بين"La Marseillaise"  و"سلام يا مهدي"

"سلام فرمانده" أيضاً ليس نشيداً عابراً في لحظة عابرة، وهو ليس بالتأكيد نشيداً دينياً خالصاً بلا مدلولات سياسية، ولعل الأصح قراءته كمشروع سياسي قبل أن يكون إنشاداً دينياً.

  • بين
    بين"La Marseillaise"  و"سلام يا مهدي"

هدأت الأصوات، وخفتت الأبواق، وصار الوقت سانحاً للحديث بلا كفوف أو أقنعة، فلم يكن الاعتراض "الثقافي" العالي اللهجة والموتور، إذا كان لهذه الكلمة أن تُقرن يوماً بالثقافة، على نشيد "سلام فرمانده" حدثاً عابراً، وهو ليس انفعالياً حكماً، ذلك أنه يذهب بعيداً في النوستالجيا اللبنانية الطائفية الأحادية، ويعكس أكثر ما يعكس هواجسها، ليس من وجهة لبنان السياسية الراهنة التي لم تنسجم معها بعد هذه الأحادية، بل أيضاً من قدرة الأخيرة على العيش ضمن هوية ثقافية ودينية تعددية حقيقية بدلاً من تلك الموهومة التي روجت لها منذ قرن من الزمن يوم نشأتها الفرنسية -ومن أجلها- وأرادت من خلالها أول ما أرادت إلغاء الهوية المشرقية لهذه الأرض وثقافتها، وحتى معاداتها مع محيطها، وبفوقية عنصرية في أحيان كثيرة.

"سلام فرمانده" أيضاً ليس نشيداً عابراً في لحظة عابرة، وهو ليس بالتأكيد نشيداً دينياً خالصاً بلا مدلولات سياسية، ولعل الأصح قراءته كمشروع سياسي قبل أن يكون إنشاداً دينياً، فعند الطائفة الشيعية لم يعد الانكفاء عن دولة هذا الزمان ممهداً لظهور "الإمام صاحب الزمان" الذي يُناجيه النشيد، بل العكس من ذلك تماماً، وهذا كان أبرز الإسهامات العقائدية للثورة الإسلامية في إيران التي يجيء النشيد من أرضها، ولكن ليس في زمن شاهها (حليف الغرب)، وإلا كان الأمر مختلفاً تماماً، ولم يكن لتُثار حوله كل هذه الحساسية. 

لذلك، هذه الفاعليات الإنشادية التي عبرت الجغرافيا اللبنانية جاءت لتعبّر عن هُوية طائفة لم تعد ملحقة، لا بل هي في ذروة صعودها وديناميتها، ومن حقّها فعلاً لا قولاً أن تُغني التعددية اللبنانية بعناصر ثقافتها، وتشارك فيها بمشروعها السياسي الذي صاغته بتضحيات جسام على مدى عقود من مقارعة التهميش والاحتلال والاستغلال.

وإذا كانت هناك سمة أخرى لهذا المشروع، فهي مشرقيته الخالصة بعناصرها الدينية وغير الدينية، والتي ما كانت دعوى الانفتاح والتعددية التي تبناها الغرب وأسس لها في الكيانات الدولتية الاستعمارية التي أنشأها ومشاريعها السياسية، إلا لإلغاء المساهمة الحضارية لهذه المشرقية بعد هزيمة كياناتها السياسية منذ القرن التاسع عشر. 

إنّ العقل الغربي لم يحكمه في تعامله مع الشرق أكثر ما تحكّمت فيه عقدة النقص من هذا الأخير منذ لم تكن الحضارة إلا مشرقية. وهنا، لا بد أن نسارع إلى القول، منعاً لأي تأويل طائفي، إن المشرقية -التي يجيء منها النشيد ومدلولاته السياسية- ليست أبداً دعوة إسلامية، إنما هي سابقة للإسلام ومتعدية له، والمسيحية مشرقية، والمارونية منها تحديداً لم تُوجد إلا في الشرق. وقد شكَّل التحاقها المتدرج منذ عدة قرون بالكنسية الغربية أول إرهاصات تشكيلها السياسي في المشروع الاستعماري الغربي.

