استعادة أسرى النصيرات.. كيف فشلت "إسرائيل"؟

تُعدّ عملية النصيرات حدثاً تكتيكياً محدوداً سقف نجاحه استعادة 4 أسرى، إن لم نحتسب كيفية حدوث ذلك والأضرار التي لحقت، أي أنه حدث لا يملك أيّ بعد استراتيجي يغيّر من مسار المعركة.

  • العملية تجلّت بفضح ضعف
    العملية تجلّت بفضح ضعف "جيش" الاحتلال من خلال دخوله إلى القطاع عبر شاحنة مساعدات.

شبّه أحد الفلسطينيين في منطقة النصيرات جنوب غرب مدينة غزة، عملية استعادة الأسرى الإسرائيليين بـ "فيلم هوليوودي"، وربما صدق بهذا التشبيه، لأنّ المجرمين في أفلام هوليوود هم دائماً أبطال، والجرائم التي يرتكبونها "مبرّرة"، وقتل ودهس كلّ من في طريقهم فقط "أضرار جانبية"، بهدف الهروب من الشرطة أو إنقاذ أصدقاء البطل ـــــ أفراد العصابة ـــــ المحتجزين، وإن نجحت المهمة تُصوَّر على أنها "انتصار"، وهكذا تكون النهاية السعيدة التي ينتظرها المُشاهد.

هذه الرواية تُرى بعين نتنياهو وعيون بعض المستوطنين المتطرّفين، لكن الحقيقة عكس ذلك، وما يراه العالم هو أرض محروقة مرتوية بدماء 300 شهيد و700 جريح عددهم في ارتفاع، من أجل استعادة 4 أسرى، حتى لو كانوا على حساب قتل أسرى إسرائيليين آخرين، كما أعلن الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسّام، أبو عبيدة، مقتل 3 أسرى في أثناء عملية النصيرات.

إنجاز بطعم الهزيمة

تعمّد رئيس حكومة الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إنكار الهزيمة، وبنشوة الانتصار الباهت، غفل عن حقيقة أنّ العملية العسكرية الناجحة هي التي تنتج عن أقلّ خسائر ممكنة في أرواح المدنيين. على الرغم من ذلك، تباهى نتنياهو بعملية استعادة بضعة أسرى، ساخراً، وهو نفسه الذي كان يختفي من الواجهة عند تلقّي خبر مقتل أسير في غزة.

ماذا استفاد نتنياهو؟ زعم أن عملية ما يُسمّى بـ "تحرير" الأسرى الإسرائيليين، ذريعة بنّاءة لإطالة أمد العدوان والاستثمار في مستقبله السياسي، كما أنها تبرير لإشباع غريزته الإجرامية في إبادة قطاع غزة وأهله. فيما استغلاله لأسراه قوبل بإدانات دولية وشعبية فضحت أطماعه وكشفت فشل "جيشه"، على نحو ما قالته المقرّرة الأممية المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز: "إسرائيل استخدمت أسراها كتمويه لإضفاء الشرعية على قتل الفلسطينيين في غزة وتجويعهم".

إخفاق عسكري

تُعدّ عملية النصيرات حدثاً تكتيكياً محدوداً سقف نجاحه استعادة 4 أسرى، إن لم نحتسب كيفية حدوث ذلك والأضرار التي لحقت، أي أنه حدث لا يملك أيّ بعد استراتيجي يغيّر من مسار المعركة، بل عقّدت هذه العملية ظروف وأوضاع باقي الأسرى بإعلان واضح من المقاومة، ما يعني أن "تحريرهم" صار شبه مستحيل، لأنّ "القسّام" أعادت هيكلة تموضعات الأسرى وربما انتقلوا إلى أعمق أنفاق غزة.

العملية "المهزلة"، تجلّت بفضح ضعف "جيش" الاحتلال من خلال دخوله إلى القطاع عبر شاحنة مساعدات، ومن ثمّ التنكّر في سيارة نازحين محمّلة بالمنقولات، خطوة ضربت هيبة "الجيش الذي لا يُقهر" بعرض الحائط، حتى أضحت غزة جحيماً بالنسبة لجنوده لا يجرؤون على دخولها إلا متنكّرين.

