الجيش اللبناني بين القرار السياسي وحماية السلم الأهلي
توريط الجيش في الداخل يساوي تفجير لبنان من الداخل. الجيش اللبناني ليس مجرد قوة مسلحة، بل هو رمز السلم الأهلي ومرآة التوازن الوطني.
-
خصوصية لبنان ودور الجيش منذ 1947 (أرشيف).
يُجمع اللبنانيون، على اختلاف انتماءاتهم، أنّ الجيش هو المؤسسة الوطنية الوحيدة التي ما زالت تحافظ على حدٍّ أدنى من التماسك في بلدٍ يقوم نظامه على التعددية الطائفية والسياسية. لكنّ هذا التماسك ليس أمراً مُسلَّماً به؛ إذ يتعرّض الجيش باستمرار لمحاولات الزجّ به في نزاعات داخلية، ولا سيما حين تُطرح قضايا حسّاسة مثل نزع السلاح بالقوة أو ضبط الصراع السياسي على الأرض. هنا تبرز أهمية التذكير بأنّ مهمة القيادة العسكرية لا تقتصر على رفض الأوامر المشوبة بعيوب دستورية، بل على تفنيدها دستورياً وميثاقياً، انطلاقاً من أنّ القرار العسكري امتداد للقرار السياسي، لكنه في لبنان مشروط بالتوازنات الوطنية.
القرار العسكري: امتداد للقرار السياسي
في أيّ نظام برلماني ديمقراطي، يُعتبر القرار العسكري انعكاساً مباشراً لقرار سياسي تتخذه السلطة التنفيذية. الجيش لا يصوغ السياسات بل يطبّقها. غير أنّ لبنان حالة خاصة، إذ لا يمكن فصل القرار العسكري عن البنية الطائفية والسياسية الحسّاسة التي تُهدّد بالانفجار إذا ما أُسيء التعامل معها. لذلك، فإنّ دور قائد الجيش أن يوضح للسلطة السياسية وللرأي العامّ متى يكون القرار غير شرعي أو غير قابل للتنفيذ لأنه يفتقر إلى الغطاء الميثاقي المطلوب.
خصوصية لبنان ودور الجيش منذ 1947
نشأ الجيش اللبناني عام 1947 مع تحويل قوات الشرق الخاصة الفرنسية إلى مؤسسة وطنية، وكان أوّل قادته فؤاد شهاب الذي رسّخ تقليداً مفصلياً: الجيش لا يتدخّل بين اللبنانيين إذا اختلف زعماؤهم. هذا التقليد العرفي أصبح منذ 1952 قاعدة ذهبية لحماية السلم الأهلي. ومنذ اتفاق الطائف عام 1989، بات لقائد الجيش أيضاً سلطة دستورية: أي قرار وطني لا يُعتبر نافذاً إلا إذا كان ميثاقياً، أي يحظى بتوافق المكوّنات اللبنانية.
من هنا تبرز أمام قائد الجيش سلطتان متكاملتان:
1. السلطة العرفية (منذ 1952): الامتناع عن التدخّل في النزاعات الداخلية منعاً لتحويل الجيش إلى طرف في الحرب الأهلية.
2. السلطة الدستورية (منذ الطائف 1989): التحقّق من أنّ أيّ قرار صادر عن مجلس الوزراء يتوافق مع الميثاق الوطني، وإلا اعتُبر لاغياً وكأنّه لم يكن.
محطات تاريخية تؤكّد النهج
لقد ترجم قادة الجيش هاتين السلطتين في محطات عديدة:
• 1952: رفض الجيش قمع الشارع في مواجهة الأزمة السياسية، مما سمح بحلّها من دون إراقة دماء.
• 1958: حين كاد لبنان ينزلق إلى حرب أهلية، التزم الجيش الحياد، فساهم في منع الانقسام الداخلي.
• 2005 و2008: كرّر الجيش موقفه بالوقوف على مسافة واحدة من الجميع، مانعاً الانزلاق إلى حرب أهلية شاملة.
• الاستثناء الوحيد كان عام 1976، حين زُجّ الجيش في مواجهة داخلية فانقسم إلى ألوية طائفية متقاتلة، وهو ما أثبت أنّ أخطر ما قد يواجه لبنان هو انقسام جيشه.
الدرس البارز أنّ على القيادة العسكرية أن تستعمل السلطتين – العرفية والدستورية – لتفادي تكرار خطأ 1976.
الجيش ومفهوم الميثاقية
الميثاقية ليست مجرّد شعار؛ إنها جوهر النظام اللبناني منذ تأسيسه. فكلّ قرار حكومي كبير لا يحظى بتوافق المكوّنات الأساسية يفقد شرعيّته. وقد تبيّن في محطات كثيرة أنّ قرارات حكومية اتُّخذت من دون غطاء وطني شامل تحوّلت إلى قرارات شكلية، ما يجعلها كأن لم تكن. هنا تكمن مسؤولية قائد الجيش: أن يوضح أنّ القرارات غير الميثاقية ليست ملزمة، وأن يحمي المؤسسة العسكرية من استخدامها كأداة في نزاعات سياسية.
