الحرب في أوكرانيا وقمة شنغهاي.. متغيرات دولية وعالم جديد

العقوبات الغربية على روسيا كان لها مفعول عكسي، وبدلاً من تدمير الاقتصاد الروسي، تمكنت إدارة الرئيس بوتين من رد الكيل كيلين.

  • الحرب في أوكرانيا وقمة شنغهاي.. متغيرات دولية وعالم جديد
    الحرب في أوكرانيا وقمة شنغهاي.. متغيرات دولية وعالم جديد

لا يعطي الواقع السياسي والعسكري والاقتصادي القائم على الأرض الأوكرانية المعلومات والدلالات نفسها التي تروجها وسائل الإعلام الغربية في شأن تراجع وهزيمة القوات الروسية. فالحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها على أفغانستان كانت نتائجها هزيمة أعتى القوى في العالم بعد مرور عقدين كاملين على الاحتلال. 

والحقيقة أن الحرب في أوكرانيا لا تأخذ طابع المنتصر والمهزوم، فهي أساساً لم تكن حراباً بين قوتين عسكريتين (روسيا وأوكرانيا)، بل هي خلاصة حرب بين تكتل أوروبي-أميركي غير مباشر في مواجهة تصاعد المدّ الروسي، يقوم التكتل بموجبه بتزويد أوكرانيا بأحدث المعدات العسكرية والمساعدات اللوجستية والتكنولوجية والمساعدات المالية الهائلة للاستمرار في القتال ورفض إجراء تسوية بين الطرفين المتقاتلين. وبمعنى أدق فالحرب القائمة حالياً هي حرب بين روسيا الاتحادية وقوات الحلف الأطلسي بالوكالة على الأرض الأوكرانية، هدفها إسقاط الدولة الروسية من خلال ضرب بنيتها الاقتصادية والعسكرية وتدمير سمعتها، وإعادتها إلى ما كانت عليه عام 1991 على الأقل. 

وفي تصعيدها للحرب أرغمت الولايات المتحدة، أوكرانيا على عدم إجراء أو استمرار المفاوضات مع روسيا والوصول إلى تسوية أو حل لإنهاء الخلافات بينهما، متعهدة لأوكرانيا باستمرار إمدادها بمختلف المساعدات، وفرض أقسى العقوبات على روسيا، لإسقاطها، ساعية بكل إمكاناتها لضمّ بقية دول العالم للمشاركة في الإجراءات العقابية الغربية المتخذة ضد روسيا.

إلا أن العقوبات الغربية على روسيا كان لها مفعول عكسي، وبدلاً من تدمير الاقتصاد الروسي، تمكنت إدارة الرئيس بوتين من رد الكيل كيلين، ففائض التجارة الخارجية الروسية بلغ في الربع الثاني من هذا العام مستوى قياسياً، وسجل أكثر من 70 مليار دولار. بفضل ارتفاع أسعار السلع، وقدرة روسيا على تصدير النفط والغاز والحبوب والذهب. 

وأظهر الروبل استقراراً بل ارتفاعاً في قيمته أمام العملات العالمية، في الوقت الذي هبطت فيه قيمة العملات العالمية، اليورو والإسترليني والين، مع حدوث تضخم متصاعد في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية، وعجز لدى الدول الأوروبية في الطاقة، وهو مّا أدى إلى حدوث ارتفاع في أسعار الطاقة وحدوث التضخم.

والنتيجة أن هذه العقوبات جلبت لها المشكلات وأضرت بالعالم بأسره. فالقوى الاقتصادية العظمى في العالم وكثير من الدول الأخرى رفضت الانضمام إلى نظام العقوبات الذي تقوده واشنطن، بل على العكس، استمرت في رفع مستوى علاقاتها التجارية والمالية بروسيا. الهند والصين على الأقل كثفتا وتيرة وارداتهما من الطاقة من روسيا في نصف العام الماضي. وفي المقابل ازداد الركود في الاتحاد الأوروبي وأدّى إلى خسارة وأضرار متعددة، فبدأت الأصوات تتعالى للخروج من نظام العقوبات الغربية، وتحذر من مخاطر تقسيم جبهة الغرب المتحدة على أوكرانيا، حتى قبل أن تهدد شركة الطاقة الروسية العملاقة غازبروم رسمياً بقطع إمداداتها عن العملاء الأوروبيين. حيث أظهرت استطلاعات الرأي أن غالبية الأوروبيين يفضلون السياسات التي تقود إلى تسوية تفاوضية بدلاً من هزيمة روسيا.

وتتلخص الخسارة والأضرار التي لحقت بالاقتصادات الأوروبية بما يلي:

تأثر قطاع الإنتاج والخدمات في بعض دول الاتحاد الأوروبي بسبب العقوبات المفروضة على روسيا وأهمها:

1-  قطاع الإنتاج في الصناعات التي تستخدم مستلزمات التشغيل من روسيا، مثل صناعة الطائرات، والصناعات الخشبية، وصناعة الكهرباء، وكل الصناعات التي تستخدم النفط والغاز الروسيَّين والفحم الروسي والنحاس والألمنيوم.

2-  القطاع الزراعي، الذي يستخدم مستلزمات إنتاج مستوردة من روسيا، مثل سماد البوتاسيوم والحبوب والزيوت وزيت دوار الشمس.

3-  قطاع النقل الجوي بسبب إغلاق المجال الجوي الأوروبي أمام الرحلات القادمة من روسيا، وتلك الأوروبية التي تستخدم الأجواء الروسية. 

4-  القطاع المالي والاستثمارات المتبادلة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، ما أدّى إلى انهيار أسعار تلك الأصول المالية.

