قمة جدة وسلام القبضة

أعلنت الولايات المتحدة صراحة أنها ترغب أكثر من أي وقت مضى في استتباب الأمن في الشرق الأوسط، بسبب ارتفاع التوتر بينها وبين كل من الصين وروسيا.

  • قمة جدة وسلام القبضة
    قمة جدة وسلام القبضة

في إطار المتغيرات الدولية المتلاحقة، قام الرئيس الأميركي جو بايدن بجولة في منطقة الشرق الأوسط، استهلها بزيارة "إسرائيل" أولاً، ثم المناطق الفلسطينية، ليحط أخيراً في السعودية، التي وجّه إليها سابقاً العديد من الصفات غير المقبولة في العرف السياسي والدبلوماسي.

هذه المتغيرات أرغمت الولايات المتحدة الأميركية على إعادة النظر في حلفائها في المنطقة من جديد، فالحرب الروسية – الأوكرانية فرضت أجندتها على العالم، والصين وروسيا تمكنتا من فرض وجودهما في الساحة الدولية السياسية والاقتصادية، وحتى العسكرية، على الرغم من كل محاولات أميركا وبعض الحلفاء الأوروبيين وقف المدّ المتسارع إليهم، وأصبح لإيران وتركيا تأثير بالغ في المنطقة، وبات الجميع أمام متغيرات كبرى ستقلب النظام العالمي من جديد. 

أعلنت الولايات المتحدة صراحة أنها ترغب أكثر من أي وقت مضى في استتباب الأمن في الشرق الأوسط، بسبب ارتفاع التوتر بينها وبين كل من الصين وروسيا، وأن الولايات المتحدة ستعود مجدداً إلى الشرق الأوسط، لأن الفراغ الذي تركته أعاد الصين وروسيا إلى المنطقة.

وللولايات المتحدة عدة مصالح استراتيجية في المنطقة، ومنها أمن الطاقة، وأمن الملاحة، والدفاع عن الحلفاء، والحرب على الإرهاب، وتأمين التجارة، والأهم وقف فكرة تصدير النفط بالعملات المحلية إلى تلك الدول التي تناصبها العداء.

قبل وصول بايدن إلى "إسرائيل" وبعده، تناول المحللون والصحف العالمية والسياسيون الكثير من التوقعات والنتائج التي ستترتب على زيارته للمنطقة، وارتفع سقف هذه التوقعات ليصل إلى إنشاء ناتو عربي في المنطقة، وإنشاء "نظام إنذار مبكر" أو "تحالف دفاعي إقليمي" ضدّ إيران من شأنه دمج "إسرائيل" في المنطقة، وحدوث تقارب بين "إسرائيل" والمملكة العربية السعودية قد يفضي إلى قيام علاقات دبلوماسية بينهما.

وعدّ رئيس حكومة "إسرائيل" قرار السعودية بفتح أجوائها "الخطوة الرسمية الأولى من التطبيع مع المملكة العربية السعودية". 

لكن مستشار الرئيس الإماراتي استبق القمة، وأعلن يوم الجمعة الماضي أن الإمارات تبحث مسألة تعيين سفير في طهران، وذلك في إطار سياسة إماراتية إقليمية تهدف إلى "خفض التصعيد"، وأكد أن الإمارات "ليست طرفاً في أي محور في المنطقة ضد إيران". 

من جانب آخر، امتنعت سلطنة عمان المعروفة بحيادها عن التحدث في اجتماع القمة. بدورها، أشارت المملكة العربية السعودية إلى وجود لقاءات ومحادثات إيجابية لا تزال قائمة مع إيران، حتى إن وليّ العهد قد سمّى إيران في كلمته التي افتتح بها قمة جدة بـ"الجارة".

وما إن حطّ بايدن في "إسرائيل" حتى علت أصوات المسؤولين فيها بالتهديد العسكري تجاه إيران، وأن دول الخليج والمملكة الأردنية الهاشمية وجمهورية مصر العربية قادمة لا محالة لإنشاء تحالف أمني تكون "إسرائيل" فيه رأس الحربة ضدّ التهديدات الرئيسة، والمعنية بذلك إيران. 

وقد تعهّد بايدن في إعلان أمني وقّعه مع "إسرائيل" الخميس 14/07/2022 بعنوان "إعلان القدس" أن تستخدم الولايات المتحدة "كل قوتها الوطنية" لمنع إيران من حيازة سلاح نووي، وبناء هيكل إقليمي لتعميق علاقات "إسرائيل" وشركائها، ودمجها في المنطقة، وتوسيع دائرة التطبيع لتشمل دولاً عربية وإسلامية أخرى. 

