"إسرائيل" ونبوءة حنّة أرندت: هل يرتد التوحّش إلى الداخل؟
الممارسات اللاأخلاقية والخارجة عن القانون التي طُوِّرت في المستعمرات "ارتدّت" عائدة إلى أوروبا، مما قوَّض الأسس الأخلاقية للدولة القومية ومَهَّد الأرض لنُظم الحكم التوتاليتارية في القرن العشرين.
-
ممارسات التوحّش لا تبقى محصورة في الخارج!
في كتابها "أصول التوتاليتارية" (The Origins of Totalitarianism) عام 1951، حدّدت حنّة أرندت جذور العنف التوتاليتاري الحديث لا في انفجار مفاجئ للشرّ، بل في التاريخ الطويل للتوسّع الإمبريالي الأوروبي.
وجادلت أرندت بأنّ الممارسات اللاأخلاقية والخارجة عن القانون التي طُوِّرت في المستعمرات "ارتدّت" عائدة إلى أوروبا، مما قوَّض الأسس الأخلاقية للدولة القومية ومَهَّد الأرض لنُظم الحكم التوتاليتارية في القرن العشرين، ومنها النازية والفاشية.
ترى أرندت أنّ المستعمرات كانت بمثابة "مختبر" تعلّمت فيه الدول المستعمرة إدارة التجمّعات السكانية عبر وسائل تخرج عن نطاق المجال السياسي التقليدي المقيَّد بالقانون. وقد أنتج ذلك عقلية ومجموعة من المؤسسات هدّدت في نهاية المطاف الأسس السياسية للدولة المركزية نفسها.
تشير أرندت إلى أنّ الإمبراطوريات الأوروبية حكمت المستعمرات بالحديد والنار، ومن دون منحها حقوقاً وجرّدتها من إنسانيتها وتعاملت معها كـ"حيوانات بشرية" لتبرير قتلها والتوحّش ضدّها. لذلك عندما عادت تلك الآليات والذهنيات إلى أوروبا، قوّضتها من الداخل ومورست التوتاليتارية داخل الدول المستعمرة نفسها.
أولاً: الآليات الأساسية لـ "الارتداد الإمبريالي"
حدّدت أرندت أربع آليات يعزّز بعضها بعضاً، تسمح بتحوّل الحكم الإمبريالي في الخارج إلى حكم توتاليتاري في الداخل.
أ- العنصرية
يتطلّب الغزو الإمبريالي أيديولوجيا تقسم البشرية إلى أعراق أعلى وأدنى. بمجرّد ترسيخها في المستعمرات، عادت هذه النظرة للعالم إلى أوروبا، وشكّلت أساساً لأفكار تحسين النسل، والتطهير القومي.
ب- العنف والحكم خارج القانون
في المستعمرات، حكم المستعمرون عبر القوة وفرض الأمر الواقع، من دون قيود قانونية. وقد طَبَّعت هذه الممارسات، فكرة أنّ المسؤولين يمكنهم التصرّف خارج النظام القانوني باسم "الضرورة". حذّرت أرندت من أنّ هذه الممارسات كانت جنين البيروقراطية التوتاليتارية.
ج- إنتاج الأشخاص "الفائضين" (Superfluous People)
أنتجت الإمبراطورية تجمّعات سكانية مجرّدة من الحقوق: العبيد، والمُرحَّلون، والسكان الأصليين الذين بقوا خارج المواطنية. هذه الفئة من "الفائضين" باتوا مواطنين درجة ثانية، وتمّ تصويرهم كأعداء داخليين. بالنسبة لأرندت، بمجرّد أن تخلق الدولة كائنات بشرية "فائضة قانونياً"، تصبح الإبادة والتوحّش ضدّهم أمراً مقبولاً.
د- التوسّع كمبدأ دائم
حطّمت الإمبريالية حدود الدولة بتحويل الغزو إلى غاية في حدّ ذاته. تقول حنة أرندت إنه عندما تصبح السياسة توسّعاً من أجل التوسّع، لا يمكن للدولة أن تستقرّ بعد ذلك؛ بل تتطلّب تعبئة مستمرة وتصنيعاً للأعداء (خلق العدو بشكل دائم من أجل الاستمرار).
