أميركا و"إسرائيل" والنصيرات

وجهان لعملة واحدة؛ هذه هي علاقة الكيان الصهيوني بالولايات المتحدة. أي اعتقاد بتوازن أو خلاف بين القوتين الاستعماريتين ليس سوى ضرب من الوهم، وأي تسويق لمثل هذا الاعتقاد هو شكل موصوف من أشكال الخيانة.

  • تثقل الحرب قلوب المقاتلين في فلسطين، لكنها الحل الوحيد الذي يضمن النصر والتحرير.
    تثقل الحرب قلوب المقاتلين في فلسطين، لكنها الحل الوحيد الذي يضمن النصر والتحرير.

عندما شاعت الأخبار عن قيام الولايات المتحدة ببناء رصيف عائم على شاطئ غزّة، كثرت الاجتهادات والآراء، لكنها تقريباً أجمعت على أن المهمة الإنسانية المفترضة ليست سوى غطاء للمهمة الحقيقية لهذا الرصيف.

البعض ركّز على استعمال الرصيف للسيطرة على الثروات الفلسطينية في البحر، والبعض رأى أن الدور الأمني للرصيف يمتد من السيطرة على المساعدات الواردة إلى القطاع، ولن ينتهي بتقديم معلومات استخبارية مفصلة للعدو عن تحركات المقاومة على الأرض. لم يعتقد أشد المتشائمين أن الرصيف سوف يستعمل بشكل مباشر لمرور قوات العدو والقيام بعمليات داخل غزّة، لأن ذلك يعتبر تورطاً أميركياً مباشراً وعلنياً في العمليات على الأرض.

بعد انتهاء المجزرة في مخيم النصيرات وظهور الصور التي تثبت استخدام المهاجمين للرصيف الأميركي، كان لا بد من العودة إلى التساؤل عن السبب الذي دفعنا إلى الاعتقاد بأن الولايات المتحدة سوف تتردد في استعمال هذا الرصيف للتعاون مع العدو بشكل مباشر ضد المقاومة في غزّة. الإجابة واضحة، فنحن ما زلنا نؤمن بأن السياسة الأميركية يمكن أن تعتمد بعض التوازن في علاقاتها مع دول المنطقة، من دون أن ننكر انحيازها السافر للعدو. هذه الفرضية فيها بعض الصحة، لكنها تهمل الكثير من الحقائق المعلنة والمسربة على مدى أيام المعركة.

أهم الحقائق المعلنة هو تعاون عدد من الأنظمة العربية بشكل مباشر مع العدو، وتوسيع العلاقات التجارية معه، بل وكيل الاتهامات إلى المقاومة بأنها المسؤولة عن المجزرة التي يرتكبها العدو في غزّة.

كان الخطاب الأكثر وضوحاً واستفزازاً ما قاله رئيس سلطة رام الله في مؤتمر قمة المنامة حول تحميل حركة حماس المسؤولية عن المجازر الصهيونية بسبب انفرادها بقرار المعركة في طوفان الأقصى، كما برر الدعم الغربي للكيان الصهيوني برفض حركة حماس لما سمّاه قرارات الشرعية الدولية. 

ترافق هذا الخطاب الرسمي العربي مع تراخٍ وصمت غريبين من قبل الدبلوماسية العربية في الحوار مع حلفائها الغربيين، فإذا استثنينا موقف الجزائر، نستطيع القول إن الصمت ران على دبلوماسية 17 دولة عربية اكتفت ببيانات إنشائية وأدت دور الجمعيات الخيرية، من دون أن تطلق ولو تحذيراً واحداً يتناسب مع هول المجازر التي يرتكبها الكيان الصهيوني.

يتضح هذا التخاذل السياسي والدبلوماسي من خلال عقد مقارنة بسيطة مع مواقف دول غربية أعلنت في بداية الأزمة دعمها للكيان، لكنها ما لبثت أن عدلت مواقفها لتصل إلى الاعتراف بدولة فلسطين. ويبرز هنا موقف إسبانيا والنرويج كمثال صارخ على فعالية الغرب مقابل تواطؤ النظام الرسمي العربي.

من الحقائق المسربة ما ورد على لسان أكثر من مسؤول أميركي وصهيوني حول مطالبة بعض الدول العربية بالقضاء على المقاومة ودعمها العملية الصهيونية في غزّة. اعتبرنا تصريحات سموتريتش وبن غفير نوعاً من الوقيعة بين الدول العربية، وتعاملنا مع ليندسي غراهام على أنه موتور، وأن تصريحاته ليست سوى محاولة لتبرير المجازر الصهيونية. 

