر كابلين عاليي الجهد للتيار المستمر (HVDC)، يمتدان 120 كيلومتراً في البحر و110 كيلومترات على اليابسة.

هذا النوع من أنظمة النقل يحوّل مشروع الرياح البحرية من مصدر طاقة محلي إلى مصدر يمكن دمجه في الشبكات الأوروبية العابرة للحدود.

إنّ قدرة الكهرباء على السفر لمسافات طويلة من دون خسائر تُغيّر فلسفة تموضع مزارع الرياح. فما يَعِد به He Dreiht ليس مجرّد 1.1 مليون منزل بالطاقة، بل يَعِد بنموذج قابل للتكرار عالمياً في أماكن لم تكن تُعتبر مواتية من قبل.

  • حققت أكبر مزرعة رياح بحرية في ألمانيا للتو إنجازاً عملاقاً (الصورة: NextMetropolis)
    حقّقت أكبر مزرعة رياح بحرية في ألمانيا للتو إنجازاً عملاقاً (الصورة: NextMetropolis)

المخاطر الطبيعية والبشرية: تجربة في إدارة كلّ ما لا يمكن توقّعه

لا يمكن تجاهل أنّ المشروع يعمل في واحدة من أكثر البيئات البحرية تقلّباً في العالم. ففي آب/أغسطس 2025، حين ضربت "عاصفة صيفية" موقع البناء، بدا أنّ كلّ عنصر من عناصر المشروع يتعرّض للاختبار: من هياكل التوربينات إلى أنظمة الحماية من البرق.

لكن وفق EnBW وفيناتس فإنّ نظام الحماية تمكّن من تحويل شدة الصواعق من دون أضرار، وهو ما يقدّم دليلاً ميدانياً على نضوج التكنولوجيا.

على المستوى اللوجستي، يعمل أكثر من 500 شخص و60 سفينة في ذروة العمليات. وهذا الرقم لا يعبّر فقط عن حجم المشروع، بل عن تطور إدارة العمليات البحرية في أوروبا. فمن تنسيق سفن التثبيت الثقيلة مثل Cadeler Wind Orca، إلى سفن مدّ الكابلات مثل Seaway 7، يظهر المشروع قدرة الصناعة الأوروبية على تنفيذ عمليات هندسية معقّدة في بيئة عالية المخاطر ومتعدّدة المتغيّرات.

التحدّي البيئي: بين حماية بحر الشمال وإعادة تشكيله

بحر الشمال يُعدّ بيئة حسّاسة، وقد خضع مشروع He Dreiht لتقييم أثر بيئي صارم. وهنا يكمن السؤال الحقيقي: هل تسهم مزارع الرياح في حماية النظام البيئي أم تغييره؟

النتائج الأولية تُظهر أنّ التأثيرات السلبية المباشرة محدودة وقابلة للإدارة، وأنّ المشروع يعتمد نظم مراقبة طويلة الأمد لمنع الإضرار بالثديّيات البحرية والطيور. لكنه يفتح أيضاً سؤالاً أكبر: هل تصبح مزارع الرياح جزءاً من النظام البيئي نفسه؟ وهل ستوفّر موائل جديدة للكائنات البحرية كما حدث حول بعض المنشآت الأخرى؟

 
 
 
 
 
View this post on Instagram
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

A post shared by EnBW (@enbw_ag)

أول كيلوواط/ساعة… ثمّ ماذا؟

في اللحظة التي ولّدت فيها أول توربينة في He Dreiht أول كيلوواط/ساعة من الكهرباء، كانت إشارة تتجاوز حدود المشروع. بالنسبة للأوروبيين، كان هذا الحدث يرمز إلى استقلال متزايد عن واردات الطاقة، وإلى قدرة التكنولوجيا على التكيّف مع متطلّبات القارة. وبالنسبة للخبراء، كان يمثّل لحظة تحقّق: أنّ الجيل الجديد من التوربينات العملاقة يمكنه العمل فعلاً في ظروف حقيقية.

ومع بقاء 37 توربيناً قيد التركيب حتى صيف 2026، فإنّ المشروع يقترب من أن يصبح أكبر مزرعة رياح بحرية في ألمانيا.

مشروع He Dreiht ليس بنية تحتية… بل دليل تحوّل

حين ينظر الباحثون وصنّاع السياسات إلى مشروع He Dreiht بعد سنوات، فقد لا يقرأونه كمزرعة رياح وإنما كنقطة انعطاف. لقد فتح المجال أمام سوق طاقة يمكن أن تموِّل نفسها، وتكنولوجيا يمكن أن تعمل في أقسى الظروف، وشبكات يمكن أن تنقل الطاقة النظيفة لمسافات طويلة.

اقرأ أيضاً: النرويج: افتتاح أكبر محطة رياح عائمة في العالم تضم 11 توربيناً

الأهمّ من ذلك أنه كشف عن معادلة جديدة في أوروبا: التحوّل الطاقي لن يتحقّق عبر التشريعات فقط، بل عبر المشاريع التي تثبت على الأرض أنّ التكنولوجيا البحرية قادرة فعلياً على إعادة تشكيل نظام الطاقة الأوروبي.

اخترنا لك