"الحل النهائي".. الترانسفير أو الإبادة

الترانسفير والإبادة هما خياران حتميان أمام "الدولة الحديثة" في حال تعرض وجودها للخطر من جماعة داخل "حدود" سلطتها.

  • مشروع الترانسفير والحرب على غزة.
    مشروع الترانسفير والحرب على غزة.

مع بدء الحرب على غزة في بداية تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، وبعد العملية البطولية الصادمة التي نفذتها المقاومة الفلسطينية، أدركت "إسرائيل" أنّها تقف أمام اللحظة المصيرية التي عليها فيها أن تصل إلى "حل نهائي" للقضية الفلسطينية، وأنّ محاولة "احتواء" المقاومة، مع القضم البطيء المتسارع للأراضي في الضفة وإقامة المستوطنات للسير نحو إعلان كامل ليهودية الدولة بعاصمتها فلسطين، مع اعتراف عربي وازن، من دون تقديم أي تنازل سواء على صعيد حق العودة أو الالتزام بعدم التوسع الاستيطاني، لن تمنع لحظة "مجنونة" تعيد خلط الأوراق كلها.

الحداثة وأزمة الفائض البشري

حملت الحداثة مع دخولها إلى أوروبا، إلى جانب "مآثرها" المفترضة، أزماتها ومشكلاتها. واحدة من هذه المشكلات الأكثر تعقيداً كانت: "كيف يمكن التعامل مع الفائض البشري؟"؛ فمع تشكل "الدولة القومية" وانصهار المجموعات المختلفة داخل حدود معينة في بوتقة قومية واحدة، تمثلت المشكلة بالأقليات الثقافية والعرقية والدينية والقومية وغيرها، التي فشلت معها جهود إذابة الذات وإعادة قولبتها في القالب القومي الجديد.

وأفرزت الثورة الصناعية أيضاً، باعتبارها تتقاسم و"الدولة" ولادة الحداثة في أوروبا، فائضها البشري من "المواطنين" العاجزين عن الدخول إلى سوق العامل، وبالتالي لا يمكن الاستفادة منهم واستثمار طاقاتهم في العمل داخل المصانع.

هكذا، ومع بداية التسعينيات، كانت أوروبا أمام واقع "الفائض البشري" الذي لا بدّ من "التعامل" معه، أي التخلص منه.

الترانسفير خيار الدول الاستعمارية

شكلت المستعمرات حلاً سحرياً للكثير من أزمات دول الاستعمار، فكما كانت مورداً للأيدي العاملة الرخيصة (أو الاستعباد)، وسوقاً لتصريف المنتجات، وخزاناً لمد الجيوش بالجنود، كانت أرضاً صالحة لنفي أو ترحيل (ترانسفير) "الفائض البشري"، فكانت الأراضي الأميركية والهند والجزائر والمستعمرات في أفريقيا وغيرها من المستعمرات أراضي جمعت خليطاً من الثقافات والقوميات غير المرغوب فيها والفئات غير المنتجة التي لا يمكن أن تقدم قيمة مضافة على مستوى العمل ورأس المال، حتى إنّ عدداً كبيراً من المهاجرين الأوائل إلى الأراضي الأميركية كانوا من أصحاب السوابق الذين أُفرغت منهم السجون وأُرسلوا للعمل في "الأرض الجديدة".

ألمانيا وأزمة الترانسفير و"الحل النهائي"

عند تشكّل ملامح الدولة القومية في ألمانيا، اصطدمت بالمسألة اليهودية، إذ شكّل اليهود عائقاً أمام قطار الحداثة في ألمانيا، لأسباب عدة، منها: عدم انصهار اليهود داخل القومية الألمانية، والحفاظ على المجتمع الإسرائيلي كمجتمع متمايز عن باقي أطياف المجتمع الألماني، واشتغال معظم اليهود بعالم المال والإقراض، ما جعل منهم قوة اقتصادية سلبية على مستوى الاقتصاد الوطني، وعدم الاستفادة منهم كأيدٍ عاملة فاعلة في الآلة الصناعية، إلا أن ألمانيا كانت أمام أزمة، تمثلت بكونها من آخر الدول الأوروبية التحاقاً بالحداثة، وذلك لأسباب يطول شرحها، ما جعلها لا تمتلك الأراضي الشاسعة المُستعمرة التي تقدر على نفي وترحيل (ترانسفير) الفائض البشري المتمثل باليهود والشيوعية، في نظر النازية آنذاك.

