الكره الصهيوني للإنسانية يطاول الكنيسة الأوكرانية

ينقل قرار زيلينسكي حظر الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية أجواء العالم إلى العصور الوسطى التي سادتها صراعات دينية كنسية مختلفة، كما ينقل مستوى الصراع العسكري إلى بعدّ إيماني أيديولوجي ثقافي.

  •  يدلّ قرار زيلينسكي على عمق الأزمة الأوكرانية وحدّتها.
    يدلّ قرار زيلينسكي على عمق الأزمة الأوكرانية وحدّتها.

يضفي قرار رئيس أوكرانيا الصهيوني زيلينسكي حظر الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية مزيداً من الوضوح على وحدة الصراع على خط الطول 38، الذي تصطف عليه صراعات العالم حالياً، وحيث يشكل الخط جبهةً بين الشرق الصاعد والغرب الصهيوني الذي يقاتل بكل شراسة لعرقلة هذا الصعود، وفي حيثيات قراره رقم 8371: "حظر الكنيسة الأوكرانية ومنعها من الوجود وتجريدها من ممتلكاتها".

على خط الطول 38، تتموضع حروب أوكرانيا وفلسطين واليمن. تأسّس الصراع على هذا الخط بعد سقوط محاولات مشاريع "الفوضى البنّاءة" التي طرحتها الإدارة الصهيوأميركية، لرسم العالم، وإعادة تقسيمه وفقاً لرؤاها ومصالحها الاستراتيجية، وكان من أهم أهداف المشروع الوصول إلى الصين لمنع نهوضها، لكونها المنافس الأول للولايات المتحدة الأميركية؛ الحاضنة الأكبر للحركة الصهيوأميركية.

ثمة مساران فرضا هذه الحروب استكمالاً واحدتهما للأخرى، المسار الأول، وعليه تأسّست الهيمنة الصهيوأميركية منذ بزوغ الحركة الصهيونية العالمية أواخر القرن التاسع عشر، وكانت إقامة الكيان الصهيوني في فلسطين من أولى أهدافها. المسار الأول هو مسار السيطرة التي استطاعت هذه الحركة إرساءها على مستوى عالمي، مموّهة بالكثير من السيناريوهات الاستراتيجية التي رافقت تطورات العالم، وخصوصاً في الحربين العالميتين الأولى والثانية. 

في سعيها للسيطرة، سعت الحركة الصهيونية إلى تأسيس الكيان الغاصب لفلسطين، والبداية أن طرحت على روسيا إبان الحكم القيصري قبولها بهجرة اليهود إلى فلسطين، تماماً مثلما طرحت ذلك على السلطان العثماني عبد الحميد الثاني. وجاء ردّ الاثنين بالرفض القاطع، فكان موقفهما أحد الأسباب التي أدّت إلى إسقاط حكم الأول عبر الثورة البلشفية  1917، وإسقاط الامبراطورية العثمانية في الحرب العالمية الأولى.

المسار الثاني هو حرب التحرر الوطنية الصينية التي استمرت زهاء 30 عاماً بقيادة "ماو"، وكانت الحركة الجذرية الأولى في العالم التي تصدّت بحق للهيمنة الغربية، وعلى قاعدة انتصارها، تمكّن الصينيون من بناء الصين الحديثة المنافسة الأولى للغرب (بغض النظر عن تطورات هذا التطور وأبعاده ومعانيه).

بين المسارين، حدثت الكثير من التطورات العالمية، أهمّها محاولات الغرب كبح صعود الصين كهدف أساسي، عبر استراتيجيات متعددة منها الحروب المباشرة، كحربي أفغانستان والعراق، ومنها التحركات التي جرت تحت عنوان "الربيع"، ما أفضى إلى دخول روسيا على الخط بعدما كانت نائمة عقب سقوط دولة الاتحاد السوفياتي. ونتيجة لذلك، وقعت حرب أوكرانيا بدعم هائل من الحركة الصهيوأميركية، ومنها إيالتها الكيان الغاصب لفلسطين.

هكذا ترابط الصراع بين أوكرانيا وفلسطين ودخول اليمن إسناداً على خط الصراع، ليتشكل الصراع كجبهة بين الشرق والغرب على خط الطول 38.

