الليل كأداة في الحرب النفسيّة: قراءة نفسيّة - تحليليّة في الصواريخ الإيرانيّة نحو العمق الإسرائيلي
لطالما مثّلت ناطحات السحاب والأبراج السكنيّة في تل أبيب وغوش دان رمزاً للتمدّن والنجاح. لكن الصليات الليليّة تُحوّل هذه الرموز إلى "مكشوفات" نفسيّة.
-
صواريخ أطلقت من إيران في سماء القدس المحتلة، ليل السبت 14-06 (أ ف ب)
في خضمّ الحرب الدائرة بين الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة والكيان الإسرائيلي، برز الليل كسلاح مكمّل لصليات الصواريخ التي تطلقها إيران أو القوى المتحالفة معها. ورغم تركيز الخبراء العسكريّين على أنّ الاستهداف الليلي يحدّ من فعاليّة أنظمة الدفاع الجوّي الإسرائيليّة مثل "القبّة الحديديّة" و"مقلاع داوود" وغيرها، بيد أنّ البعد النفسي العميق لهذه الضربات الليليّة يكشف عن تأثيرات لا تقلّ وطأة، إن لم تكن أشد، على البنية النفسيّة والاجتماعيّة للمجتمع الإسرائيلي.
الليل... رمز السكون والطمأنينة
في علم النفس التحليلي، يرتبط الليل بالهدوء، الراحة، واسترخاء الجهاز العصبي. إنّه الزمن الذي يسمح للعقل بإعادة ترتيب أحداث النهار، وللنفس بإعادة التوازن. النوم في ذاته يُعدّ وظيفة نفسيّة بيولوجيّة ضروريّة لإعادة شحن الطاقات وتنظيم العواطف. لكن، حين يُخترق هذا الزمن المقدّس لدورة الراحة بالإنذارات والارتجاجات الناجمة عن صفارات الصواريخ، يتحوّل الليل من ملاذ إلى مصدر تهديد.
فما الذي يعنيه أن تُفاجأ عائلة في الطابق السابع من برج سكني في "تل أبيب" في الساعة 2:00 فجراً بصفارة إنذار تدفعهم إلى إيقاظ أطفالهم والنزول المذعور إلى الملجأ؟ إنّ التكرار المتواصل لهذا النمط من الانتهاك الليلي يؤدّي إلى هشاشة نفسيّة مزمنة، واضطرابات نوم، وقابليّة أعلى للقلق واضطراب ما بعد الصدمة، كما يسبّب تفكّكاً في الشعور بالأمان الأساسي (Basic Trust) الذي تُبنى عليه حياة الإنسان في المجتمعات "المستقرّة".
الهشاشة في أعلى البرج
لطالما مثّلت ناطحات السحاب والأبراج السكنيّة في "تل أبيب" و"غوش دان" رمزاً للتمدّن والنجاح. لكن الصليات الليليّة تُحوّل هذه الرموز إلى "مكشوفات" نفسيّة. سكّان الأبراج يشعرون بأنّهم أكثر عُرضة، أكثر بُعداً عن الملاذ، وأكثر قرباً من السماء التي تنهال منها القذائف. فالفكرة نفسها أنّ الصاروخ قد يسقط على "أيّ أحد، في أيّ مكان، وفي أيّ لحظة" تُحدث شرخاً في البنية النفسيّة الجمعيّة، وتقلب مفهوم "الخط الأمامي" إلى "الكلّ مستهدف".
الليل... ذاكرة المعذبين تعود
ما بين بيروت وغزّة، وبين صور وصيدا ونابلس، عاش المدنيّون العرب تجارب مماثلة خلال العقود الماضية، حيث تكرّر مشهد الخوف الليلي، والغرف المعتمة، وصفارات الإنذار، وارتجاف الأطفال. كان الإسرائيلي يشاهد ذلك عبر الشاشات، كمن يراقب فيلمًا عن بعد. اليوم، يعاد المشهد ولكن مع تبادل مواقع الألم. الليل أصبح رهابًا، و"الهدوء" لم يعد طمأنينة بل تمهيدًا لصفارة تقطع سُبل الراحة.
تأثير الصدمة الليليّة المتراكمة
علم النفس الإكلينيكي يؤكد أن التعرّض المتكرّر للإنذارات في أوقات النوم يترك آثاراً تراكميّة، أخطرها:
· تثبيت مشاعر الخوف في الذاكرة الطويلة الأمد.
· فقدان الثقة بالمحيط، حتّى في أكثر البيئات "المؤمنة".
· شعور بالعجز والخضوع للقوى الخارجيّة، ما يفاقم الشعور بالاكتئاب والانسحاب الاجتماعي.