الجيش مؤسسة وطنية لا أداة للصراع
إنّ قوة الجيش في كونه المؤسسة الوحيدة التي تجمع اللبنانيين. توريطه في نزاع داخلي لن يُفقده حياده فحسب، بل سيؤدي إلى انقسامه، وبالتالي انهيار آخر عمود يرتكز عليه الكيان اللبناني. لقد كان الجيش على الدوام خط الدفاع الأول ضد الإرهاب على الحدود وفي الداخل، وقد دفع أثماناً غالية في مواجهة المجموعات التكفيرية بعد عام 2013، لكنه نجح في الحفاظ على صورته كدرع للوطن لا كسيف لطائفة أو فريق.
الجيش في مواجهة الإرهاب: معارك نهر البارد وعرسال
للتذكير، فإنّ الدور الطبيعي للجيش تجسّد بأبهى صوره في معارك نهر البارد عام 2007 ضد تنظيم "فتح الإسلام"، حيث دفع مئات الشهداء لكنه أنهى خطراً كان يهدّد لبنان كلّه. كما برز مجدّداً في معارك عرسال ورأس بعلبك بين 2014 و2017 ضد الجماعات التكفيرية، حيث قدّم نموذجاً في الدفاع عن السيادة من دون أن ينجرّ إلى نزاعات داخلية. هذه المحطات التاريخية أكدت أنّ وظيفة الجيش الحقيقية هي حماية لبنان من الأخطار الخارجية والإرهاب، لا التورّط في معارك أهلية لا تنتهي.
الجيش والحفاظ على الاقتصاد الوطني
إلى جانب دوره الأمني، يتحمّل الجيش عبئاً اقتصادياً غير مباشر. ففي بلد يعاني من انهيار مالي ونقدي، فإنّ أيّ انفلات أمني سيضاعف الكارثة الاقتصادية. حضور الجيش في الشارع كضامن للأمن يمنع الفوضى التي تُفقد المواطن ما تبقّى من مقوّمات العيش. إن حماية الجيش من الانقسام تعني أيضاً حماية الاقتصاد من الانهيار الكامل، لأنّ الاستقرار الأمني هو الشرط الأول لعودة الاستثمار والسياحة والإنتاج.
البعد الاجتماعي والنفسي لدور الجيش
لا يمكن إغفال أنّ الجيش اللبناني يشكّل أيضاً مرجعاً نفسياً ومعنوياً للبنانيين. ففي بلد تتفكّك فيه المؤسسات تباعاً، يبقى الجيش الملاذ الأخير الذي يشعر المواطن بوجوده عند الحدود أو في مواجهة الإرهاب أو حتى في الكوارث الطبيعية. إنّ أيّ مساس بمكانة الجيش أو توريطه في نزاعات داخلية سيضرب ثقة اللبنانيين بأنفسهم وبقدرة دولتهم على البقاء.
التحدّيات الراهنة
اليوم، يواجه لبنان ضغوطاً سياسية واقتصادية غير مسبوقة، وتزداد الدعوات إلى حسم ملفات خلافيّة بالقوة. لكنّ أيّ خطوة من هذا النوع، إذا زُجّ فيها الجيش، ستفتح الباب أمام حرب أهلية جديدة. المطلوب أن تدرك السلطة السياسية أنّ الجيش ليس أداة للتجاذب الداخلي، بل مؤسسة ضامنة للوحدة الوطنية.
نحو تحصين المؤسسة العسكرية
لحماية الجيش، لا بدّ من:
1. تأكيد حياده: الجيش يحمي الحدود ويواجه الإرهاب، لكنه لا يتدخّل في النزاعات الداخلية.
2. تعزيز دوره الجامع: إبراز أنّه المؤسسة الوحيدة التي تعكس صورة لبنان الواحد رغم انقساماته.
3. توفير الغطاء السياسي والميثاقي له: أيّ قرار مصيري يجب أن يُتخذ بالتوافق حتى لا يُحرج الجيش ويُدفع إلى خيار الانقسام.
4. الالتفاف الشعبي حوله: حماية الجيش تعني حماية لبنان نفسه، فكلما انقسم الناس حوله، ضعفت الدولة.
5. الدعم الاقتصادي والمعنوي: لا يمكن أن يُطلب من الجيش القيام بمهام كبرى فيما يعاني من ضائقة مالية ومعيشية تطال ضباطه وجنوده.
التجارب أثبتت أنّ توريط الجيش في الداخل يساوي تفجير لبنان من الداخل. الجيش اللبناني ليس مجرد قوة مسلحة، بل هو رمز السلم الأهلي ومرآة التوازن الوطني. لذلك، فإنّ واجب جميع القوى السياسية، ومعها المواطنون، أن يحموا هذه المؤسسة من أيّ قرار يدفعها إلى تأدية دور ليس دورها.
لبنان بلد استثنائي في تركيبته، وجيشه يجب أن يبقى الاستثناء الإيجابي: مؤسسة فوق الطوائف، جامعة لا مفرِّقة، حامية للسلم الأهلي لا شريكة في الحروب. وهنا نستعيد الخلاصة التي شدّد عليها وزير الدفاع الأسبق يعقوب الصرّاف: مهمة قائد الجيش ليست رفض الأوامر فحسب، بل تفنيدها دستورياً وميثاقياً بما يحمي الجيش من الانقسام ويحفظ لبنان من الانهيار.