أنقرة تعترض طريق الجولاني في صراع المعابر والفصائل: مرحلةٌ جديدة

يحاول الجولاني منذ العام الماضي، التقدم في اتّجاه الشرق والاستحواذ بالقوة على المناطق الواقعة تحت سيطرة فصائل "الجيش الوطني" التابع لأنقرة.

  • صراع المعابر والفصائل.
    صراع المعابر والفصائل.

في خطوةٍ جديدة من نوعها ولافتة، اعترضت دبابات ومدرّعات الجيش التركي المحتل في ريف حلب الغربي، وتحديداً بالقرب من القاعدة التركية في منطقة كفرحنة القريبة من مدينة إعزاز، أرتالاً عسكرية تتبع لـ "هيئة تحرير الشام" (جبهة النصرة – القاعدة سابقاً) كانت متوجّهة إلى منطقة جرابلس، وتحديداً إلى معبر "الحمران" الفاصل بين مناطق سيطرة ما يسمّى بـ "الجيش الوطني السوري" الذي شكّلته أنقرة ويتبع لها مباشرةً، ومناطق سيطرة "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) في ريف منبج الحلبيّ، وذلك خلال محاولة زعيم الهيئة، أبو محمّد الجولاني، معاودة السيطرة على المعبر الذي احتلّه من فصائل تابعة لـ "أحرار الشام" قبل أشهر قليلة من الآن، لتعود الأخيرة وتستعيده بعد القضاء على العناصر والمجموعات التي استمالها الجولاني ومكّنته من الوصول إلى المعبر الاستراتيجيّ الهام لدى الجميع.

بدايةً، يستمدّ هذا المعبر أهميته، من كونه أحد المعابر الرئيسية لتهريب النفط ومشتقاته من المناطق التي تسيطر عليها "قسد" في اتّجاه الشمال الغربي لسوريا، ثم إلى تركيا، بل المعبر الوحيد الذي تدخل منه شاحنات "النفط الخام" إلى الشمال.

 وهو المعبر الذي مكّن، إلى جانب غيره من المعابر والمنافذ، الجولاني من السيطرة على جزءٍ كبير من تجارة المشتقات النفطية المسروقة من ثروات البلاد في تلك المناطق، وتشييد "إمبراطورية التهريب" التي أمّنت له موارد ضخمة وحوّلته إلى "ثريّ حرب" وصاحب شركة "الأنوار" التي أصحبت المحتكر الأكبر لهذه السوق في الشمال، وهذا بدوره مكّنه من تأمين السلاح و"البيعة" بالقوة أو بالمال. 

وتبعاً، هذا ما أسال لعابه ودفعه إلى فعل كلّ شيء للسيطرة على جميع المعابر في الشمال، ليكون القوة الوحيدة القادرة على تأمين "التمويل الذاتي" لإمارته ومعاركه، وبالتالي فرض نفسه على أي عملية سياسية أو عسكرية تريد أنقرة و"الدول الضامنة"، أو الولايات المتحدة، الدخول فيها أو فرضها. 

في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، استطاع الجولاني عن طريق حلفائه في "أحرار الشام – القاطع الشرقي"، تحريك مجموعات تنتمي إلى الفيلق الثالث التابع لـ "الجيش الوطني" الموالي لتركيا، لتخوض صراعاً داخل الفيلق ذاته، أفضى إلى انضمام تلك المجموعات بشكل رسميّ إلى الهيئة، ومبايعة الجولاني والهجوم، بمساندة "فرقة سليمان شاه" و"فرقة الحمزة"، على المعبر، ورفع علم "هيئة تحرير الشام" عليه.

 وعلى الفور، صدر قرار عام من قائد فصيل "أحرار الشام" الموالي للجولاني (والذي بات يُعرف بـ "أحرار عولان" – نسبة إلى مقرّهم الرئيسي في بلدة عولان في ريف مدينة الباب)، وعُمّم على جميع أصحاب "الحرّاقات"، بمنع بيع أي ليتر مازوت أو بنزين للسكان، وحصر الأمر في هذا الفصيل فقط.

