الأوروبيون وفواتير التخلص من قبضة ترامب

فوضوية مواقف ترامب وسياسته تجاه الناتو وتهديداته بالانسحاب منه أمورٌ بمجملها حفّزت صقور القادة في أوروبا - بريطانيا وفرنسا وألمانيا – للسير نحو بناء نظامهم الأمني الخاص.

  • واشنطن تستخدم أدواتها لتكريس نفوذها في أوروبا (أرشيف).
    واشنطن تستخدم أدواتها لتكريس نفوذها في أوروبا (أرشيف).

منذ منتصف القرن الماضي، بدأت الولايات المتحدة الاتجاه أكثر فأكثر نحو استخدام أدواتها الاقتصادية والعسكرية - السياسية لتكريس نفوذها في أوروبا وإدخالها في فلك التبعية الاستراتيجية، عبر إعادة إعمارها الاقتصادي بعد الحرب العالمية، وجرّها نحو التوسع التدريجي للتحالفات، وأثبتت واشنطن قدرتها على إعادة صياغة النظام الأوروبي بما يتوافق مع مصالحها، فيما فقدت أوروبا قوتها واكتفاءها الذاتي السابقين، وبدأت تفقد هويتها وتقع في فخ التبعية من خلال وجودها في حلف الأطلسي، فتأكلت سيادتها وخضعت استراتيجياتها الاقتصادية وسياستها الخارجية لتأثير القوى الخارجية، وفقدت نخبها السياسية استقلاليتها في اتخاذ القرارات الرئيسية، وبدأت تدور في إطار الأجندات المفروضة من الخارج، ولم تستطع استيعاب وفهم أن اعتماد النظام الأميركي على الموارد الخارجية جعله عدوانياً وتوسعياً وبحاجة دائمة إلى مصادر تمويل وتبعية جديدة. 

منذ بداية القرن الحالي، ومع تراجع النظام الأميركي أمام القوى الكبرى كروسيا والصين، وتزايد حجم التغيير الدولي في بنية الأمن العالمي نتيجة الصراعات الحادة في أوكرانيا بالدرجة الأولى، كان لا بد للولايات المتحدة من التعامل مع الواقع الجديد في أوروبا باعتبارها الضامن لأمن دول حلف الناتو، لكن فوضوية مواقف الرئيس ترامب وسياسته تجاه الناتو، وانتقاده الدائم لحلفائه الأوروبيين على ضعف إنفاقهم الدفاعي وضرورة زيادته، إضافة إلى تهديداته بالانسحاب من الناتو، أمورٌ بمجملها حفّزت صقور القادة في أوروبا - بريطانيا وفرنسا وألمانيا – للسير نحو بناء نظامهم الأمني الخاص من دون الاعتماد الكامل على "المظلة الأميركية".

في حين ضمنت الولايات المتحدة بيع أسلحتها للناتو على نفقة الأوروبيين، واحتفظت بقدرة تأثيرها في خططهم العسكرية في حال نشوب صراعٍ كبير مع روسيا، وبات على الأوروبيين اتخاذ خطوات جريئة في علاقاتهم مع الولايات المتحدة من جهة، وبتأكيد مدى جديتهم بشن الحرب المباشرة على روسيا من جهةٍ أخرى، أو بالبحث عن طريقة مناسبة للخروج من الأزمة الأوكرانية ودفع أثمانها للمرة الثانية أمام شعوبهم، والتي قد تشمل سقوطهم وحكوماتهم ونخبهم الفاسدة، وبتدحرج كرة السقوط نحو الاتحاد الأوروبي لتجرف معها الكثيرين بدءاً من روته، أورسولا فون ديرلاين، كايا كالاس، وآخرين. 

وفي سياق محاولاتهم لتجنب هذه الكارثة، اقترب البريطانيون مؤخراً من الفرنسيين، واليوم يقتربون من الألمان، ويحاولون إظهار التزامهم تجاه حلفائهم، على عكس تاريخهم الطويل في خداع الحلفاء، في وقتٍ لا تملك بريطانيا وألمانيا الموارد اللازمة لاستعادة قدرات عسكرية مشتركة، ولم يسبق لهما توقيع معاهدات دفاعية مشتركة وسط ضبابية الرؤية حول هوية العدو الذي سيقاتلانه معاً.

ما الذي سيجنيه القادة الصقور، في وقتٍ يقومون ضمن حدود نفوذهم وإمكانياتهم الحالية بأداء دور الكومبارس في اللعبة الدولية الكبرى التي تؤدي فيها روسيا والولايات المتحدة الأدوار الرئيسية أم أنهم يتهربون ويبحثون فقط عن الذرائع للإفلات من قبضة ترامب، والتخلص من إملاءاته بزيادة إنفاقهم الدفاعي، وشراء الأسلحة الأميركية على نفقتهم لمصلحة الناتو، أم هي خطتهم لإيصال رسالة استغاثة إلى موسكو بأن أوروبا حالياً لا تُشكل أي تهديد لروسيا؟ 

يبقى السؤال: هل تنتقل هذه العدوى وتتوسع في أوروبا، وتشهد المزيد من الاتفاقيات الثنائية المماثلة، ليكون بمقدور صقور القادة الأوروبيين عرقلة خطط ترامب لجعل "أميركا عظيمة مجددًا"، على حساب الأموال الألمانية والبريطانية والفرنسية والأوروبية عموماً، أم ستبقى هذه الاتفاقيات في إطار الاستغلال البريطاني للألمان والفرنسيين ودول الاتحاد الأوروبي في إطار خططٍ بريطانية سرية مستقبلية؟