فن إدارة الخلافات

المفاوضات ليست مجرد وسيلة لحل الخلافات، بل هي بوابة لصناعة السلام، وتحقيق العدالة، وبناء مستقبل أكثر إشراقًا.

  • يعد ميثاق الأمم المتحدة المرجعية الأساسية في تنظيم العلاقات الدولية.
    يعد ميثاق الأمم المتحدة المرجعية الأساسية في تنظيم العلاقات الدولية.

المفاوضات ليست مجرد تبادل كلمات، بل هي علم وفن يتقاطع فيه القانون الدولي، علم النفس السياسي، والدبلوماسية. إنها وسيلة حضارية لحل النزاعات وتحقيق المصالح المشتركة دون اللجوء إلى العنف أو التصعيد. في عالم تتشابك فيه المصالح وتتعدد فيه الأزمات، تصبح المفاوضات أداة لا غنى عنها لصناعة السلام والاستقرار.

يُعد ميثاق الأمم المتحدة المرجعية الأساسية في تنظيم العلاقات الدولية وحل النزاعات. وتنص المادة 33 من الميثاق على أن: "يجب على أطراف أي نزاع من شأنه أن يُعرض السلم الدولي للخطر أن يلتمسوا حله، بادئ ذي بدء، عن طريق المفاوضة، أو التحقيق، أو الوساطة، أو التوفيق، أو التحكيم، أو التسوية القضائية، أو اللجوء إلى الوكالات أو التنظيمات الإقليمية، أو غير ذلك من الوسائل السلمية."

كما تحظر المادة 2 الفقرة 4 استخدام القوة أو التهديد بها في العلاقات الدولية، إلا في حالات الدفاع المشروع أو بتفويض من مجلس الأمن. هذه النصوص تمنح المفاوضات شرعية قانونية وتؤكد على ضرورة الالتزام بالحلول السلمية.

من أبرز المفاوضات التاريخية:

- معاهدة قادش بين المصريين والحثيين عام 1259 ق.م، أول اتفاقية سلام مكتوبة.

- كامب ديفيد 1978 بين مصر وكيان الاحتلال الإسرائيلي.

- اتفاق دايتون 1995 لإنهاء الحرب في البوسنة.

أما في لبنان، فقد شهدت البلاد مفاوضات محورية أبرزها:

- اتفاق الطائف عام 1989، الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية.

- القرار 1701 عام 2006، الذي أوقف الحرب بين إسرائيل ولبنان.

- مفاوضات ترسيم الحدود البحرية مع كيان الاحتلال عام 2022

في أعقاب حرب تموز 2006، لعب رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري دورًا محوريًا في إنجاز القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي، والذي نصّ على وقف الأعمال القتالية، انسحاب القوات الإسرائيلية، ونشر الجيش اللبناني بالتعاون مع قوات اليونيفيل في الجنوب.

بري قاد المفاوضات من موقعه السياسي، مستفيدًا من شبكة علاقاته الدولية وخبرته السياسية وقوة تأثيره الداخلية و ثقة الشعب اللبناني به، ونجح في فرض وجهة النظر اللبنانية التي تمسكت بتطبيق القرار كما هو، دون أي إضافات أو تعديلات. وقد وصفه كثيرون بأنه "مهندس المفاوضات" و"مدرسة في التفاوض"، نظرًا لقدرته على إدارة الحوار في أصعب الظروف، وحرصه على وحدة الموقف اللبناني.

علم النفس السياسي يبرز أهمية فهم دوافع الأطراف، بناء الثقة، وتقدير ردود الفعل. المفاوض الناجح لا يكتفي بالمعرفة القانونية، بل يتقن فن الإصغاء، قراءة لغة الجسد، وتحديد اللحظة المناسبة للتنازل أو التصعيد.
أما على المستوى الشعبي، فإن دعم المواطنين للمفاوضات عبر الوعي، الصبر، والمشاركة المدنية الإيجابية، يُعزز موقف الدولة ويُسهم في نجاح العملية التفاوضية.

المفاوضات ليست مجرد وسيلة لحل الخلافات، بل هي بوابة لصناعة السلام، وتحقيق العدالة، وبناء مستقبل أكثر إشراقًا. من خلال الالتزام بالقانون الدولي، وتوظيف الدبلوماسية بحكمة، يمكن تحويل النزاعات إلى فرص للتقدم. وتجربة الرئيس نبيه بري في القرار 1701 تُعد نموذجًا يُدرّس في فن إدارة الخلافات، حيث تتجلى فيه القيادة، الحنكة، والقدرة على تحويل الأزمة إلى إنجاز وطني، واستثمار القدرات وتحويلها إلى فرص.