شكلت زيارة بايدن إلى السعودية العديد من المفارقات، فما إن حطّت طائرته في مطار جدة الدولي في أول رحلة تحمل رئيساً أميركياً من "إسرائيل" إلى السعودية مباشرة، حتى كان في استقباله أمير منطقة مكة، في ظاهرة غير اعتيادية (على الرغم من أن بروتوكولات استقبال الرؤساء تخضع للمعاملة بالمثل). 

ومع انتهاء إجراءات الاستقبال، توجّه الرئيس بايدن إلى قصر السلام ليستقبله الأمير محمد بن سلمان، مصافحاً إياه بقبضة اليد، وليس برقصة السيوف!

إن المنطقة في الشرق الأوسط تتماشى أيضاً مع المتغيرات العالمية، والتحالفات والأولويات والعلاقات مع الولايات المتحدة لم تعد كما كانت قبل 6 سنوات مضت، حين قررت الولايات المتحدة تحويل أنظارها عن المخاوف الأمنية التي تهدد حلفاءها الخليجيين ومطالبهم، فتحولت بعض تلك الدول، خلال هذه الفترة، نحو تعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا اللتين وسعتا نفوذهما في المنطقة. 

حاول بايدن خلال زيارته المملكة إقناع قادة الدول المجتمعين في قمة جدة بأنَّ المسار الذي تسلكه واشنطن في الملف الإيراني "يخدم مصالحها، وأن هناك مسارات أخرى يمكن اتباعها لو فشل هذا المسار"، وأن عقد تحالف جديد ناشئ يمكن أن يكون "بديلا" في حالة نشوب صراع عربي – إسرائيلي، إلا أن تباينات مواقف الدول في إطار هذا التحالف من إيران كانت واضحة.

وعلى الرغم من إعلان المملكة فتح أجوائها أمام حركة الطيران المدني "وفقاً لاتفاقيات شيكاغو"، فإن الإعلان جاء نتيجة اعتراف "إسرائيل" بحيازة المملكة جزيرتي تيران وصنافير وسيطرتها عليهما. 

كما أن إعلان السعودية قبولها بزيادة القدرة الإنتاجية إلى 13 مليون برميل يومياً بحلول 2027 لا يعني بأي حال أن المملكة تجاوزت أوبك +، أو أن لديها أي قدرة إضافية للزيادة بعد ذل،. فإنتاج النفط يناقش فقط في قمة أوبك +، وكل زيادة تحتاج إلى تحقيق التوازن وعدم التضحية بالدول النامية.

صحيح أنَّ المجتمعين توصلوا في القمة إلى اتخاذ قرارات تتعلق بإرساء الأمن ودعم التنمية في المنطقة، واستمرار وتطوير التعاون بين دول المجلس والولايات المتحدة، وأمن الملاحة ومسائل المناخ، وضرورة التوصل إلى حل سياسي يمني - يمني، والتشديد على ضرورة الإسراع في إيجاد حل شامل وعادل للقضية الفلسطينية، وربط ذلك بتحقيق ازدهار المنطقة ورخائها، ولكن برزت أصوات رافضة لأي شروط أو مطالب لا تتناسب ودولها مع الوضع الدولي الجديد.

 وشدد المجتمعون على عدم قبولهم بقيام أحلاف عسكرية أو تحديد علاقاتهم الاستراتيجية أو قبولهم بقيم الآخرين بالقوة، فالمنطقة نضجت، وهناك تطورات جديدة في علاقاتهم وشراكاتهم مع الدول الأخرى، ولهم أن يتعاملوا مع ملفاتهم وأجنداتهم بأنفسهم، وأن يتحاوروا مع الجميع من هذا المنطلق. 

من هنا، أكّد وزير خارجية المملكة العربية السعودية في المؤتمر الصحافي عدم طرح أي نوع من التعاون العسكري أو التقني مع "إسرائيل"، وعدم وجود أي ناتو عربي، وهو أمر غير مطروح. كما أكّد استمرار المملكة في دعم الحوار والدبلوماسية لمعالجة برنامج إيران النووي. 

نعم، هناك متغيرات دولية جديدة وعالم جديد يتشكل، وهناك متغيرات استراتيجية جديدة وكلام عربي جديد، فبايدن الذي تعهد أنّه لن يسمح لروسيا والصين بمَلء الفراغ والسّيطرة على مِنطقة الشّرق الأوسط،تناسى بأن مُعظم الزّعماء الخليجيين وغير الخليجيين فقدوا الثّقة كلياً به وببلاده، فهو هُزم هزيمة مُذلة في أفغانستان، ودمر العراق، وابتعد عن الخليج، وجلبت بلاده "الفوضى الخلاقة" إلى المنطقة، وهو الآن يعاني الأمرين في أوكرانيا، وفي إمدادات النفط، وفي تراجع هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي.

 أميركا اليوم لم تعد كما كانت في الأمس، وكذلك روسيا والصين.