جاءت مجزرة النصيرات لتثبت أن هذه التسريبات تحمل شيئاً من الحقيقة، فلو كان أطراف المجزرة، الولايات المتحدة وبريطانيا و"إسرائيل"، تخشى من أي رد فعل من حلفائها العرب لأخرجت العملية بطريقة مختلفة تماماً، ولو كان هؤلاء الحلفاء صادقين، ولو في الحد الأدنى، في تصريحاتهم وبياناتهم، لسمعنا منهم شيئاً يختلف عن الإدانة الباهتة والجمل المكررة.

هل كان يمكن أن تخرج العملية بصورة مختلفة؟ بالتأكيد، كان ذلك ممكناً جداً، فالعملية التي جاءت خاطفة بررها أحد المعلقين العسكريين بضرورة عملياتية خوفاً من نقل الأسرى إلى مكان آخر. أي خبير عسكري مبتدئ يستطيع التنبؤ بأن الأسرى الذين تم تحديد مكانهم لن يكونوا الأسرى الوحيدين في المنطقة، وبالتالي فإن أي عملية يمكن أن تؤدي إلى موت عدد من الأسرى، بما في ذلك بعض الأسرى المستهدفين من عملية التحرير.

وإذا أضيف إلى ما سبق احتمال إصابة جندي أو أكثر، فإن الجدوى العسكرية لمثل هذه العملية بالشكل الذي نُفذت به مشكوك فيها. أما الجدوى السياسية، فهي المستهدفة، فالعملية جاءت لتنقذ نتنياهو من عواقب استقالة بيني غانتس وتمنحه إنجازاً لطالما وعد جمهور المستوطنين به. هذه النتيجة تجعلنا نتساءل: لماذا تعمل أميركا، في كل مرة، على إنقاذ نتنياهو رغم الخلاف المزعوم معه؟

سبق للكونغرس الأميركي أن اتخذ قراراً بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية إذا تجرأت على محاكمة الجنود والمسؤولين السياسيين الأميركيين أو التابعين لأي دولة حليفة. يومها، فسرنا القرار على أنه يهدف إلى حماية المسؤولين والضباط الصهاينة. بعد مجزرة النصيرات، أصبح واضحاً أن الهدف الرئيسي هو حماية المسؤولين السياسيين والعسكريين الأميركيين الذين شاركوا في هذه المجزرة من خلال الدعم اللوجستي الاستخباري وفي أرض المعركة.

تستمر المجزرة رغم قرار مجلس الأمن الدولي القاضي بوقف فوري لإطلاق النار. القرار الأميركي الذي تبناه مجلس الأمن ليس القرار الأفضل بحسب مندوب الجزائر، لكنه يمهد الطريق نحو وقف المجزرة الصهيونية – الغربية. رغم ذلك، أعربت المقاومة الفلسطينية عن ترحيبها بالقرار، لكن كيان الاحتلال واجهه بالرفض الضمني، مشترطاً تسليم سلاح المقاومة، ومتوعداً باستمرار الحرب حتى تحقيق هذا الشرط. الولايات المتحدة وعلى لسان وزير خارجيتها أعلنت من القاهرة أن حركة حماس هي الجهة الوحيدة التي ترفض المبادرة الأميركية، منهية جو التفاؤل، ومحولة القرار إلى حبر جديد على ورق الأمم المتحدة الملطخ بدم الفلسطينيين.

وجهان لعملة واحدة؛ هذه هي علاقة الكيان الصهيوني بالولايات المتحدة. أي اعتقاد بتوازن أو خلاف بين القوتين الاستعماريتين ليس سوى ضرب من الوهم، وأي تسويق لمثل هذا الاعتقاد هو شكل موصوف من أشكال الخيانة.

تثقل الحرب قلوب المقاتلين والصامدين في فلسطين، لكنها الحل الوحيد الذي يضمن النصر والتحرير، وكل ما سواها أوهام تهدف إلى إخراج الاحتلال من مأزقه، وليس أمام المقاومين إلا الرسالة التي أرسلها ذات يوم الشاعر العربي مظفر النواب: "لا يطاوعني قلبي لكن والله أقول... استشهد".