الحقيقة التي عتّم عليها الإعلام "الإسرائيلي"، هي أن قوات الاحتلال فشلت بالانسحاب وإجلاء الأسرى أثناء العملية، حيث استطاع المقاومون إطلاق النار على المركبة التي تقلّهم وتعطيلها، وبذلك كادوا أن يقعوا أسرى جدداً لدى المقاومة، وهنا جنّ جنون الاحتلال وأصبح بين خيارين، إما إعلان فشل العملية أو ارتكاب مجزرة مروّعة جديدة أمام العالم تُضاف إلى سجل جرائمه.

بطبيعة الحال، لا تحسبها قيادة "جيش" الاحتلال مرّتين، اتخذت خيار إبادة كلّ ما يتحرّك في مخيم النصيرات، وشرعت بالقصف الجوي الهستيري والاستثنائي لتغطية انسحاب الجنود والأسرى الذين بحوزتهم نحو الساحل. 

الهروب إلى الجوّ!

رئيس حكومة الاحتلال الأسبق ديفيد بن غوريون، قال: "ينبغي إعطاء الأولوية لقوات الصدمة وعلى رأسها سلاح الجو. حكمنا في الجو يضمن لنا النصر أكثر من أيّ عامل آخر، والعكس صحيح". مقولة بن غوريون اعتراف صريح بأنه لولا سلاح الجو لخسرت "إسرائيل" معارك كثيرة، أي أنّ القتال بالطيران الحربي هو الأساس الذي يرتكز عليه "جيش" الاحتلال وتفوّقه جوياً فقط ما يضمن النصر، على غرار حرب الأيام الستة في 1967 واجتياح لبنان عام 1982. 

لم تنجح عملية النصيرات، لأنها لم تستطع استعادة الأسرى إلا بالطيران الحربي وليس بالمواجهة الميدانية، الأمر الذي يشكّل بحدّ ذاته إخفاقاً عسكرياً، على قاعدة: "انتهت حلول الأرض الأمر متروك للسماء"، استعان "جيش" الاحتلال كعادته بسلاح الجو للهروب من الهزيمة، لكن بعيداً عن غزة، نجد أن هذا السلاح الذي يستنجد به، قد أذلّته المقاومة في لبنان وتفوّقت عليه حتى تدميره.

أقوى جيوش العالم

موقع "ديكلاسيفايد" البريطاني المختصّ بالسياسة والاستخبارات، كشف أن الجيش البريطاني نفّذ ـــــ منذ كانون الأول/ديسمبر حتى أيار/مايو الماضي ـــــ 200 مهمة تجسسية في سماء قطاع غزة، من أجل البحث والتحرّي عن الأسرى الإسرائيليين، أو معلومات قد تفيد "جيش" الاحتلال في مواجهة المقاومة وأنفاقها. إلى جانب الدعم البريطاني، سخّرت الولايات المتحدة كلّ جيشها وسلاحها والتكنولوجيا التي تمتلكها، لمساندة "إسرائيل"، وأرسلت مئات الجنود الأميركيين للمشاركة بعملية النصيرات، بل أقامت رصيفاً عائماً لمساعدة "جيش" الاحتلال، بحجة إدخال المساعدات إلى غزة.

أكدت واشنطن باستخدامها الرصيف العائم ضمن خطة عملية استعادة الأسرى، زيف شعاراتها وادّعاء إنسانيتها، بعد أن سوّقت له كإجراء إنساني يخفّف الحصار عن أهالي غزة، كشفت أهدافها الخفيّة علانيةً أمام العالم، والاستثمار بمجاعة الفلسطينيين لأطماع عسكرية.

أضف إلى ذلك، حشدت "إسرائيل" قوات النخبة من "الجيش" و"الشرطة" وجهاز "الشاباك"، للمشاركة بالعملية، هنا يجدر السؤال: "هل يحتاج قطاع صغير محاصر كلّ هذا الحشد؟". "جيش" الاحتلال الذي استسهل بإرسال نساء لاحتلال بيروت عام 2006، اليوم يعجز بنخبه وعتاده عن القضاء على المقاومة في غزة. وفي عملية لا تطأ حدود الإنجاز، استطاع إعادة بضعة أسرى بعد 9 شهور، ما يعادل 23 سنة تقريباً لاستعادة 124 أسيراً إسرائيلياً تبقوا داخل غزة. بالتالي، يكفي المقاومة الفلسطينية فخراً أن اجتمعت أقوى ثلاثة جيوش في العالم، لمواجهتها.

شقّة لا نفق!

