المقاومة وإعادة تشكل الجغرافيا السياسية للمنطقة

الإطار الجيوسياسي الحالي يضع المحور الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الدول التي ترفض الهيمنة الأميركية، وعلى رأسها إيران ومحور المقاومة، ودول تتصارع اقتصادياً مع الولايات المتحدة مثل الصين.

  • جاء طوفان 7 أكتوبر ليذكر الجميع باستمرار القضية الفلسطينية ومركزيتها وعالميتها.
    جاء طوفان 7 أكتوبر ليذكر الجميع باستمرار القضية الفلسطينية ومركزيتها وعالميتها.

يدخل العدوان الصهيوني على غزة شهره التاسع في ظل فشل واضح، عسكرياً واستخبارياً وسياسياً. وعلى رغم دموية العدوان وتحوله إلى نوع من السلوك الانتقامي الأهوج فإن الكيان الصهيوني عجز عن استعادة أسراه أو تدمير المقاومة، فضلاً عن تحقيق أهداف سياسية بشأن ما كان يسميه "اليوم التالي" لما بعد القضاء على المقاومة الفلسطينية.

والحقيقة أن المقاومة في غزة، والتي كانت رأس حربة المواجهة ضد الاحتلال – وهذا ليس وليد اليوم – حقّقت جملة من الأهداف التي غيرت طبيعة التعامل مع القضية الفلسطينية التي بدأت التراجع بالتدريج، نتيجة ثلاثة عوامل أساسية: عملية التسوية كما تجسدت في اتفاق أوسلو، وعجز المجتمع الدولي، وتسارع عمليات التطبيع في المنطقة.

 بعد توقيعها في عام 1993، كانت اتفاقيات أوسلو تزرع وهماً كاذباً بإمكان بناء سلطة فلسطينية تحقق الحد الأدنى للشعب الفلسطيني في اتجاه بناء دولته المستقلة، غير أن كل الوعود سرعان ما تبخرت، ليكتشف الجميع أن الكيان الصهيوني لا يؤمن أصلا بالسلام وأن رؤيته الاستراتيجية تقوم على ترسيخ "يهودية الدولة"، ثم التمدد في جغرافيا المنطقة ضمن ما سماه شمعون بيريز الشرق الأوسط الجديد، ثم يأتي رفض المجتمع الدولي للتدخل، والذي بدأ بعد القرار "الأساسي" الذي اتخذه مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 23 كانون الأول/ديسمبر 2016  والذي كان بمثابة إعلان التخلي عن كل القرارات الأممية السابقة، التي على رغم كل ما يشوبها من نقص، فإنها تظل علامة اعتراف أممي بالحق الفلسطيني.

في كانون الثاني/يناير 2017، كان وصول دونالد ترامب إلى الرئاسة الأميركية بمثابة بداية فترة تمت فيها "إدارة" الوضع الفلسطيني وإعلان القدس عاصمة للكيان مع الدفع من أجل "تطبيع" العلاقات الصهيونية العربية. وعلى مدى عشرين عاماً تقريباً، كان الجميع يعلم بأن سلسلة كاملة من القرارات الدولية تُنتهك يومياً، في ظل سعي أميركي للدفع نحو نسيان الصراع الفلسطيني الصهيوني، كما لو أنه أصبح "صراعاً صغيراً ومنخفض الحدة".

وفتح هذا التصور الباب أمام تسارع وتيرة التطبيع والانتقال إلى مرحلة من التحالف الأمني والسياسي يجمع بعض الدول العربية والكيان الصهيوني بدعوى مواجهة محور المقاومة الذي يتمركز حول الجمهورية الإسلامية في إيران.

 ثم جاء طوفان 7 أكتوبر ليذكر الجميع باستمرار القضية الفلسطينية ومركزيتها وعالميتها. من الواضح أن دفع فلسطين بالقوة إلى واجهة المشهد الإقليمي كان واحداً من الأهداف المتعددة التي سعت المقاومة الفلسطينية لتحقيقها عندما شنت هجومها على الكيان في السابع من أكتوبر 2023. ومنذ ذلك الحين، أصبحت سوريا ولبنان واليمن أهدافاً ونقاط إطلاق نار.

التطور الجيوسياسي الأكثر إثارة للدهشة هو تعطيل حركة المرور البحرية التي تمكن أنصار الله من إحداثها في مضيق باب المندب. هذا التدخل غيّر النطاق الجغرافي للصراع، وتحول من البعد الإقليمي إلى المنطق العالمي، من خلال التهديد المباشر للسفن التي تعبر البحر الأحمر، بين مضيق باب المندب وقناة السويس. عتبتان استراتيجيتان ضروريتان لحرية حركة الاقتصاد المعولم والبحري، والتي يمر عبرها 30% من حجم الحاويات (15% من التجارة العالمية).

ولاحقاً أدى هجوم إيران على الكيان، ردا على الهجوم على سفارتها، إلى زيادة المخاطر الجيوسياسية بالنسبة إلى المحور الصهيوني المدعوم أميركياً، واهتزت المنطقة بسبب العمليات النوعية لحزب الله في لبنان وما أحدثته من آثار مدمرة في مستوطنات الشمال. وكشفت حالة التناسق بين قوى المقاومة الممتدة من فلسطين إلى لبنان واليمن والعراق أن تحالفات إيران مع "محور المقاومة" هي بين الأكثر استقراراً والأكثر استدامة في المنطقة، بل هي في سبيلها نحو إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط.

إن التصعيد في الشرق الأوسط، والحرب بين روسيا وأوكرانيا، والتوترات الجيوسياسية المتزايدة، تحدث على خلفية عالم منقسم إلى كتل متنافسة. إن الإطار الجيوسياسي الحالي يضع المحور الذي تقوده الولايات المتحدة ضد الدول التي ترفض الهيمنة الأميركية، وعلى رأسها إيران ومحور المقاومة، ودول تتصارع اقتصادياً مع الولايات المتحدة مثل الصين.

والأكيد أن عوامل، مثل فقدان نفوذ المؤسسات الدولية، ولا سيما الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، أدّت دوراً في تزايد عدم الاستقرار في جميع أنحاء العالم، فضلا عن عوامل الضغط، مثل تزايد عدم المساواة في الثروة، وشيخوخة السكان في الغرب وتغير أنماط الهجرة وتغير المناخ، التي تستنزف موارد الكوكب كلها، تتضافر لصناعة تحولات استراتيجية مستقبلية، وهذا ما يفسر حالة الهوس الأميركي بالوصول إلى صفقة في غزة توقف الحرب في ظل الخوف على مصير الكيان الصهيوني ذاته والمخاوف من مزيد توسع النزاع، وهو ما يعني أن محور المقاومة في صدد تغيير ملامح المنطقة وطبيعة الصراع وهو ما ستكشف عنه الأيام المقبلة.