قطاع غزة.. انتصار رغم المعاناة

المقاومة هي دين الشعب الفلسطيني، فعلى مدى نحو ثمانية عقود لم تنطفئ نار المقاومة لديهم، وبالتالي فكرة القضاء على حماس هي فكرة مراهقين في السياسة والعسكرة.

  • غزة المنكوبة.
    غزة المنكوبة.

دخلنا في الأسبوع الثالث من عملية "طوفان الأقصى" وردّ كِيان الاحتلال الإسرائيلي الهستيري والإجرامي عليها، وقبل أن نسهب في هذا الملف، علينا أن نسأل أنفسنا هل يحق لكِيان الاحتلال الرد؟ وهل هو في موقع الضحية أم المعتدى عليه؟ علينا تأكيد نقطة وهي أن الفلسطينيين هم الضحية الحقيقية، وخصوصاً سكان قطاع غزة المحاصرين منذ 17 عاماً، أفلا يحق لهم الانتفاض؟

 ألا يحق لهم الثورة على من حاصرهم وجوّعهم؟ ما حدث في قطاع غزة في يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر هو ثورة في مواجهة نظام فصل عنصري يحاصر المدنيين ويجوّعهم ويمنع عنهم أساليب الحياة كلها ويضطهدهم ويقصفهم ويحاربهم في كل عام، ألا يحق لهم الثورة في عرف المجتمع الدولي؟ 

هذا المجتمع الذي يطلق على جبهة "النصرة" الإرهابية إلى اليوم اسم ''المعارضة المسلحة"، أليس من الأولى أن يطلق على حماس اسم المقاومة الشعبية، وفق أدبيات الأمم المتحدة والمجتمع الدولي، خصوصاً أن هذه المقاومة من الشعب ولم تكن دخيلة عليه، إذ خرجت من رحمه وتمثله وهو الذي أوصلها إلى الحكم في مطلع عام 2006، ومنذ ذلك الحين، لم يتخلَّ عنها على الرغم من محاولات الاحتلال والولايات المتحدة ووسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المدعومة منها، وعلى الرغم من الحصار الخانق والحروب لم تتغير الحاضنة الشعبية مقدار أنملة عن دعم المقاومة، وبالتالي ما حدث في عملية "طوفان الأقصى" هو ثورة حقيقية متكاملة الأركان كما تفسرها علوم السياسة والاجتماع.

منذ عام 1945، وبعد هزيمة النازية في ألمانيا، روّجت الصهيونية العالمية لمصطلح ''المحرقة أو الهولوكوست'' وفكرة الاضطهاد اليهودي في أوروبا على يد النازيين، ومنذ بداية هجرتهم إلى فلسطين المحتلة في أواخر العشرينيات وحتى اليوم ارتكبوا جرائم بحق الفلسطينيين أكبر وأكثر وأعنف مما يزعمون أن النازيين ارتكبوها بحقهم، وحصارهم قطاع غزة خير دليل على تطبيق سياسة المعتقلات النازية التي يروونها في كتبهم، وهي أرض فيها مجمعات سكنية يحيط بها سياج عازل وطعام قليل ومعتقلون كثر أي اكتظاظ بالبشر وطعام لا يكفي ربعهم، وكذلك المياه والدواء، وعمل على مدار الساعة وتعذيب واضطهاد وعنف دائم، وبالنظر الآن إلى قطاع غزة كيف الوضع فيه؟

أرض فيها تجمعات سكانية محاطة بسياج عازل وحواجز ودبابات وآلاف الجنود والمدرعات، بالإضافة إلى حصار كبير وضاغط واكتظاظ سكاني يصل إلى مليونين ونصف المليون نسمة وقليل من الطعام والماء والدواء وحروب دائمة، وبالتالي ألا يشبه قطاع غزة المعتقلات النازية؟ 

وهنا، ثمة سؤال يراودني هل كان الصهاينة الأوائل مثل تيودور هرتزل منظرين للنازية والنازيين؟ حتى جاء من بعدهم أكثر إجراماً منهم ويطبقون ما يقولون إن النازية تفعله بالحرف، بل تجاوزوا النازية بمراحل وباتت تتعلم منهم.

القيادة العسكرية في "تل أبيب" تقول إن هدفها هو القضاء على حماس، ولكن هل تستطيع ذلك؟ وهل حماس أمر طارئ على القضية الفلسطينية والشارع الفلسطيني أم هي خارجة من رحمهم؟ المقاومة هي دين الشعب الفلسطيني، فعلى مدى نحو ثمانية عقود لم تنطفئ نار المقاومة لديهم، وبالتالي فكرة القضاء على حماس هي فكرة مراهقين في السياسة والعسكرة، والحديث فيها هو حديث شخص يعرف بما لا يعرف وهذا خير تشبيه لرئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، الذي مُني بهزيمة ومعه اليمين المتطرف في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وبالتالي يذهب نحو الانتحار على أسوار غزة.