إن احتجاز المقاومة للأسرى داخل شقّة سكنية في مخيم النصيرات، أمر لا يستدعي المزايدة، فهو يعود لاعتبارات عديدة لا تشكّل أيّ منها نقطة سلبية للمقاومة، بل تهمة يُدان بها الاحتلال، لأنه دمّر 70% من البنى التحتية لقطاع غزة، وخرق قوانين الحروب باستهداف المدنيين عن سابق إصرار وترصّد، كما أنّ أنفاق "حماس" ليست مجهّزة جميعها لإيواء أسرى، ولا هم معتادون على العيش في الأنفاق. 

الحقيقة المؤكّدة هي أن المقاومة تنطلق من التزام ديني وأخلاقي وعقيدة جهادية إيمانية، تفرض عليها معاملة الأسير كما تعامل أفرادها، ووضع هدف الحفاظ على حياته أولوية لديها، حتى أن بعض مجموعات "القسّام" استشهدت وهي تنقذ أسرى من قصف الاحتلال، أي أنّ الموضوع لا ينحصر فقط بمبدأ أنّ الأسير الحيّ ورقة تفاوض أقوى من الأسير الميت، إنما هي حجّة شرعية توجب الحفاظ عليهم وتجنيبهم الخطر، وهكذا احتُجز بعضهم بشقق سكنية، تفادياً لإصابتهم بأمراض جلدية بفعل الرطوبة ونقص الأوكسجين تحت الأرض، مما يعكس الصورة الصادقة للمقاومة، بمقابل الصورة الكاذبة والمزيّفة التي يزعمها "جيش" الاحتلال بوقاحة، بادّعائه أنه "الجيش الأكثر أخلاقية".

اليوم، انكشفت صورة الاحتلال الإجرامية أمام مرأى العالم، ولم يعد الرأي العام العالمي يصدّق "إسرائيل" كما من قبل، بل يرى تعذيب الأسرى الفلسطينيين والتنكيل بهم في سجون الاحتلال، ومنهم من يخرج مبتور الأطراف، في مقابل الصحة الجيدة التي يخرج بها الأسرى الإسرائيليون من قطاع غزة.

ماذا بعد؟

عمليات استعادة الأسرى الإسرائيليين كان من المتوقّع أن تحدث في الأيام الأولى لطوفان الأقصى، إذ إنّ عدد الأسرى لدى المقاومة آنذاك بالمئات وجميعهم كانوا على قيد الحياة، ناهيك عن الأسرى الذين ظلوا محتجزين بحوزة بعض العائلات في غزة، عقب أحداث 7 أكتوبر.

كلّ هذه العوامل ربما كانت سهّلت العثور على الأسرى بالاقتحام والقصف الجوي، غير أن الفشل الذريع بعد شهور من العدوان الإسرائيلي على غزة، يحتّم بشكل مطلق ضرورة عقد صفقة تبادل للأسرى بين حكومة الاحتلال وحماس، الأمر الذي أكده قادة الاحتلال ومسؤولوه وإعلامه، بعد عملية النصيرات.

"الصفقة وحدها هي الحلّ"، جلّ ما طالب به مجتمع الاحتلال، على عكس ما روّج نتنياهو من إنجاز ونصر، وعكس ما انتظر من تبريك وتصفيق، إنما ازداد زخم المطالبة بصفقة تبادل أسرى بعد هذه العملية، من خلال التظاهرات التي عمّت مدن الأراضي المحتلة، وهو ما تجلّى باستقالة بيني غانتس وغادي أيزنكوت وبعض الوزراء، حيث أنهم لم يعوّلوا على العملية، بل نظروا إلى المدى البعيد مدركين مكاسب المقاومة وما حقّقته من إنجازات واقعية واستراتيجية.

المقاومة الفلسطينية طيلة العدوان وحتى عملية النصيرات، تمكّنت من أسر جنود إسرائيليين جدد خلال معارك غزة، وما زالت تحتفظ بعشرات الأسرى، كما أنها نفّذت بجرأة عملية إنزال خلف الحدود اجتازت بها السياج الفاصل، وكأنّ يوم 7 أكتوبر لم ينتهِ بعد، لتؤكّد بذلك قدرتها على إدارة المعركة، وتُظهر إعدادها لحرب طويلة ومعقّدة، كلّ هذا بمعزل عن قتل جنود الاحتلال يومياً واستهداف الدبابات ودكّ مستوطنات غلاف غزة بالصواريخ.