لذلك، وبعيداً عن أجواء المنازلة والصراع السطحي المأجور على الهوية التي يشيعها بعض الموتورين المفلسين سياسياً وأخلاقياً والملتحقين كمرتزقة بأي مشروع خارجي، إن الفاعليات الإنشادية يجب أن تشكل مناسبة لحوار ثقافي يحفظ للبنان هوية تعددية حقيقية أصيلة ومنفتحة، ولمراجعات ثقافية وسياسية على مستوى كلّ من طوائفه المختلفة، تتيح لكلّ منها إعادة صياغة مشروعها السياسي بما ينسجم مع هويتها التاريخية وتطلعاتها.

بالعودة إلى الاعتراضات التي أطلقت، فإنها لا تستحق، ولا يستحق مطلقوها بطبيعة الحال، أي رد أو تعليق لن يكون من شأنه إلا أن يزيد من انتفاخات هؤلاء المرضية وأسعارهم السوقية في زمن التضخم النقدي، ولكن ذلك لا يمنعني من إبداء رأيي، وبمعزل عن كل هؤلاء طبعاً، في أن نشيد "سلام يا مهدي"، كما أصبح معروفاً بنسخته اللبنانية، جاء ليعرّي مرة أخرى كذبة العيش المشترك، ومعه كذبة الحريات والتعددية، وفوق هذه جميعاً عنصرية وتخلف "اللبنانيين الوحيدين"، أولئك الذين نصبوا أنفسهم، ولا يزالون، حراساً لـ"الهوية اللبنانية" التي لا تخدم إلا مشروع استئثارهم بالسلطة والثروة من ضمن منظومة زبائنية محلية ودولية.

وأسأل هنا عن ماهية هذه "الهوية اللبنانية" ومن يحددها أو يتكلم باسمها، وما الذي نُجمع عليه بصفتنا لبنانيين كقواسم مشتركة تتشكل منها هذه الهوية، ومن يقرر ذلك. هل علينا أن نكتفي دائماً بما جاء في كتب التاريخ المدرسية عن الطربوش والطرطور، حتى وإن لم نعد نرى الطربوش، ولم يتسنَ لأيِّ منا أيضاً رؤية هذا الطرطور على رأس نسائنا في أي من قرانا ومدننا؟ وما موقع بنطلون الجينز مع الشروال والعلاقة السببية بينهما في إطار تطور الهوية الثقافية؟ وهل تأتي طاولة الزهر مع الطربوش والطرطور، علماً أنها أيضاً ليست اختراعاً لبنانياً، إنما جزء حميم من عادات أهل البلاد الشرقية؟ وما أصول هذه الهوية ومدارات تفاعلها؟

وفي هذا السياق، أسأل أيضاً: هل الحساسية من "سلام يا مهدي" تأتي بشكل خاص من مصدره؟ لو كان مصدره أميركياً أو فرنسياً على سبيل المثال، هل سيكون موائماً للهوية اللبنانية؟ ومن يقرر هذه المواءمة ويعطي شهادات ضمان الجودة الثقافية وشهادات المنشأ الحضارية والتراخيص القانونية بـ"الاستيراد"؟ 

واستطراداً، كعمل فني، لماذا لم تُثر أغنية "GanGnam Style" الكورية على نسق الموسيقى الأميركية وغيرها الكثير اعتراض هؤلاء، ووجدوها مناسبة للثقافة اللبنانية والذوق الفني اللبناني؟ هل تشبه ناي الراعي والرومانسية المُتَخيلة للعزف قرب العين؟ أسئلة لا تنتهي. طبعاً، لا أنتظر عليها إجابة من أولئك "المعترضين"، وإن كان لها فقط أن تكشف تفاهتهم وتهافتهم.

ختاماً، لقد وضعنا "سلام يا مهدي" أيضاً أمام واقعنا الذي يقول دائماً إنك ما دمت مختلفاً، فليس مرغوباً فيك، وما دمت مختلفاً وقوياً ومقاوماً، فليس مرغوباً فيك أبداً، وكذلك ما دمت مختلفاً وقوياً ومقاوماً ومشرقياً، فلا شك في أنه ليس مرغوباً فيك، وأنك ستحارَب أيضاً. اختلافك مرغوب فيه فقط ما دمت ضعيفاً منصاعاً مسلوب الإرادة والمبادرة ومعدوم الرؤية، وهذا وحده لزوم رواية "التعددية" تلك، وليس عليك، وليس لك، إلا أن تُنشد فقط "Marseillaise La ".