· اضطرابات نوم مزمنة وارتفاع في استخدام الأدوية النفسيّة والمنومات، وهو ما أظهرته إحصاءات إسرائيليّة سابقة خلال فترات توتّر مشابهة.
أمّا اليوم، فيتجلى الأثر الأعمق. فبحسب معطيات نُشرت في الصحف العبريّة كـ"معاريف" و"مكور ريشون"، فإن خطوط الدعم النفسي امتلأت حتى فاضت منذ الهجوم الليلي الإيراني بين الخميس والجمعة حيث سجّلت جمعيّة "نتال" المختصّة في تقديم الدعم النفسي لضحايا الإرهاب والحرب، ارتفاعًا يفوق 700% في عدد الاتصالات خلال الساعات الأولى فقط بعد الهجوم، معظمها ناتج عن نوبات هلع وخوف وجودي. وفي الليلة التالية، تصاعدت نسبة الاتصالات بنسبة 900%، إثر أحداث دامية في طمرة، بات يام، ورحوفوت، فيما أبلغت مؤسّسات دعم أخرى كـ"ساهر" و"عيران" عن ارتفاعات مشابهة بنسبة 145% و150%.
هذه الأرقام لا تعبّر فقط عن حالات فرديّة، بل عن بداية لهشاشة نفسيّة بنيويّة بدأت تتفكّك بفعل التراكمات: من "مجازر" 7 أكتوبر، مرورًا بأشهر الحرب الطويلة في غزّة ولبنان، وصولاً إلى صدمة الهجمات الإيرانيّة المباشرة. وقد عبّرت مديرة "نتال"، إفرات شافروت، بوضوح عن هذا الوضع بقولها: "نعيش أيامًا قاسية ومعقّدة. التوتر الدائم والانتظار القلق للمزيد من الصواريخ يولدان خوفًا عميقًا لدى قطاعات واسعة من المواطنين". أما د. شيري دانيلس من جمعية "عيران"، فاختزلت المأزق النفسي بالقول: "هذه ردود فعل طبيعيّة في وضع غير طبيعي. الانتظار السلبي يزيد من منسوب القلق، لذا من المهمّ البقاء نشطين حتّى ونحن في منازلنا".
إنه لأمر لافت أن تُسجّل أكثر من عشرة آلاف حالة طلب دعم نفسي خلال ثلاثة أيّام فقط، في مشهد يعبّر بوضوح عن انكشاف الطبقة النفسيّة العميقة للمجتمع الإسرائيلي، حيث ينهار "الحصن المعنوي" لا بالصواريخ فحسب، بل بالتذكير المؤلم أنّ الألم الذي اعتاد أن يُصدَّر، قد عاد ليستقرّ في القلب الداخلي للكيان.
مقارنة مع النهار: لماذا الليل أقسى؟
الاستهدافات النهاريّة، رغم خطورتها، تحدث في وقت يكون فيه الفرد يقظًا، ونظام الدفاع النفسي أكثر استعدادًا. أما في الليل، فالعقل في حال "انكشاف"، والجسم في طور ترميم، ما يجعل الاستهداف الليلي صدمة مزدوجة: جسديّة ونفسيّة. ولذا، فإن الاستهداف الليلي يحمل طابعًا أقرب إلى "الخرق الوجودي"، وكأنّه يعيد تشكيل وعي الإنسان وهويّته وموقعه في العالم.
في الحرب، الليل لم يعد للجميع
حين تُستخدم الصواريخ لتقويض الركيزة النفسيّة الأساسيّة للشعور بالأمان الليلي، تتحوّل الحرب إلى معركة على الوعي والعاطفة، لا مجرّد تبادل نار. وهنا، تكمن المفارقة: أنّ ما اعتادت "إسرائيل" أن تمارسه على غيرها، تجده الآن يتجسّد في شوارعها وملاجئها ووجوه أطفالها. فكما في بيروت وغزّة، كذلك في "تل أبيب". وكما أطفال لبنان وفلسطين، كذلك أطفال "إسرائيل" اليوم.
خاتمة: حين ينام الخوف على وسادة واحدة مع المستوطن
الصليات الليليّة ليست مجرّد رسائل ناريّة، بل رسائل شعوريّة – تقول إنّ أحداً لم يعد في مأمن، وإنّ الليل لم يعد حليفًا. وفيما تسعى "إسرائيل" إلى إعادة ترميم صورتها كقوّة رادعة، يتآكل تدريجيًا ذلك الأساس النفسي الذي قامت عليه دولة المهاجرين: "أن نكون في مأمن من أهوال العالم". وإذا كان الليل مرآة اللاوعي كما يقول التحليل النفسي، فإنّ صواريخ الليل تعيد تشكيل لاوعي الجماعة الإسرائيليّة، لا كأسياد للمنطقة، بل كفاقدين دائمين للأمن نتاج المجهول القادم من السماء.