 الأمر الذي أثار غضب التجار المحليين وأصحاب "الحرّاقات"، لتزيد نقمتهم يوماً بعد يوم على الجولاني ووكلائه في المنطقة، خصوصاً بعد وضع اليد على جميع محطات تكرير النفط الواقعة في منطقة ترحين القريبة من معبر الحمران، والإعلان بشكل واضح وعمليّ عن رفض هذا الفصيل الانخراط ضمن الهيكلية التي أعلنتها "وزارة الدفاع" التابعة للحكومة المؤقتة المُعيّنة من جانب أنقرة، والتي تقضي بتوحيد المعابر تحت إدارة لجنة متخصّصة تتبع لمجلس استشاريّ يضمّ "وزير الدفاع" في تلك الحكومة، إلى جانب قادة الفيالق في ما يُسمّى بـ "الجيش الوطنيّ".

وفي يوم الأربعاء 13 من هذا الشهر أيلول / سبتمبر، أُعيد السيناريو ذاته، لكن بطريقة معاكسة هذه المرّة. حيث استطاعت جهات في "الحكومة المؤقتة" و"الفيلق الثالث" شقّ الصف في فصيل "أحرار عولان"، عن طريق استمالة مجموعة من داخل الفصيل يقودها "أبو حيدر مسكنة"، أعلنت انشقاقها والعودة إلى "الفيلق الثاني"، ليسارع فصيل من الفيلق ( فرقة السلطان مراد) إلى الانتشار في محيط منطقة جرابلس، والهجوم على المجموعات الحليفة لـ "هيئة تحرير الشام" ( والتي يقودها حسين الطالب - أبو الدحداح منبج) وطردها من المعبر، ثم طردها في اليوم التالي، الخميس 14 أيلول / سبتمبر، من كامل مدينة جرابلس الواقعة في الريف الشرقيّ من محافظة حلب.

وعلى الفور، استنفر الجولاني قواته في عموم مناطق ريف إدلب الشمالي وريف حلب الغربيّ، بينما استنفر "الجيش الوطني" قواته وفصائله جميعها في إعزاز وعفرين وعموم الريف الشمالي لمحافظة حلب، وأصدر الجولانيّ أوامره لقائد الفصيل الموالي له في "أحرار عولان" (أبو أسامة منبج) لبدء عملية عسكرية لاستعادة السيطرة على المعبر، مع إعلان إرسال تعزيزات كبيرة من "الهيئة" إلى جرابلس لإتمام تلك العملية، وهو ما جرى بالفعل، إذ أرسل الجولاني أرتالاً عسكرية كبيرة في اتّجاه ريف حلب الشرقيّ. 

وتفيد المعلومات الواردة من المنطقة، أنّ الاستخبارات التركية مارست ضغوطاً كبيرة على فصيليّ "سليمان شاه" و"الحمزة" (فرقة الحمزات)، ودفعتهما في اتجاه قطع الطريق على أرتال "هيئة تحرير الشام" في منطقة الباسوطة الواقعة في ريف مدينة عفرين، ومنع وصول تلك الأرتال إلى منطقة جرابلس بأي وسيلة. وبالتزامن، استنفر الأتراك قوتهم العسكرية في المنطقة، ونصبوا حواجزهم ودباباتهم ومدرعاتهم على الطريق، بينما حلّقت طائراتهم العسكرية وطوّافاتهم فوق رؤوس قوة الجولاني، ليُجبر الأخير على التوقف ثم الاستدارة إلى الخلف، وإنهاء معركته تلك قبل أنْ تبدأ. 

يحاول الجولاني منذ العام الماضي، التقدم في اتّجاه الشرق والاستحواذ بالقوة على المناطق الواقعة تحت سيطرة فصائل "الجيش الوطني" التابع لأنقرة، مستغلّاً الخلافات والصراعات المتواترة بين تلك الفصائل، وصراعها مع "قسد" من جهة أخرى. وللجولاني أسبابه العديدة التي تدفعه إلى ذلك، ومنها الضغط على أنقرة لاعتماده قوة وحيدة وأقوى في المنطقة، كي لا تأتي أي تسوية بين دمشق وأنقرة على حسابه، وكذلك للسيطرة على كل مصادر التمويل في المنطقة، بغية زيادة مصروفاته على الخدمات في إدلب وريفها، خصوصاً مع ارتفاع حدّة التظاهرات الغاضبة ضده في المنطقة، والتي يعبّر فيها السكان عن الفقر والحرمان والتضييق عليهم واحتكار التجارة والزراعة على حسابهم. 