أوكرانيا

رفض القياصرة الروس، ذوو الهوية الدينية الأرثوذكسية، قيام دولة صهيونية في فلسطين. وبعدما تمكنت الثورة الشيوعية البلشفية من إسقاط الحكم القيصري، عمد زعيمها لينين إلى إعطاء أوكرانيا حكماً ذاتياً في ظروف غريبة لطالما تساءل الرئيس الروسي الحالي بوتين عن أسبابها من دون توضيح أبعادها، وثمة من يعتقد أن شعب أوكرانيا روسي الأصل، لكن تتجمع فيه أعداد كبيرة من الجالية اليهودية التي شكّلت عماداً للتدخلات الصهيونية في الإقليم.

وباحتدام الصراع الراهن بين أوكرانيا وروسيا، التي أعادت الاعتبار فيها إلى الكنيسة الأرثوذكسية،  ووضوح هوية الحرب الأوكرانية كحرب للصهيوأميركية، يلجأ زيلينسكي- الأوكراني-الصهيوني الهوية والانتماء والدعم إلى عزل الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية، ومنعها من ممارسة شعائرها، والقيام بدورها، كأنّه يعيد التذكير بالموقف القيصري من نشوء الكيان الغاصب في فلسطين.

قرار زيلينسكي لم يكن قراراً شخصياً فحسب، بل جرى سنّه في أروقة البرلمان الأوكراني، وجرى تمريره بعد وقت طويل من إعداده، ما يدل على المدى العميق الذي تعمّقت فيه اليد الصهيوأميركية في هذا البلد، ووصولها إلى مفاصله الدقيقة المُعبَّر عنه باشتراك أعضاء البرلمان بالقرار، وكأن العالم اليوم، في أوائل الألفية الثالثة، يستعيد أنفاس أواخر القرن التاسع عشر.

كذلك، يدلّ قرار زيلينسكي على عمق الأزمة الأوكرانية وحدّتها، فالكنيسة بمختلف هوياتها الدينية والوطنية والقومية، لم تتّخذ موقفاً منغمساً في الحرب، لكن حدّة الصراع تدفع إلى البحث عن أبسط الأثمان التي يمكن أن تعتبر مكتسبات حربية أو ربما لأسباب أخرى غير مرئية.

خط 38

ينقل قرار زيلينسكي حظر الكنيسة الأوكرانية الأرثوذكسية أجواء العالم إلى العصور الوسطى التي سادتها صراعات دينية كنسية مختلفة، كما ينقل مستوى الصراع العسكري إلى بعدّ إيماني أيديولوجي ثقافي يذكر بالحروب التي تشنها الحركة الصهيوأميركية على معتقدات العالم التقليدية عبر خلق مفاهيم تستهدف جوهر المعتقدات، مثل المثلية، والتحول الجنسي، ونشر مفاهيم الجندرة، والحدّ من التكاثر بلوغاً لتراجع عدد السكان، كما في العالم الغربي، والاهتمام بأنواع من الحيوانات ووضعها على مستوى الإنسان..

كما ينقل القرار الصراع إلى مستوى جهاز ديني لا يريد الانخراط في الحروب، وظلّ متمسكاً بدعوته الإنسانية. وبذلك، ينتقل الصراع على هذا البعد من أوكرانيا إلى المشرق، حيث رفضت الكنيسة الأرثوذكسية الأنطاكية (المشرقية) قرار حظر شقيقتها الأوكرانية، مثلما رفضت الكنائس المحلية احتلال فلسطين، وناصرت القضية الفلسطينية، وليس أكثر تعبيراً من ذلك مواقف المطران عطالله حنا، وقبله إيلاريون كبوجي ومطارنة آخرون من هويات مذهبية مختلفة.

كذلك، تذكر التطورات على هذا المستوى بالمجزرة التي وقعت في كنيسة بريفيريوس الأرثوذكسية في غزة، وبكل مجازر غزة، لتؤكد أن ليس للصهيونية أي اعتبار للإنسان، وللمفاهيم، والقيم الإنسانية، وهي تضعهم كلهم في خانة واحدة، كأنهم أضحيات وقرابين على هيكلها اللاهوتي، وفي خانة السبي المؤرخة في معتقدهم الموثّق في التوراة، في سفر التثنية-إصحاح 20 العدد 10. كما يمكن ملاحظة تكرار هذه المفاهيم في سفر إشعيا 61.

في ظل هذه الوقائع، لا غرابة في أن يحظر الصهيوني زيلينسكي الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية تعبيراً عن الكره الصهيوني لبني البشر.