ثانياً- مسار الارتداد: الداخل الإسرائيلي
إذا نظرنا الى الممارسات الإسرائيلية في فلسطين، نجد أنّ الشروط أعلاه، التي حدّدتها أردنت جميعها متوفرة، وعليه إنّ تطبيق نظرية الارتداد الإمبريالي على السياق الإسرائيلي-الفلسطيني يشي بعملية "ارتداد" مستقبلية داخل "إسرائيل" نفسها. ونجد ذلك على أساس ما يلي:
- العنصرية والتجريد من الإنسانية كسياسة رسمية
خلال حرب الإبادة في غزة، قام الإسرائيليون قولاً وفعلاً بتجريد الفلسطينيين من إنسانيتهم وذلك عبر الإبادة والانتهاكات وقتل المدنيين، والخطابات التي تصف الفلسطينيين بـ "الحيوانات البشرية" أو تشير إلى الصراع باعتباره معركة ضدّ "أطفال الظلام" (التعبيرات التوراتية) وهذا يتوافق تماماً مع الوظيفة الأيديولوجية للتجريد من الإنسانية في السياقات الاستعمارية: وهي جعل العنف الجماعي مقبولاً أخلاقياً وسياسياً.
- عنف المستوطنين من اليمين المتطرّف الخارج عن السيطرة
إنّ تصرّفات المستوطنين من اليمين المتطرّف في الضفة الغربية هي تجسيد ملموس لحكم الاستعمار الخارج عن القانون. شهدت فترة ما بعد غزة تصعيداً موثّقاً في عنف المستوطنين، غالباً بتواطؤ وحماية قوات الأمن الإسرائيلية التي يسيطر عليها بن غفير.
وقد أرسى قانون يهودية الدولة عام 2018، تمييزاً مؤسساتياً وجعل العرب داخل "إسرائيل" مواطنين من الدرجة الثانية. هذا النموذج من "الخروج على القانون"، حيث مجموعة واحدة تتمتّع بالاستثناء القانوني والأخرى مجرّدة من الحقوق، يؤكّد نظرية "الارتداد" بشكل فعّال.
- خصخصة عنف الدولة:
إنّ تسليح وتمكين فرق المستوطنين المتطرّفين، وتوزيع آلاف البنادق العسكرية، يطمس الخط الفاصل بين قوات الأمن الرسمية والمستوطنين ذوي الدوافع الأيديولوجية، وهي ممارسة حذّرت أرندت من أنها ستقوّض حتماً الدولة الحاكمة، خاصة عندما يرتدّ هؤلاء إلى تهديد المواطنين اليهود الذين يختلفون عنهم فكرياً وأيديولوجياً لممارسة التوحّش ضدّهم.
- إفساد المعايير الديمقراطية الداخلية
إنّ التخوّف الأكبر الذي عبّرت عنه أرندت هو التحوّل داخل المجتمع الحاكم نفسه. في "إسرائيل"، تسعى قوى اليمين إلى تقويض استقلال القضاء والمجتمع المدني، وهما مؤسستان يُنظر إليهما تقليدياً على أنهما ضمانة للديمقراطية في أيّ بلد.
- التوسّع كسياسة دائمة
إنّ السعي للتوسّع على حساب الدول الأخرى، وقول نتنياهو إنه في مهمّة روحية وتاريخية لتأسيس "إسرائيل الكبرى"، يشير إلى أنّ الرغبة بالتوسّع والسيطرة والاحتلال باتت غايات بحدّ ذاتها.
في الخلاصة، تشكّل هذه العناصر مساراً مستقبلياً لما تسمّيه أرندت "الارتداد الإمبريالي" إلى "إسرائيل" نفسها. إنّ ممارسات التوحّش لا تبقى محصورة في الخارج، بل تعود لتسمّم الحياة السياسية "للدولة المركزية" نفسها، وهكذا عندما يتسامح الإسرائيليون (أو يهلّلون) للإبادة والتوحّش الممارس في الخارج، فإنهم يهيّئون أنفسهم لقبوله في الداخل. وتحذّر حنة أرندت: بمجرّد أن تقبل دولة ما مبدأ إمكانية حكم "بعض الكائنات البشرية" خارج نطاق القانون، فإنها تستورد الاستثناء الاستعماري إلى داخلها.