5-  قطاعات الخدمات، التي يستثمر فيها رجال المال والأعمال الروس في دول الاتحاد الأوروبي، وقيام السلطات الروسية بالتأميم ومصادرة فروع الشركات الأوروبية والأميركية التي أعلنت انسحابها من السوق الروسية. 

6-  خسارة إمدادات النفط، وتعذّر البحث عن بدائل لتعويضيها، وهو ما أدّى إلى ارتفاع غير مسبوق في أسعار قطاع النقل وجميع مستلزمات المعيشة، ومنها فواتير الكهرباء، ومنتوجات السلع المصنَّعة على سبيل المثال. 

7-  خسارة دول الاتحاد الأوروبي صادراتها إلى روسيا.

8- أدّى تقليص روسيا معاملاتها التجارية بالدولار أو اليورو، وتعزيز صيغة التعامل التجاري بالمقايضة، أو بالعملات المحلية المتبادلة بين دول ومراكز تجارية كبيرة، مثل الصين والهند وروسيا وإيران وفنزويلا وبعض الدول في أميركا الجنوبية وفي أفريقيا، إلى استكمال حلقة تفكيك هيمنة الدولار على نظم المعاملات الدولية.

     أما الأضرار المتوقعة في الاقتصاد الأميركي فهي أقل شأناً من تلك التي أصابت الاقتصادات الأوروبية. ويمكن حصرها في ثلاثة مجالات أساسية، هي: 

1-              انخفاض المعروض من منتوجات النفط ومشتقاته الواردة من روسيا أدّى إلى زيادة أسعار هذه المنتوجات في السوق الأميركية، فأثرت مباشرة في المواطنين الأميركيين.

2-              تردي الاستثمارات المالية وسوق الأوراق المالية العالمية. 

3-              خسارة بعض الشركات الأميركية العاملة في السوق الروسية، وخصوصاً في قطاعي الطاقة والصناعة.

4-              ارتفاع معدلات التضخم وارتفاع الأسعار أمام المستهلكين. 

5-              إمكانية حدوث انهيار للنظام المالي العالمي في نهاية عام 2022، إذا ما استمر ارتفاع معدّل التضخم في الولايات المتحدة الأميركية مع انخفاض القوة الشرائية للدولار الأميركي، ما يهدد بانهيار النظام المصرفي، وخصوصاً إذا ظل التضخم أعلى من الفائدة على القروض الممنوحة من المصارف فترةً طويلة. 

ومع ذلك، وأمام كل هذه المخاطر الدولية، تزداد الاستفزازات الأميركية، وتواصل تهديدها للسلم والأمن الدوليين. فبعد أن أنهت تحريضها الدول الأوروبية على روسيا الاتحادية، وإقحامها في الحرب القائمة الدائرة بينهما، ومنعها استمرار المفاوضات بين روسيا وأوكرانيا، قامت باستفزازات جديدة تجاه الصين. بدأتها بزيارة "نانسي بيلوسي" رئيسة مجلس النواب الأميركي لتايوان، ثم بإرسال وفد من الكونغرس لزيارة تايوان أيضاً، ثم قيام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأميركي، بالموافقة على مشروع قانون يقدم لتايوان 4 مليارات ونصف مليار دولار من المساعدات العسكرية، لتعزّزها أخيراً باستفزازات جديدة من خلال تصريحات الرئيس "بايدن" التي أكّد فيها تقديم الدعم لحماية تايوان فيما لو هاجمتها الصين.

جاءت قمة منظمة شنغهاي للتعاون (التي تجمع 60% من سكان العالم، وتستحوذ على أكثر من 30% من الاقتصاد العالمي، ومساحتها نحو 60% من مساحة آسيا وأوروبا، وتضمّ أربع دول ضمن النادي النووي، هي روسيا والصين والهند وباكستان) لتؤكد في بيانها الختامي، تعزيز التعاون في مجالات الدفاع والأمن والاقتصاد. وقد جدّد الرئيس الصيني "بينغ" رفضه لعالم أحادي القطب، ونقل العلاقة بين دول المنظمة إلى مستوى جديد من التعاون، والمساهمة في بناء مجتمع أوثق ومصير مشترك لدول المنظمة، وتحقيق السلام والاستقرار والتنمية والازدهار في المنطقة لإقامة نظام عالمي أكثر عدلاً وعقلانية، فيما أشاد الرئيس الروسي "بوتين" بـمراكز النفوذ الجديدة مشدداً على أن العلاقات بين بلدان منظمة شنغهاي للتعاون "مجردة من أي أنانية". وأشاد بالدور المتعاظم لمراكز النفوذ الجديدة الذي يتضح على نحو متزايد"، فالمنظمة يمكنها أن تقدم بديلاً حقيقياً من الهياكل والآليات التي تتمحور حول الغرب، وأن يلتزم أعضاؤها جميعاً بإنشاء نظام عالمي متعدّد القطب أكثر ديمقراطية وعدلاً، يقوم على المبادئ المعترف بها عالمياً. 

في النهاية، إذا كانت الحرب بين الأطلسي وروسيا تساهم في بناء نظام دولي جديد يقوم على التعددية، فإن قمة شنغهاي قد تشكّل المنصة الرئيسة لبناء عالم متعدد القطب، أي عالمٍ جديد، نداً للاتحاد الأوروبي ومجموعة الدول السبع. 

ونظراً إلى حجم التعقيدات المحيطة بهذه الحرب التي قد تمتد طويلاً، فإن الحرب فتحت صفحة جديدة في تاريخ العلاقات الدولية، تشكل حقائق جديدة على المسرحين الجيوسياسي والجيواستراتيجي، ستنجم عنها تغييرية كبيرة تؤدي إلى انقلابات وتحولات جوهرية وبنيوية في طبيعة النظام الدولي وتوازناته، تصل في النهاية إلى بزوغ تعددية قطبية عالمية.