أمام هذا الواقع، لم تجد ألمانيا بداً من حل "المسألة اليهودية"، في ظل شعور الألماني العميق بتخلفه عن أقرانه الأوروبيين وحاجته إلى العدو سريعاً باتجاه الدولة الحديثة. ومع فقدان حل الترانسفير، لم يبقَ أمامها، كـ"حل حداثوي نهائي"، غير الإبادة، وذلك بعد تحويل من يصلح منهم إلى التصنيع العسكري والعمل بالسخرة.

"إسرائيل": فشل الترانسفير.. الحل بالإبادة

موارد التشابه بين النظام النازي والكيان الصهيوني لا تنحصر بالجانب الإجرامي الدموي فحسب، بل لعلَّ بعض الليبراليات كانت، وما زالت، أكثر إجراماً من النازية، بل هما يتشابهان في الخلفية الفكرية العقائدية، إذ إن "اليسار" الذي أنشأ "دولة إسرائيل" لم يكن يساراً أممياً اشتراكياً، بل كان أقرب بشكل كبير إلى "القومية الاشتراكية" التي حكمت ألمانيا النازية –وهذا أيضاً يحتاج لتفصيل ليس هنا محله– ومن موارد التشابه أيضاً أن "إسرائيل" كدولة أرادت دخول نادي الحداثة في زمن متأخر جداً، فهي لا تمتلك موارد بناء الدولة الحديثة، ولا تمتلك حلولها السحرية. لذلك، هي كيان سياسي يراكم مشكلاته ويفاقمها مع مرور الزمن دون القدرة على حلها.

وهنا، المراد هو كل أنواع المشكلات على المستوى الداخلي والخارجي. ومن هذه المشكلات "القضية الفلسطينية" التي ظلّت "إسرائيل" تحمل أوزارها ما يقارب 80 عاماً، وكل الحلول المطروحة أمامها ستؤدي، بالنسبة إليها، في النهاية إلى آثار خطرة في الكيان ووجوده.

مع تأسيس "دولة إسرائيل"، كانت تلك "الدولة" الوليدة محاطة برعاية الإمبراطورية البريطانية التي سمحت للعصابات الصهيونية بتنفيذ حالة الترانسفير للفلسطينيين إلى الدول العربية المحيطة، والتي كانت خاضعة لانتداب بريطاني أو فرنسي، فتحقق لها ما لم يتحقق للنازية على أعتاب الحرب العالمية الثانية.

ومع تراكم الأزمات والمشكلات، وصولاً إلى الانفجار الكبير الذي أحدثه "طوفان الأقصى"، أرادت "إسرائيل" أن تكرر الحياد الحداثي المثالي: تنفيذ ترانسفير جديد ينهي أزمة "القضية الفلسطينية" بالنسبة إليها. ومع فشل هذا الخيار، كان الخيار الثاني: تنفيذ الإبادة. 

أقول إنّ الترانسفير والإبادة هما خياران حتميان أمام "الدولة الحديثة" في حال تعرض وجودها للخطر من جماعة داخل "حدود" سلطتها.

وبالتالي، هذا وجه آخر من وجوه الصراع الوجودي بيننا وبين كيان لا مكان، بالنسبة إليه على الأقل، لحلول وسطى. هل تنجح "إسرائيل" في حل "القضية الفلسطينية" اعتماداً على حل الحداثة السحري "الإبادة"؟ الجواب اليوم عند الشعب الفلسطيني ومقاومته التي تمثل حالة متقدّمة ما بعد حداثوية، تواجهها "دولة" باتت تحارب من خارج التاريخ.