خطة أميركا والجغرافيا العكسية

قبيل "طوفان الأقصى"، كانت أميركا و"إسرائيل" أنهت مناورات "اللكمة القاضية" التي تحاكي حرباً متعددة الجبهات، وعززتها بإطلاق قطار التطبيع نحو السعودية، وفي هذه الحالات دليل على بدء تنفيذ خطة الشرق الأوسط الجديد بتسارع.

  • طوفان الأقصى والدور الأميركي.
    طوفان الأقصى والدور الأميركي.

بالتبريد الإعلامي والحراك الوهمي السياسي والتصعيد الميداني تدير أميركا خطتها في المنطقة، والتي تحدث عنها نتنياهو علناً وهي "الشرق الأوسط الجديد"، وتتمثل في عزل ساحات وعلاج منفصل وحصر للطاقات وإنعاش لمشاريع وضعت على رف الماسونية العالمية لعقود طويلة تنتظر فيها رفع درجة "إسرائيل" سياسياً وجغرافياً.

الخطة منذ سنوات تحدث عنها قادة "إسرائيل" وأميركا وعمادها مبني على التطبيع الذي سيكون غلاف الخطة الرامية إلى تغيير معالم فلسطين مرة أخرى، بالإضافة إلى لبنان وسوريا ومصر والأردن، وهي ضرورة ملحّة للسيطرة وإعادة التشكيل التي ربطها نتنياهو بالتحالف الإبراهيمي وقيادة المنطقة، وربطها ترامب بتوسيع "إسرائيل"، وربطها بايدن بالوجودية وقال "لو لم توجد إسرائيل لكنا سنخلقها في المنطقة"، فجمعوا بين السياسة والجغرافيا والأمن.

وهنا، وقبيل "طوفان الأقصى"، كانت أميركا و"إسرائيل" أنهت مناورات "اللكمة القاضية" التي تحاكي حرباً متعددة الجبهات، وعززتها بإطلاق قطار التطبيع نحو السعودية، وفي هذه الحالات دليل على بدء تنفيذ خطة الشرق الأوسط الجديد بتسارع، وكان الآتي:

استفراد أميركا بدور الوسيط "التبريد الإعلامي" في إحراق غزة من قبل "إسرائيل"، واستخدام الأنظمة العربية على شكل إطفائيات بدور وسيط تارة، وغاضب خطابياً تارة أخرى، وإخماد مباشر لجامعة الدول العربية حتى يتسنى شراء الوقت الكافي لصالح "إسرائيل" التي تتلقى كل الدعم العسكري والڤيتو لتنفيذ المهمة في الخطة الأميركية.

⁠أميركا و"إسرائيل" منذ اليوم الأول تسعيان لعزل الساحات، كي يتم تفكيك المنظومة المقاومة وتسهيل مهمة الدخول إلى كل ساحة تحت حجة وغطاء إعلامي مناسب، وذلك في إطار الأسلحة المعنوية مثل (غزة والضفة، والانقسام، وتهور المقاومة، وقادة الفنادق، وسنة وشيعة)، وتعزيز مفهوم وهمي هو الأمن القومي للدولة العربية الفلانية لإخضاع الجمهور وترهيبه، وتفعيل رواية التمدد الشيعي لجعل الناس تخاف الطائفية وتضعف المواجهة، وتصوير حماس أنها استغفلتها إيران، وهذا كله في ماكينة إعلامية ضخمة ضخت بمنهجية لمنع الانزلاق وتعزيز التبريد الإعلامي، بينما على الأرض تعزيز عسكري واستخباري وأمني لإنجاح الخطة.

الأميركي والإسرائيلي منذ اليوم الأول كان هدفهما التخلص عسكرياً من البقعة الأخطر جغرافياً على المخطط وهي غزة ولبنان، حتى يتم تقليم مركزي لأعضاء المحور، وذلك لأن الخطر الميداني بتقارب الجغرافيا كبير، ولا يقارن بالمواجهة خارج الحدود وغلاف الأمن كما المواجهة مع إيران والعراق واليمن، وبالتالي السعي الحثيث للتخلص من الأخطر جغرافياً ليتم استكمال المخطط بروية ونجاح، وصولاً إلى "ناتو" عربي شرق أوسط جديد في إطار التحالف الإبراهيمي ليحلّ مكان جامعة الدول العربية جامعة دول الشرق الأوسط وتكون "إسرائيل" درة تاجها، وكذلك مسح فلسطين عملياً عن الخريطة بعد أن مهد إعلام العرب مسحها نفسياً عن الخريطة المعروضة على شاشاته، وهذا ما يعرف لدى "إسرائيل" بدولة اليهود والمستوطنات.