ومن جهة أخرى، تحاول "الحكومة المؤقتة" وفصائل ما يسمّى بـ "الجيش الوطني"، إيجاد مصادر تمويل جديدة تُمكّنها من البقاء والاستمرار، خصوصاً بعد الشحّ التركيّ في الإمداد المالي خلال السنة الأخيرة.

ولهذا الغرض، أجرت قيادات الفصائل (مع ممثلين عن الحكومة المؤقتة) لقاءات مع الاستخبارات التركية مؤخّراً، وعرضوا موضوع السيطرة على المعابر للوصول إلى "التمويل الذاتي"، وهي خطّة توافق سياسات أنقرة الحالية القائمة على دعم "الحكومة المؤقتة" وتطويبها كمرجع وحيد للمعارضة السورية، وتعويمها سياسيّاً في المنطقة والإقليم والعالم، وتمكينها من السيطرة على المعابر مع الدولة السورية ومع الشرق لتأمين مصادر دخلها ومصروفاتها الخدمية من خلال فرض الرسوم على البضائع وتحصيل الضرائب، وخلق بيئة آمنة نسبيّاً لعودة اللاجئين إلى "مدن الطوب" التي تبنيها قطر في المنطقة، وهذا أمرٌ شديد الأهمية بالنسبة إلى حكومة إردوغان الذي لن يسمح للجولاني بإفشال خططه، ولذلك سارعت القوات التركية، ولأول مرة، إلى قطع طريق الجولاني بالدبابات والطائرات، ومحاولة فرض "خطوط حمر" جديدة على رجل القاعدة السابق.

ولأنّ الجولاني، بدوره، لن يستسلم أو يقبل بتحويله إلى "قوة جانبية" يجري إضعافها وحصارها اقتصاديّاً وعسكريّاً بالتدريج، فمن المنتظر أنْ يعود عند أي فرصة سانحة قادمة، إلى محاولة التمدد في اتّجاه الريف الحلبي، ومعاودة السيطرة على معبر الحمران ذاته، لما له من أهمية اقتصادية فائقة بالنسبة إلى الجميع.

الأمر الذي يشي باحتمال التصعيد في أيّ وقت، خصوصاً أنّ قيادات فصائل أنقرة (الجيش الوطني) بدأت بالحديث عن "مرحلة جديدة ومعطيات مختلفة" في الشمال، في إشارة إلى وجود قرار تركيّ بتحجيم الجولاني وتقوية "الجيش الوطني" لتمكين الجميع من العبور إلى منطقة التسويات القادمة المحتملة التي يسعى إليها إردوغان.

 وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى التصريح الذي صدر مؤخّراً عن وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، والذي تحدث فيه عن "اقتراح" خطة إيرانية على دمشق وأنقرة، تقضي بانسحاب القوات التركية من الأراضي الحدودية المحتلة، وعودة الجيش العربي السوري ومؤسسات الشرعية إلى مواقعها هناك، هذا بالتزامن مع تزايد الحديث الروسيّ عن ضرورة العودة إلى "اتفاقية أضنة".

 والمتوقّع هنا، أنْ تكون الخطة التركية القادمة متعلقة أساساً باقتراح دمج "فصائلها وحكومتها المؤقتة" بالدولة السورية ومؤسساتها، وحتى ذلك الحين، لن يبقى الجولاني أسير هواجسه التي تزداد حلكةً مع كلّ خطة جديدة من "الدول الضامنة"، والمنتظر أنّ معارك المعابر والسيطرة، قد تتحوّل إلى حربٍ في الشمال، إنْ لم تُعبّد أنقرة طريقاً جديداً للجولانيّ، يضمن استيعابه بشكل نهائيّ، أو إنهاء حالته على شكلها الراهن.