الكيان الإسرائيلي فشله إداري أم بنيوي؟

ما كان سيجعل نتنياهو يختلف عن لابيد فيما حصل ذات سابع من ذاك تشرين، أثبت أنّ مرتكزات "دولة – إسرائيل" في مهب الريح، وأي فعل بعد فجر ذاك اليوم هو هزيمة.

  • التركيبة البنيويّة السلطوية للكيان الإسرائيلي.
    التركيبة البنيويّة السلطوية للكيان الإسرائيلي.

يجب عدم الوقوع في فخ تصدير العناوين العريضة كدعاية لنغض نظرنا الباحث عن جوهر المشكل، باستعمالهم الديماغوجيّة، للمحافظة على الأصيل، و"الأصيل" هنا هو التركيبة البنيوية للكيان الإسرائيلي حسب رؤية "المُنقِذ" المروّج لتلك الأفخاخ التي، ومع الأسف، غالباً ما نقع فيها.

تصدير سرديات تحمّل نتنياهو وإدارته الفشل وحدهم وتدعيمها كأضحية قربانيّة، بعد زلزال "طوفان الأقصى"، ليس دقيقاً، وإن بدأ الحديث عن ملفات فساد وارتكابات، وأن ردود أفعاله تأتي تجنّباً لسجنه وما إلى ذلك من روايات، حتى لو كانت صحيحة لا فرق، فهي كنتيجة ليست "الحقيقة" بل قنابل دخانية هدفها تشتيت الأنظار عن الفاشل الحقيقي وبالتالي المنتصر الحقيقي، تلك الحالة محكومة بهذه المعادلة: نتنياهو فاشل، والمقاومة لم تحقق انتصاراً كاملاً، أو انتصارها مدار نقاش وتأويل كأنها حققت إنجازاً على أسوأ إدارة، نتنياهو مدير تنفيذي جيّد، المقاومة هزمت أفضل ما عندهم!

لمحة تاريخيّة موجزة 

عام 1996، تم اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي الجنرال إسحاق رابين على يدّ يميني يمني محرازي يدعى يجآل عامير، ذلك على خلفية توقيعه "اتفاقية أوسلو" وجنوحه نحو السلام كمنهجيّة اعتمدها أثناء توليه منصبه. وسط صخب وتحريض كبيرين على المستويين الديني والسياسي، واللافت أن «نتنياهو» كان أكثر المحرضين.

هذا الاغتيال لم يكن فعلاً تداعياته فردية وإفرازاته محدودة فقط، بل كُرِّس كقانون سمّي بـ "قانون عامير" مفاده أن من يريد السلام سيكون مصيره كـ«رابين».

الراصد للحركة السياسيّة، بعد الاغتيال، يرى أن المجتمع السياسي الإسرائيلي تحوّل تدريجياً إلى مجتمع "ليكودي" أو يميني بأشكاله كافة، المتطرّف منها أخذ الحيّز الأكبر، اليمين اليوم خلافه تكتيكي وليس استراتيجياً.

"السلام" الذي سعى له ذاك اليساري المُغتال لم يعد محط نقاش، حتى "اتفاق أوسلو" – السبب - لم يكن مقبولاً، وحينها قال عنه آرييل شارون "إنه لا يساوي الحبر الذي كتب به" حتى السواد الأعظم من القادة والفصائل الفلسطينيّة والقيادات العربيّة المقاومة لم تعترف به ولا بمدرجاته، فقال فيه الرئيس الراحل حافظ الأسد "إن كل بندٍ في هذا الاتفاق بحاجة إلى اتفاق"، باعتباره تسليماً وتفريطاً بالأراضي التاريخية الفلسطينيّة من أجل السلطة، التي إذا ما نظرنا إليها اليوم لا تعدّ كذلك، ولا في الحد الأدنى منها كتعريف للسلطة، فضلاً عن الجانب الإسرائيلي لم يلتزم بأي بند من هذه الاتفاقية حتى اليوم.

"خلاصة اللمحة التاريخية الموجزة أننا أمام مجتمع سياسي يميني، بدأ حكمه منذ العام 1996 وتطوّر يمينياً حتى يومنا هذا ليصبح بهذا الشكل" 

التركيبة البنيويّة السلطوية للكيان الإسرائيلي

"إسرائيل" كيان استيطاني إحلالي، لكنّ "إحلاليته" لو فُسّرت على نحوها السليم بعيداً من خطورة مشروعه المعلن البعيد المدى، لكانت ربما غيّرت كثيراً من المبادرات والسعي لإرساء سلام مستحيل معها أو اتفاقيات، لأن أهم فرق بين مصطلحي الاحتلال والإحلال هو، أن الأول" يعني السيطرة على الأرض والناس للسيطرة على الموارد الاقتصادية" فيما يعني الثاني "السيطرة على الأرض من دون الناس بنفيهم بالقتل، أو التهجير خارج أرضهم أو داخلها" وهذا ما تفعله "إسرائيل" بالضبط. 

لذلك، جوهر العلاقة في ظل الاحتلال هو الاستغلال الاقتصادي الوطني، أما في ظل الإحلال فجوهره تناحري يقوم على نفي الآخر والحل مكانه. إن أهم نتيجة للتحديد السابق هي أن التناقضين في ظل الإحلال والاحتلال مختلفان من حيث حدتهما وطبيعتهما وأسس حلهما.

