المنطقة الاقتصادية وعقيدة الصدمة: جنوب لبنان ليس للبيع

الحرب الإسرائيلية المدمرة على لبنان في 2023 – 2024 أعادت طرح ملف "إعادة الإعمار" كعنوان أساسي. لكن هذه المرة، جاء المشهد مختلفًا.

  • المنطقة الاقتصادية وعقيدة الصدمة: جنوب لبنان ليس للبيع
    المنطقة الاقتصادية وعقيدة الصدمة: جنوب لبنان ليس للبيع

من يقرأ كتاب الصحافية الكندية نعومي كلاين «عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث» يظن للوهلة الأولى أنه يطالع سردية عن تشيلي أو العراق بعد الغزو الأميركي. لكن مع قليل من التمعن، سرعان ما يكتشف القارئ أن صفحات الكتاب تكاد تكون مرآة لما نعيشه اليوم في لبنان.

كلاين شرحت كيف تتحول الكوارث إلى فرص ذهبية للنخب السياسية والمالية: لحظة الانهيار أو الحرب تشكل حالة من الذهول العام، تجعل الناس عاجزين عن المقاومة أو المحاسبة. وهنا، تدخل الوصفات الجاهزة: خصخصة، رفع دعم، بيع أصول الدولة، وإعادة هيكلة الاقتصاد وإعادة إعمار لمصلحة القلة على حساب الأكثرية. إنها باختصار «رأسمالية الكوارث».

أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية: خطة مارشال كنموذج مبكر للهيمنة

من أبرز النماذج عن توظيف الكوارث لبسط النفوذ، تجربة أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. فبينما خرجت القارة مدمّرة ومنهكة، سارعت الولايات المتحدة إلى طرح "خطة مارشال" تحت شعار المساعدة على الإعمار. لكن هذه الخطة لم تكن مجرد دعم مالي، بل كانت مدخلًا لفرض النفوذ الأميركي على القرار الاقتصادي والسياسي الأوروبي: ربط الاقتصادات الأوروبية بالدولار، وفتح الأسواق أمام الشركات الأميركية، وتكريس التبعية لواشنطن في مواجهة الاتحاد السوفياتي.

بمعنى آخر، الكارثة الأوروبية تحولت إلى فرصة تاريخية للولايات المتحدة كي تعيد رسم النظام الاقتصادي العالمي بما يخدم مصالحها، وتجعل من "الإعمار" أداة استعمارية مغلّفة بشعارات المساعدة. وهو النموذج نفسه الذي يُستنسخ اليوم في لبنان عبر صندوق النقد والمانحين الدوليين.

لبنان: من الحرب إلى الانهيار

منذ الحرب الأهلية، عرف لبنان كيف تُستغل المآسي لإعادة صياغة اقتصاده. فمشروع إعادة الإعمار بعد 1990 جاء محمولًا على أكتاف "تلامذة مدرسة شيكاغو" الاقتصادية، التي أضعفت الدولة لمصلحة السوق، وراكمت الديون على حساب الطبقة الوسطى. واليوم، ومع الانهيار المالي منذ 2019، نشهد نسخة جديدة من «عقيدة الصدمة»: الشعب يُدفع إلى حافة الجوع، فيما تُفتح الأبواب أمام وصفات صندوق النقد الدولي، التي لا تعني سوى سحق الفقراء، وبيع ما تبقى من مرافق سيادية لشركات أجنبية.

الغاز وترسيم الحدود: الوجه الجديد للصدمة

لم تكن الأزمات المالية والسياسية بعيدة عن ملف ترسيم الحدود البحرية. جوهر التفاوض لم يكن فقط على خطوط وهمية في البحر، بل على ثروة الغاز الكامنة في أعماقه. أرادت واشنطن أن تجعل من الانهيار اللبناني ورقة ضغط وفقاً لفرض تسوية تخدم الشركات الرأسمالية الأميركية والأوروبية، بحيث يدخل الغاز اللبناني – إذا ما استُخرج – في شبكة إقليمية تحت سيطرة المنظومة نفسها التي تحاول فرض مشاريع التطبيع، ليكون الغاز أداة تطويع إضافية ضمن «عقيدة الصدمة».

خطة ترامب والمنطقة الاقتصادية في الجنوب

لم تقتصر المخططات على البحر، بل امتدت إلى البر. إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب حاولت تمرير فكرة إنشاء منطقة اقتصادية ( مستفيداً من صدمة نتائج حرب 2023 – 2024) في جنوب لبنان ضمن ما سُمّي بـ"المنطقة الاقتصادية لترامب". ما بدا على الورق مشروعًا "إنمائيًا" لم يكن سوى محاولة  لاختراق بيئة المقاومة وتحويل الجنوب – قلب الصراع مع العدو – إلى سوق تابعة لمشاريع أميركية إسرائيلية بتمويل خليجي تحت شعار "السلام الاقتصادي".

إنها ليست خطة استثمارية بل أداة استعمارية جديدة: يريدون إخضاع المقاومة عبر "الإنماء" بعدما عجزوا عن إخضاعها بالحرب. أرادوا تحويل الجنوب من خندق المواجهة إلى حديقة خلفية للكيان الصهيوني، وربطه بمنظومة إقليمية للتطبيع الاقتصادي في مرحلة أولى تمتد من تل أبيب إلى الخليج.