نتنياهو وجيشه بهذه الهمجية والإجرام قاموا بكل شيء ضدهم، فعندما تقصف آلة الحرب الإسرائيلية المستشفيات والمناطق المدنية ويسقط عدد كبير من الشهداء والجرحى المدنيين، ماذا يتوقع العدو الإسرائيلي أن يحدث؟ 

هل ينقم الطفل على من يحميه ويسعى إلى تحريره أم ينقم على القاتل الذي قتل والده وأخاه وأمه؟ الجيل الذي عبر السياج العازل من غزة نحو المستوطنات يتراوح عمره بين الـ 18 والـ 25 عاماً، جميعهم كانوا أطفالاً في عدوان 2014 وأعمارهم تتراوح بين الـ 9 والـ 16 عاماً، وبعد تسع سنوات فقط نفذوا عملية كسرت ظهر الاحتلال، واليوم الأطفال أنا أجزم أن ما يزيد على نصفهم سيكونون أعضاء في حركة حماس بعد بضع سنوات فقط، لأن المواجهة لديهم عادة وكرامتهم من الله الشهادة، ومن سينضم إلى الحركة الآن تطوعاً وحباً أضعاف ما تتوقعه حماس قبل العدوان الإسرائيلي. 

منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وحتى العاشر من الشهر نفسه، عملت آلة الاحتلال الإعلامية عملاً كبيراً لإظهاره بصورة الطرف المعتدي، وفعلاً نجح إلى حد ما في أخذ الطرف الغربي إلى صفه، ولكن غاراته الإجرامية على قطاع غزة كشفت حقيقة وجهه الإجرامي، وبدأت الكفة تميل إلى صالح الفلسطينيين، ويومياً هناك تظاهرات في ما يزيد على 20 دولة مؤثرة في العالم جلّها في أوروبا وكندا والولايات المتحدة. 

الفلسطينيون في غزة يخسرون يومياً شهداء وجرحى ومباني مهدمة، ولكن هل خسروا المعركة؟ طبعاً لا، والدليل أن خسائر الاحتلال ليست أقل من خسائرهم، وهنا ينطبق قوله تعالى في سورة النساء أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا].. 

اليوم هناك نصف مليون نازح إسرائيلي سواء من مستوطنات "غلاف غزة" أم المناطق البعيدة مثل عسقلان و"تل أبيب" وغيرها، بالإضافة إلى استدعاء ما يزيد على 360 ألف جندي للاحتياط يعني تركهم وظائفهم وشركاتهم من أجل التعبئة للخدمة العسكرية، ما أدى إلى توقف أجزاء من الاقتصاد، وقبل عملية "طوفان الأقصى" كان الأداء الاقتصادي لكيان الاحتلال يمر بمرحلة صعبة، إذ شهد انخفاضاً بنسبة 60% في الاستثمار الأجنبي، بالإضافة إلى تدهور قيمة الشيكل الإسرائيلي، خصوصاً في سوق الأسهم وارتفاع أسعار الفائدة وارتفاع التضخم وتزايد توقعات تباطؤ نمو الاقتصاد، فأتت هذه الحرب لتضربه بمقتل وتهريب مليارات الدولارات من أسواقه، وذلك إلى جانب التحشيدات العسكرية التي تستنزفه استنزافاً دائماً وكبيراً. 

القصف الإجرامي على قطاع غزة تمهيداً للعملية العسكرية البرية التي يريدها نتنياهو، إذ يظن أنها ستنجيه من محرقة الزوال رفقة يمينه المتطرف، ووفق أحدث استطلاع رأي أجرته صحيفة 'يديعوت أحرونوت' الإسرائيلية حمّل 75% من الإسرائيليين نتنياهو المسؤولية عن الفشل في إيقاف عملية "طوفان الأقصى"، وما يزيد على نصف ناخبي حزب الليكود حزب نتنياهو نفسه يطالبونه بالاستقالة بعد الحرب، وما يزيد على أربعة وستين في المئة من الإسرائيليين يطالبون بانتخابات مبكرة، وبالتالي يسعى نتنياهو جاهداً إلى العملية البرية، ولكن هل سينجح فيها؟ قبل أيام، نفذ "جيش" الاحتلال قصفاً عنيفاً على شمالي قطاع غزة، ووجّه عملياته في تلك المنطقة، ثم حاول الاختراق من الجهة الجنوبية وتحديداً من خان يونس، فوجد وحدة اصطياد المدرعات التابعة للقسّام بانتظاره فدمرت دبابة الميركافا والمجنزرات وقتلت وأصابت طواقمها، وكانت هذه رسالة واضحة للكيان بأن أي عملية برية تكلفتها باهظة جداً، فإذا أراد الدخول بألف دبابة وعربة عسكرية فسيكون نصفها في عداد المدمر مع طواقمها، وهذه تكلفة لن يستطيع "جيش" الاحتلال تحملها، والعملية البرية انتحار وسينتحر نتنياهو ونحن بانتظاره.

عندما دخل التتار بلاد المسلمين قتلوا ما يزيد على 800 ألف شخص، فطُلب من المؤرخ ابن الأثير تدوين هذه الحقبة، لكنه ظن أنها نهاية العالم وأن هذه هي علامات الساعة وأن تأريخ هذه اللحظات لن يفيد، فرفض وقال مقولته الشهيرة: 'فمن الذي يسهل عليه أن يكتب نعي الإسلام والمسلمين؟

ومن الذي يهون عليه ذكر ذلك؟ فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً". لكن، بعدها بسنوات عدة، هُزم التتار في معركة عين جالوت وأصبحوا نسياً منسياً وعدنا وعادت الأراضي لنا.. قال تعالى في سورة الروم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: [أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا].