العقيدة الترامبية والعالم الجديد..

طغت شخصية ترامب التجارية في قراراته الدولية وكأنّه يريد إعادة رسم خريطته الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية من جديد، في معادلة ربحية، من خلال استراتيجية مصلحية.

  • الرئيس الأميركي دونالد ترامب (أرشيف).
    الرئيس الأميركي دونالد ترامب (أرشيف).

بدأت ملامح الشرق الأوسط الجديد تتبلور مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض وبدأ موسم قطف الثمار لسنوات من "التخطيط" البريطاني و"التنفيذ" الأميركي منذ أن قالت وزيرة الخارجية الأميركية "كوندليزا رايس" عام 2006 بأن ما يحدث هو مخاض شرق أوسط جديد، ولكن الجديد اليوم هو أن العقيدة الترامبية أرادته مخاض عالم جديد يعيد للواقعية السياسية ألقها في العلاقات الدولية ويزاوج ما بين المركنتيلية التقليدية والرأسمالية الليبرالية بصورة عصرية تتماشى مع تطلعاته التجارية، ويجعل من البراغماتية الأميركية مدخلاً للهيمنة العالمية عبر إعادة تفعيلها لخدمة المصلحة الأميركية وفق عنوان "أميركا أولاً" وعلينا ألا نستغرب هذا الشعار على اعتبار أنّ الدول تضع مصالحها الخاصة في المقام الأول.

ولم يكتفِ ترامب بتفعيل تلك البراغماتية والواقعية السياسية لوحده، بل حضّ قادة العالم كذلك على تحقيق مصالح بلدانهم، التي "يجب أن تعلو فوق أي مصلحة" وكان ذلك في بداية ولايته الرئاسية الأولى... واستكملها في ولايته الثانية مع تطوير أدواته لتحقيقق أهدافه، وبالتالي، البدء بتفعيل "عقيدة ترامب" التي مزجت ما بين "الحمائية" و"الهيمنة" و"السلام" و"الواقعية" باستخدام القوة الاقتصادية والعسكرية والدبلوماسية والسياسية التي تتمتع بها الولايات المتحدة الأميركية..

خاصة وأن ترامب مزج ما بين "البراغماتية السياسية" و"الميركنتالية الاقتصادية" و"الواقعية الدولية"، إذ تمثّل البراغماتية عصب السياسة الخارجية الأميركية، بحيث تُبنى على حساب دقيق للمكاسب والخسائر والتكاليف، في التعاطي مع الأزمات الدولية، مع استدعاء عوامل الظرفية وعلاقات القوة والمصالح وسلّم الأولويات.

 فيما تمثّل المركنتلية الاقتصادية الأفكار القومية وتهدف إلى زيادة ثروة الدولة من خلال جمع أكبر قدر ممكن من الذهب والمعادن الثمينة، وتحقيق فائض تجاري من خلال دعم الصادرات وتقييد الواردات، على اعتبار أنّ ثروة الدولة تتكون من المعادن والأموال التي تدخل إليها، وتنخفض هذه الثروة بخروج المعادن والأموال من أراضيها، ويدعم ترامب الصادرات الأميركية ويرى بأن التجار والمصنعين هم الأحق بالاستفادة من أموال الدولة والدول الأخرى، ليلتقي بذلك مع رؤية المركنتيليين عينها، والتي تضيف إلى أحقية دعم الصادرات بضرورة فرض الرسوم الجمركية على الواردات لأنها وفق نظرهم تجعل الأموال تذهب إلى خارج البلاد، وبالتالي لا بدّ من فرض الرسوم الجمركية كي تبقى الأموال داخل الدولة..

وهو ما رأيناه من تطبيق عملي في السياسات التي انتهجها ترامب منذ وصوله سدة الحكم عام 2016 واستكملها بولايته الثانية الحالية بفرض الرسوم الجمركية على كل الصادرات ولم يستثنِ منها حتى الحلفاء.

أما الواقعية في العلاقات الدولية فتعتمد على افتراض أن الدول تعمل بشكل أساسي وفقاً لمصلحتها الذاتية وأن النظام الدولي هو نظام فوضوي بطبيعته غير مستقر وتسعى فيه القوى الدولية إلى تحقيق توازن لمنع أي دولة من التفوق بشكل كبير على الآخرين..

والاهتمام بشكل رئيسي بالمصلحة الوطنية والتي قد تشمل الأمن، والازدهار، والسلطة.. وتكون فيها القوة هي العامل الأساسي بحيث تلعب القوة العسكرية والاقتصادية دوراً رئيسياً في العلاقات الدولية، واتباعها كاستراتيجية للعمل من أجل المصلحة الوطنية الأميركية وبما يتفق مع قيمها.. وهذا ما يفسر طروحات ترامب بإحلال السلام بالقوة مع تلويحه الدائم بما تملكه بلاده من معدات عسكرية وتكنولوجية..

كما طغت شخصيته التجارية في قراراته الدولية وكأنّه يريد إعادة رسم خريطته الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية من جديد، في معادلة ربحية، من خلال استراتيجية مصلحية عبر مزج المفاهيم النظرية في إطار نظرية الألعاب الصفرية. ففي كل اتصال أو لقاء سياسي لا ينسى ذاك "التاجر" إعلان مناقشة "التجارة الموسّعة".

فهوس "السمسار العقاري" يسيطر على شخصيته، ولم لا ما دامت الأموال تدر في الخزينة الأميركية، وهذا شفيعه لدى منتقديه ومحبيه على حدٍ سواء، وخاصة أنّ زيارته الأولى خارج البلاد بدأها نحو منطقة الشرق الأوسط وممالك الخليج تحديداً، فعاد بـحوالى أربعة تريليونات دولار إلى الخزينة الأميركية لينعش الاقتصاد الأميركي ويفتتح أبواب الوظائف على مصاريعها، ويخمد شعلة منتقديه من لوبيات المصانع العسكرية ودعاة الحرب بأنه يستطيع منحهم في السلم ما يحتاجونه بالحرب، من خلال صفقات التسلح التي وقعتها ممالك الخليج، وهي لا شك خطة ذكية من متمكن في التجارة وسمسرة العلاقات الدولية..

ولا ننسى الهوس الأكبر وهو "الغولف" وملعبه المتغني فيه بين الحين والآخر قد استحوذ بقواعده على مزاجه الدولي وبات يحكم في العلاقات الدولية وفق قواعد "لاعب الغولف" الناجح! ويمكن العودة إلى قواعد لعبة الغولف لمحاولة فهم قرارته المفاجئة والمباغتة.. 

ووفق هذا المزيج يبدو أن أكثر ما يعمل عليه الرئيس الجمهوري هو تغيير شكل ومحتوى الإطار الفكري والرؤية السياسية التي اعتمد عليها قادة الحزب الجمهوري على مدار التاريخ، وكان آخرها الرؤية التي وضعها وعمل عليها الرئيس الأسبق رونالد ريغان، وسار عليها من بعده كل القادة الجمهوريين، ولا يسعى ترامب فقط إلى تسجيل اسمه في قائمة العظماء في التاريخ الأميركي، بل يبدو أنه يعمل مع فريقه الجديد على نقل الحزب الجمهوري من ميراث ريغان إلى المبادئ "الترامبية" الشعبوية الجديدة؛ بهدف ترسيخ أفكار ترامب وجعلها الأساس الوحيد لا لرؤية الحزب الجمهوري فحسب، بل للسياسة الأميركية الخارجية لعقود مقبلة. 

وعليه، ربما نكون أمام حقبة جديدة قد تطول لعقود عنوانها "الترامبية"، ونشير هنا إلى ما ذكره "مايكل أنتون" وهو (كاتب محافظ)، بأنّ ترامب "ليس من المحافظين الجدد أو المحافظين القدماء، ولا من الواقعيين التقليديين ولا من الليبراليين الدوليين.. وينطبق الشيء ذاته على حقيقة أن ترامب لا يميل فطرياً إلى الانعزالية أو التدخل، وهو ليس حمامة أو صقراً. ولا تندرج سياسته الخارجية بسهولة في أي من هذه الفئات، على الرغم من أنها تُستمد من كل منها". 

وفي تفسير واضح لمناهضة ترامب الأفكار الليبرالية الحديثة والتي وصلت حد الجنون في الفردية المطلقة وصولاً إلى "مجتمع ميم" وآثاره المدمرة على العائلة والمجتمع، وتفعيل العولمة حد الجنون في العلاقات الدولية، كان في أول قرار له، إصدار أمر تنفيذي يهدف إلى تقييد إجراءات التحول الجنسي، وبإطلالاته الدائمة مع عائلته وأحفاده يؤكد رفض المثلية والعودة نحو التقاليد الأساسية القائمة على أن العائلة أساس المجتمع، ولم يكتفِ بذلك، بل جادل مع أتباعه من "اليمينيين الجدد" أو (الترامبيين إن صحّت التسمية) جادلوا بأن للعولمة آثاراً مدمرة على الولايات المتحدة الأميركية، واستمرارها يكلّف الولايات المتحدة غالياً، فيما كانت مفيدة للقوى الصاعدة التي تسعى إلى منافستها على النفوذ والزعامة، وخاصة الصين. 

كما هاجم ترامب ومريدوه الأفكار التي تقول إن مصلحة أميركا هي البقاء في حلف شمال الأطلسي، وهذا ما يفسر إنهاء ترامب لما وصفه بـ"الامتيازات المجانية" للحلف، مُصرّاً على أن يدفع أعضاء الحلف "نصيبهم العادل"، سواء في ما يتصل بالضمانات الأمنية أم الصفقات التجارية.. وفق ما سمّاه "تصحيح المسار". 

وعليه يمكن اعتبار "مبدأ ترامب" بأنه سياسة "نزع فتيل المواقف التي قد تتطلب اتخاذ إجراءات عسكرية، والانخراط بدلاً من ذلك في سياسة اقتصادية هجومية"، وفق ما قاله جورج فريدمان، وتأتي أفكار ترامب هذه، وفق فريدمان، على خلفية وضع دولي يشهد انتشار القوات الأميركية حول العالم، وهو وضع يخلق توتراً، لأن الولايات المتحدة قد تجد نفسها متورطة في حرب مكلفة وعلى أكثر من جبهة في الوقت ذاته، لذلك وجد ترامب وداعموه من أجنحة "الدولة العميقة" أن الأفضل هو اتباع "مبدأ الدبلوماسية" وإحلال السلام بالقوة الاقتصادية والتجارية وحتى الطاقوية، والتلويح بالعسكرية، على أن تدفع الدول من خزينتها لا من الخزانة الأميركية، ولم يستثنِ حتى "إسرائيل" من تلك الإجراءات.

إذ يعتقد ترامب، وفق رؤية فريدمان، بأن "الذهاب إلى الحرب خيار خاطئ لأن نوايا الخصوم غير متوقعة، والحل يكمن في الحفاظ على الوجود وتجنب القتال، والانخراط في مفاوضات مطولة قد تؤدي إلى شيء أو لا شيء، ولكنها قد تقلل من التهديد العسكري".. وبالمناسبة فإن هذه الرؤية تتناسب مع إحدى قواعد الغولف التي يحبذها ترامب والتي تقول إنّ أهم القواعد المتبعة في سياسة ترامب "حفاظاً على السلامة العامة، لا تضرب الكرة عندما يكون هناك احتمال بأن تصيب المجموعة التي تلعب أمامك!". 

كما يبدو أنّ عقيدة ترامب السياسية تقوم على مبدأ "القطعة قطعة" على اعتبار أنه يتعامل في العلاقات الدولية على أنها صفقات وعقود "تجارية"، وهذا ما يفسّر تفضيله الاتفاقيات الثنائية على الاتفاقيات متعددة الأطراف على أن يكون هو الشخص الذي يبرم الصفقة والطرف الأقوى في العقد، وعليه فإن أي اتفاقية ثنائية يبرمها لا بد وأن تكون لمصلحة بلاده أولاً وتسجيلاً لاسمه في التاريخ الأميركي ثانياً، من دون أن يكون لأطراف ثالثة مصالح على حساب المصلحة الأميركية، لذا نراه يسعى للحد من الحروب على اعتبار وجود طرف ثالث مستفيد من تلك الحروب، حتى لو كان حليفاً لبلاده.

ومن أمثلة اتباع ترامب لمسار الدبلوماسية، لقاءاته في ولايته الأولى مع نظيره الصيني والروسي والكوري الشمالي، ونعلم بأنها دول موضوعة في الاستراتيجية الأميركية على أنها تهديد للولايات المتحدة، في مسعى منه إلى استعادة العلاقات مع روسيا وتخفيف حدة التوتر مع الصين واحتواء كوريا الشمالية. وفي ولايته الحالية نراه أكثر جزماً تجاه مبادئه وأفكاره الجديدة، ففي الأزمة الأوكرانية كان حازماً مع زيلنسكي وأوروبا في ضغطه عليهما لإنهاء الصراع وإلا فليدفعوا من خزينتهما، وحتى نتنياهو لم يسلم من حزم ترامب تجاه إنهاء الحرب على غزة، وربما في نهاية المطاف سيحمّله ترامب مع اليمين المتطرف كلفة هذه الحرب عندما ينتهي الدور الوظيفي في الضغط على إيران لإنجاز ملف المفاوضات وفق المصلحة الأميركية حتماً..

 أما الصين فيبدو أن تركيزه منصب فقط على التجارة، وزيادة التعرفات الجمركية كوسيلة من أجل العودة إلى إبرام صفقة تجارية مع الصين والتي حاول إبرامها في ولايته الأولى وهذه الصفقة هي أولوية بالنسبة لترامب، فعلى ما يبدو يسعى إلى اتفاق مع الصين، حتى لو كان اتفاقاً على حكم العالم إذا وجد بأن حربه معها ستكون تكلفتها خسارة أميركا لمكانتها العالمية..

وإن لم يجد خط "بهارات" النور بعد، فلا ضير بأن يشارك الصين بطريق الحرير، على أن يكون للولايات المتحدة اليد الطولى فيه، وربما هذا ما يفسر تصريحات ترامب بالاستيلاء على القناة.. والمرجح هو التوافق الصيني الأميركي على الصراع الذي ستكون نتائجه كارثية على العالم..

وفي الشرق الأوسط، يزيد ترامب من الضغط على إيران لإنجاز ملف المفاوضات باستخدام كل من "إسرائيل" التي تهدد بتنفيذ ضربات ضدّها، والأوروبيين الذين هددوا بتفعيل آلية العقوبات ضدّها. ويتفق مع إردوغان على المصالح الطاقوية في ليبيا وسوريا مقابل مد يد الأخير لنفوذ بضوء أميركي..

أما السعودية فكانت زيارته لها وإعلانه رفع العقوبات عن سوريا من الأرض السعودية، إعادة لتأكيد التحالف الأميركي السعودي، كما أنّ هناك ورقة رابحة أخرى، هي قدرة ترامب على التوسط في صفقة سلام بين "إسرائيل" والسعودية، وكلاهما لديه مصالح استراتيجية في ذلك، وها هو ينهي الصراع السوري – الإسرائيلي برعاية سعودية.. ليفتتح عصر السلام في الشرق الأوسط، رغم أنه سلام أميركي وليس على طريقة أهل الأرض..

ويبدو أن أفريقيا ستكون البؤرة المشتعلة الجديدة لمنح لوبيات الأسلحة متنفساً يبعدهم ترامب خلاله عن انتقاده ويروي ظمأهم لبيع السلاح..

ولكن، يبقى الأخطر على ترامب هو صراع الأجنحة داخل الدولة العميقة ومن سيستفيد من قراراته وإجراءاته، وهل سيكتفي الخاسر بابتلاع الخسارة أم سينقلب إلى جنون عالمي؟..