إعادة الإعمار بعد حرب تموز 2006: المقاومة تبني من الداخل

حين دمّرت "إسرائيل" الجنوب في عدوان تموز 2006، راهن الأميركي والإسرائيلي على أن الناس سينقلبون على المقاومة. لكن ما حدث كان العكس: المقاومة وحلفاؤها قادوا عملية الإعمار من الداخل، بسرعة لافتة، وبدعم شعبي جعل الجنوب ينهض من الركام "أجمل مما كان". لم تُستخدم المساعدات كأداة ابتزاز، بل جاءت مشاريع "الوعد الصادق" الإعمارية جزءًا من مشروع الصمود. لذلك فشلت رهانات العدو على تحويل الأنقاض إلى ورقة ضغط.

إعادة الإعمار بعد حرب 2023 – 2024: الفخ الجديد

الحرب الإسرائيلية المدمرة على لبنان في 2023 – 2024 أعادت طرح ملف "إعادة الإعمار" كعنوان أساسي. لكن هذه المرة، جاء المشهد مختلفًا: واشنطن وحلفاؤها سعوا لتحويل ركام البيوت والبنى التحتية إلى ورقة سياسية واقتصادية تحت وقع "صدمة الحرب والدمار".

أميركا وخلفها "إسرائيل" بدت وكأنها تعرض دعمًا مشروطًا: تمويل يأتي مقابل نزع سلاح المقاومة وفرض إصلاحات اقتصادية على مقاس المؤسسات الدولية. أما بعض الدول الخليجية، فقد حاول استغلال المأساة لإعادة إدخال مشاريعه في الجنوب، على شكل مساعدات مشروطة بفتح الباب أمام الاستثمارات المشتركة مع الإسرائيليين، كأن الجنوب "منطقة تطوير مشترك" لا أرض مواجهة.

بهذا المعنى، لم يكن الركام مجرد مشهد إنساني، بل تحوّل إلى أداة ابتزاز: تريد القوى الدولية أن تجعل إعادة إعمار البيوت رهينة بمقايضة سياسية – التخلي عن معادلة الردع مقابل وعود بشيك مفتوح للإعمار وأن يختصروا الجنوب في "مشروع اقتصادي" قابل للتفكيك والبيع.

إعمار الكرامة مقابل إعمار التطويع

الفرق الجوهري بين 2006 و2023 – 2024 أن الأول كان إعمار الصمود والعزة: انطلق من الداخل، بتمويل مقاوم ودعم شعبي، جعل الإعمار جزءًا من معركة الكرامة والسيادة. أما الثاني فيحاول أن يكون إعمار التطويع: ربط التمويل والمال الخارجي بفرض شروط سياسية وأمنية، وتحويل الركام إلى ورقة ضغط لانتزاع تنازلات من بيئة المقاومة.

إعمار 2006 كان تثبيتًا لمعادلة الردع. أما إعمار 2023 – 2024، كما يُراد له، فهو مشروع لإسقاطها. لكن هنا يكمن الفارق: الجنوب الذي قاوم في 2006، وصمد في 2024، لن يقايض دماءه ولا سيادته بالمال المشروط، أيًا كان مصدره.

ما بين الصدمة والمقاومة

ما غاب عن واضعي هذه المخططات أن الجنوب ليس مجرد جغرافيا متعبة تبحث عن فتات، بل هو الأرض التي صنعت معادلة الردع وأسقطت كل رهانات الاحتلال. لذلك فإن ما يسمّى بـ"السلام الاقتصادي" لن يكون إلا سلامًا وهميًا، لأن شعبًا قدّم أغلى التضحيات لن يقايض دماء شهدائه برزمة مشاريع مشبوهة تُدار من واشنطن وتل أبيب. هذه الأرض لا يمكن أن تكون ورقة في بازار صالونات تلامذة مدرسة شيكاغو. ومن عاش تجربة حرب تموز يعرف أن البيوت تُبنى من جديد، أما الكرامة والسيادة فغير قابلتين للمقايضة تحت أي عنوان برّاق.

الخاتمة: الجنوب ليس للبيع

الجنوب الذي تحاولون إغراءه بالإنماء المشبوه، هو نفسه الذي واجه القنابل والعقوبات ولم ينكسر. الجنوب الذي تريدون تحويله إلى منطقة اقتصادية تحت إشراف الخارج، هو نفسه الذي رفع راية المقاومة بوجه أعتى آلة عسكرية. الجنوب ببساطة ليس للبيع، لا في البر ولا في البحر، لا بالمناطق الاقتصادية ولا بالغاز.

ومن يراهن على شراء وعي الجنوبيين عبر مشاريع أميركية وإسرائيلية، سيتلقى درسًا قاسيًا: لا صفقة، ولا مشروع، ولا وعود مالية تستطيع شطب دماء الشهداء، أو طمس إرادة شعب صمد في أصعب الظروف. واشنطن وتل أبيب يمكنهما أن تخططا، لكن الجنوب سيبقى حصنًا للسيادة والمقاومة، ولن يكون أبدًا سوقًا للبيع أو جغرافيا في مخططات الاستعمار الجديد.