أوكرانيا: أين أوروبا من اتفاق واشنطن؟
يبدو أنّ أوروبا قد تخرج بمكاسب صفرية أو محدودة من أوكرانيا لا توازي ما قدّمته لها، كلّ ذلك نتيجة القرارات الاستراتيجية الخاطئة التي اتخذتها.
-
هل تخرج أوروبا بمكاسب صفرية من أوكرانيا؟
أثارت الاتفاقية الأخيرة بين أوكرانيا والولايات المتحدة جدلاً بين القادة الأوروبيين، بشأن منح الأفضلية للشّركات الأميركية في إعادة الإعمار واستغلال الموارد الطبيعية. كما خلت الاتفاقية بحسب نصوصها من أيّ التزامات أمنية أميركية، من دون أن تتعارض مع مسار انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي، فيما أُرْجِئَتْ مسألة انضمامها لحلف الناتو إلى مفاوضات سلام مستقبليّة مع روسيا برعاية أميركية.
هذا المُعطى، يثير تساؤلات عديدة حول مآل الدور المستقبلي لأوروبا في أوكرانيا خلال مرحلة ما بعد الحرب، خاصة أنها نزلت بكلّ ثقلها الاقتصادي والعسكري والسياسي في الصراع الحالي امتثالاً لضغوطات أميركية مارستها إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن لدعم كييف.
أولاً، عندما تستثمر الدول في الصراعات الدولية، فإنّ ذلك يتمّ وفق حسابات دقيقة للمكاسب السياسية والاقتصادية المحتملة بعد انتهاء الصراع، ما يعزّز من نفوذها الجيوسياسي، إذ إنّ أيّ مشاركة تفتقر إلى هذه الحسابات تُعدّ عبثية ولا طائل منها.
وقد تؤدّي إلى إحداث زلزال سياسي داخلي، علاوة على ذلك، ينبغي أن تأخذ في الاعتبار الأطراف الحليفة المشاركة في الحرب، خصوصاً من حيث قوّتها ونفوذها الدولي، ولا سيما إذا كانت بحجم دولة كالولايات المتحدة الأميركية، وذلك لضمان أن تكون العوائد المتوقّعة متناسبة مع حجم المساهمة في الصراع.
ثانياً، يتّضح من مضامين الاتفاق أنّ الولايات المتحدة الأميركية أضحت المستفيد الأكبر من هذه الحرب بوصفها الداعم الرئيسي لنظام كييف في حربها ضدّ روسيا، رغم المشاركة الأوروبية الفاعلة في هذه الحرب التي فاقت نظيرتها الأميركية بحسب آخر الإحصائيات التي نشرها قبل نحو ثلاثة أشهر معهدKIEL INSTITUT FOR WORLD ECONOMY فإنّ حجم المساعدات المختلفة التي قدّمتها أوروبا لأوكرانيا في مواجهة روسيا الاتحادية منذ اندلاع الصراع بلغ نحو 138 مليار دولار بزيادة 19 مليار دولار عن الدعم الذي خصّصته الولايات المتحدة الأميركية الذي وصل إلى حدود 119 مليار دولار.
ثالثاً، عندما انخرط الأوروبيون في الحرب كانوا مدفوعين بحماسة غير محسوبة العواقب، تحت تأثير عاملين رئيسيين: أولاً، المزاعم الأميركية ممّا يُعرف بـ "التهديد الروسي"، الذي يشكّله على أمن القارة الأوروبية والتي تروّج لها دائماً الولايات المتحدة بقوة في الأوساط السياسية الأوروبية لابتزازها؛ وثانياً، الطموحات الجامحة لدى زعماء أوروبا المتعلّقة بالمكاسب الاقتصادية والجيوسياسية التي يمكن أن تجنيها أوروبا بعد نهاية الصراع.
وقد نجحت إدارة الرئيس الأميركي السابق جو بايدن في دفع أوروبا نحو الانخراط في هذه الحرب، الذي كان من الممكن تفاديها لو أنّ القادة الأوروبيين استوعبوا في وقت مبكر طبيعة الفخّ الاستراتيجي الذي نُصِبَ لهم بدقّة، بهدف إضعاف القارّة الأوروبية والحدّ من النزوع إلى استقلالية قرارها الاستراتيجي، وإبقائها ضمن دائرة التبعيّة لواشنطن، ولا سيما فيما يتصل بأمنها القومي.
برغم الدعوات المتكرّرة التي أطلقتها روسيا منذ سنوات على لسان رئيسها فلاديمير بوتين، لتأسيس بنية أمنية أوروبية مشتركة، من خلال مقترحات شاملة لإعادة هيكلة النظام الأمني في القارة تراعي مصالح القارة الأوروبية وروسيا، لكنّ قادة الاتحاد الأوروبي تجاهلوا هذه الدعوة.
واليوم، تبدو كلفة هذا الاندفاع الأوروبي نحو الحرب باهظةً، حيث أصبحت تواجه دول الاتحاد الأوروبي ضغوطاً اقتصادية خانقة بسبب الأعباء المالية المتزايدة نتيجة التزاماتها تجاه أوكرانيا، وبينما تتفاقم الأزمات الاجتماعية في الداخل الأوروبي، وتتعثّر عجلة الاقتصاد، بدأت أصواتٌ داخل الاتحاد ترتفع محذّرةً من هذا المسار المدمّر يسير بأوروبا نحو الهاوية. وفي هذا السياق، جاءت تصريحات رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان لتقرع ناقوس الخطر، حين تحدّث مؤخّراً بشكل صريح لإذاعة محلية عن "إفلاس وشيك" يتهدّد أوروبا نتيجة انخراطها المفرط في حرب ليست حربها، محذراً من أنّ الاستمرار في هذا النهج قد يجرّ القارة نحو الانهيار، من دون أن تحقّق أوروبا المكاسب الكبيرة التي تتوخّاها من هذا الدعم غير المشروط لأوكرانيا.
استناداً إلى ما سبق بيانه، يبدو أنّ أوروبا قد تخرج بمكاسب صفرية أو محدودة من أوكرانيا لا توازي ما قدّمته لها، كلّ ذلك نتيجة القرارات الاستراتيجية الخاطئة التي اتخذتها، ما قد ينجم عنها من عواقب سلبية على مستقبل القارة العجوز في ظلّ التحدّيات الجيوستراتيجية التي تتغيّر بسرعة في المشهد السياسي الدولي. ويبقى السؤال المطروح كيف سيتصرّف الأوروبيون إزاء هذا الواقع الذي فرضه الأميركيون في أوكرانيا؟ الجواب في الأيام المقبلة.