⁠وعلى ذلك، فإن إيران تحاول أن تبقي على كنز استراتيجي "حزب الله" مشاغلاً لا منخرطاً في حرب واسعة؛ لتبقى أوراق القوة مع المحور وجغرافيا قريبة من الحدود تعطيه مزيداً من القوة والإسناد والتحذير للأميركي والإسرائيلي، ولكن هذا ما لا تريده "إسرائيل"، إذ تهدف خطتها إلى التخلص من غزة ولبنان قبل الانتقال إلى الجغرافيا الأبعد التي تصبح فيها "إسرائيل" تقاتل بعيداً من مدنها وحدودها كما أميركا في العراق وأفغانستان، وهذا يتطلب إنهاء ملف لبنان وغزة.

التطورات تشير إلى إصرار إسرائيلي على التعامل مع لبنان قبل فتح جبهة مع جغرافيا بعيدة، وهذا ما لا يمكن أن يقبله محور المقاومة لمعرفته أن الترتيب ماض كما خطة أميركا، وأن الانتظار سيفقد المحور الجغرافيا العسكرية الثمينة، خاصة أن أميركا تزيد من تبريدها الإعلامي وتوهم العالم أنها تسعى لإعادة سكان الجنوب اللبناني ومستوطنات الشمال إلى ديارهم، وذلك في تصريحات جديدة تعزز أيضاً انتقال الثقل الأميركي في التبريد إلى الشمال لتنفيذ الخطة التي توّجتها بسحب حاملات طائرات من المتوسط في إشارة شكلية أنها لا ترغب في التصعيد مع أنها دلالة قوية على ترك "إسرائيل" تنفذ الشق الثاني من الخطة بهدوء مع كامل الدعم، وأن وجود أميركا فقط سيكون إذا تدخل أحد أو توسعت المواجهة.

"لا نرغب في توسيع المواجهة".. تلك الخديعة التي تستمر أميركا فيها لتغطية الحدث وتفكيك المشهد ليكون بمقاساتها، فأدوات الوساطة بيدها وليست دولية، والدعم العسكري والسياسي مستمر، والأهم أن الأنظمة العربية لديها رغبة جامحة في تطبيق المخطط ما يمنع أي أمل للشعوب بالتحرر، ولا يوجد تواصل معنوي ونفسي ومجتمعي وسيادي وتحرري بين المقاومة والشعوب من جهة أو بين الشعوب ذاتها من جهة، وجعل "إسرائيل" متربعة على عرش المنطقة مصلحة مشتركة لكل نظام استبدادي.

هذه الخطة وهذه تفاصيلها، وأول فصولها غزة ولبنان، فإن تماشى المحور مع المقاسات النفسية والمعنوية والإعلامية التي وضعها الأميركي، فإن الخطة ماضية في نجاحها، وإن ذهب المحور بزاوية أخرى للتعامل مع المشهد والتصدي لهذه المقاسات الخبيثة، فإن الخطة ستنقلب سلباً على واضعها لأن الكنز الاستراتيجي للتخلص من هيمنة الأميركي وتعزيز الإسرائيلي في المنطقة يكمن في حق الفلسطينيين ومقاومتهم وحدود العرب وسيادتهم، وهذه حتى اللحظة عقبة صعبة أمام الخطة إذا أعاد المحور ترتيب الأوراق وبادر الأبعد جغرافياً إلى قلب الطاولة للحفاظ على الكنز الأقرب حدودياً، والذي يستطيع أن يحسم معركة مفتوحة مع جبهات لا معركة منفصلة هيّأت لها أميركا تبريداً إعلامياً لتتمّ الإبادة وتنجح الخطة.

خلاصة، تسارع تطبيق الخطة يصنع مخاطر لنجاحها إذا غيرت الجبهات من سياستها وقلبت الطاولة على المسرحية الأميركية التخديرية الراسمة لشرق أوسط جديد من دون مقاومة، وهذه المعالم من نجاح المقاومة يكتبها الميدان في قادم الساعات والأيام؛ حيث التراكمية التي أدخلت الاحتلال في استنزاف، وحيث الساعة التي ما زالت بتوقيت المقاومة، وأضيف هنا أولويات الجغرافيا العكسية التي ستكون خطة المحور القادمة لمنع الأميركي من تغيير التوقيت وضبطه بساعة الشرق الأوسط الجديد "نسخة نتنياهو".