نتيجة سوء الفهم هذا، تضعنا أمام أزمة المصطلحات التي لا تقل أهمية عن أي أزمة أخرى نواجهها في المشروع التحريري والتحرري، لأنه يترتب عليها تحديد المفاهيم كمسألة ضرورية لضبط العملية الفكرية وتنظيم آليات المواجهة، وتحليل الفكر الاجتماعي وتأطيره في سياق منهجي بعيد من الفوضى والشتات الذهني الذي دأب الإعلام وسردياته على تعزيزه كجزء أساسي من مقاربة ناجعة لاستمراريته.

إذاً، هذه هي اللبنة الأولى من التركيبة الفكرية والبنيوية لهذا الكيان، وهذا يترتب عليه الكثير من المقومات أهمها:

-جيش قوي قادر على مواجهة كل التهديدات المحتملة وغير المحتملة، وأن تكون جاهزيته عالية واستخباراته متفوقة في شتى المجالات، وقوة ردع عالية وقدرة عسكرية خاطفة وسريعة لإجهاض أي خطر.

-بناء مؤسسات سياسيّة متينة، وأحزاب سياسيّة ذات أهداف موحدة في المضمون والاستراتيجية، مختلفة في التقديم. وبما أننا نتكلم عن "إسرائيل" فلا نستطيع إغفال "الدور الوظيفي" الصهيوني لها، الذي لا يسمح لها بارتكاب أخطاء تمس المصالح الكولونيالية للدول الداعمة لها على أساسها "الإحلالي"، وبالتالي هوامش الكيان ضئيلة كإدارة وخطيرة كـ "دولة" وديمومتها.

هذا الكيان عموده الفقري المستوطن الآتي من شتى بقاع الأرض، وهو المُشَكِّل للبنيّة الاجتماعية الكاملة لأي تركيبة دولة بنظام متكامل جامع لكل اختصاصاتها، لكن هذا الكيان الإحلالي يختلف عن بقية الكيانات الاستيطانية لتركيبته البنيوية المعقدة وتشعباتها الإثنية والعرقية والديموغرافية، سيما أن ترف العيش في هذه البقعة المحتلة (فلسطين) بُني على وعود بـ"دولة" لا يستطيع أحد كسرها، جذبت المهاجرين لها على هذا الأساس، سيما بعد أن أصبحت في سبعينيات القرن المنصرم جزءاً حيوياً من تركيبة النظام العالمي ومصالحه، والذي أفرزته نتائج الحرب العالمية الثانيّة. 

الإدارة

في كيان كـ "إسرائيل" الإدارة ليست ذات أهميّة قصوى، ما دامت تلتزم بجوهر بنود التركيبة البنيوية والتزاماتها تجاه صانعيها، وبالتالي التزامهم بدعمها، علماً أن نشأتها الدموية كانت مشجعة للاستثمار بها أكثر فأكثر "ما دامت تحقق المطلوب".

ذهنية أو عقلية مديري هذا الكيان لا تهم كثيراً أو كما يُصَوّر، مهما تبدلت أسماؤهم أو خلفياتهم الأيديولوجية السياسية، فهذا لن يُغيّر في الدور الوظيفي لهم ولا في عقيدة "جيشهم" القتاليّة وعديده وعتاده ومستوى تدريبه وتفوقه الجوي والتكنولوجي، ولا في تأمين الأمن والأمان لحجر زاوية كيانهم المؤقت (المستوطن) ما دام غيرُه يُقتل وهو بمأمن وأعماله تسير وتجارته مربحة وكل التسهيلات بين يديّه.

إذاً، ما الذي حصل؟

عام 1948، أعلن الكيان "دولته" على أرض فلسطين بكامل الثقة بالنفس والمقدرة والقوّة، غير آبه لا بجعجعة العرب ولا بسكان البلد الأصليين، فهو مدعوم غربياً وبنيته قوية وتفوّقه لا يقارن، أمام أشباه دوّل لم تمتلك لا المقدرة ولا النيّة الخالصة ولا الثقة بالنفس، وكان حكامها يركزون على الداعمين أكثر من المدعومين، وعلى المحافظة على كراسيهم أكثر من تحرير أراضيهم، منهم من تَجرّأ وخاض حروباً مع الكيان المستحدث ومنهم من آمن بالواقعيّة الميكيافيليّة، لكن توازنات القوى كانت غير متكافئة والنيّات سابقة للأفعال والـ"أنا" قبل الـ"نحن".

هنا، على أنقاض عجز الدوّل ولدت مقاومات شعبيّة، أخذت بالتطور والصلابة والتنظيم في المواجهة، ذات أهداف محددة ورؤية واضحة، لاقت دعم الصادقين في الصراع مع العدو ومن خلفه من أطماع وجبروت، هذا لم يكن في حسبان الكيان الغاصب بعد سلسلة حروب زادت من عنجهيته، إذ بدأ التحوّل المحوري وبدأ ضرب الإدارة والتركيبة في آن معاً، أهمّها كان أن "جيشهم الذي لا يُقهر" أُثبت أنه وهِن من دون عقيدة، هنا لا يوجد إدارة تستطيع تقبل هزيمة ولا تركيبة تستطيع الفرار من اللا أمن ولا أمان.

إن ما كان سيجعل نتنياهو يختلف عن لابيد فيما حصل ذات سابع من ذاك تشرين، أثبت أنّ مرتكزات "دولة – إسرائيل" في مهب الريح، وأي فعل بعد فجر ذاك اليوم هو هزيمة، كان ربما لابيد سيُعَجلها بعد أن أجّلها نتنياهو ولا يزال.