بين الحجب والاستثمار "العراق" في دائرة اختبار السيادة الرقمية
العراق بحاجة إلى حلول مستدامة من خلال تحديث الإطار القانوني وتوفير حوافز استثمارية لصناعة محتوى محلي ذي جودة تخلق تنافسية تقلّل الاعتماد على المحتوى الأجنبي المُقرصن.
-
السيادة الرقمية في العراق (وسائل التواصل الاجتماعي).
هي القرصنة أم الشراكة تلك التي يحاول المتحكّمون بحدود وجغرافيا خارطة صناعة المحتوى الرقمي في العراق رسمها في تحالف دولي تحت شعار "#عراق بلا قرصنة"؟ في حلف يضمّ جهات كبرى معروفة أمثال (MBC، Netflix، Disney، Warner Bros سينمانا ـــــ شبكتي، وفودو) أبدت قلقها من حجم القرصنة في العراق!
إذ تُظهر هذه الخطوة تحوّل المعركة في السيطرة على "المشاهدات" وحصريّتها مروراً باحتكار نافذة النقل المباشر وصولاً إلى لغة الخطاب وصناعة الرأي العامّ بغية الحدّ مما بات يُعرف بـانتهاك الملكية الفكرية من نطاق الإنفاذ القانوني إلى ساحات تأثير رفيعة المستوى إعلامياً وسياسياً، إذ إنها لم تعد مجرّد مشغّل تقني بل صارت ضغطة سياسية دولية تُقاس بتكلفة سوق وسمعة الوطن.
فمن المسؤول عن ذلك؟ ولماذا نُخصخص كلّ شيء في هذا البلد ولدينا هيّأة الإعلام والاتصالات ووزارة الاتصالات ولكلّ منها مهمات ومساحات رسمية وطنية ينبغي أن تكونا البوابة الرسمية لدائرة السيادة الفكرية والاستثمارية والتشريعية في فضاءَي البثّ والإرسال من جهة والبيئة الرقمية من جهة أهمّ وأخطر!
فمن حيث الخلفيّة والوقائع الأساسية نجد انتشار منصات بثّ مقرصنة في العراق قائمة منذ سنوات تشخّصها تقارير مستقلّة ومواقع متخصصة رصدت شيوعها واعتماد الجمهور عليها؛ إما لغياب البدائل القانونية أو لضعف القدرة الشرائية، ومن ثمّ انتقل الأمر إلى مستوى منظّم بعد قمّة أو مبادرة موسومة بـ"Iraq Without Piracy" التي حضرها تمثيل رسمي عراقي وصنّاع سياسات محليون ودوليون أجمعوا علانية على إجراءات حكومية لحجب أو إغلاق الخدمات المخالفة، فضلاً عن طرح حلفاء الصناعة العالمية بحسب ما أسموه بـ "الخسائر المالية وحماية حقوق الملكية".
وفي تحليل راهن نستفهم: لماذا بهذا التوقيت؟ لنجد الإجابة من عدة جوانب، فمن حيث التجاري والتقني فقد انتشرت أدوات IPTV والـ OTT مع تراجع كلفة البثّ وسهولة استضافة المحتوى، أضف إليها أنّ القطاع القانوني الدولي صار أكثر تنظيماً وتعاوناً من خلال اتحادات وشراكات "احتكارية" في حقوق البثّ.
ومن حيث السياسي والدبلوماسي راحت الشركات الكبرى تُحوّل ملف القرصنة إلى ملف سيادي، وهناك مواقف جهات دولية تضغط على الحكومات لفرض رقابة أو عقوبات مؤثّرة على البنية الرقمية.
أما من الناحية الاجتماعية فالجمهور العراقي اختار الملاءمة الاقتصادية والمجانية، ما يزيد الإشكالية الأخلاقية والقانونية ويضع المسؤولية على مؤسسات الإعلام المحلي والحكومية.
وبإزاء ذلك أمامنا ثلاثة سيناريوهات مستقبلية محتملة:
الأول: أنّ الحكومة العراقية تقبل شروط تحالف الحقوق وتتعاون مع مقدّمي خدمات الإنترنت لحجب ـــــ إغلاق المنصات المخالفة ومن ضمنها شركات البثّ التي تستثمر في محتوى مخصّص للعراق مع خطط تسعير مناسبة، وبالتالي سنخلص إلى نتيجة توفّر تقليلاً ملموساً في منصات القرصنة وعودة الاستثمار المؤسساتي وهذا يعتمد على مؤشّر نجاح يعتمد على سرعة التشريع وتوافق مزوّدي الخدمة.
الثاني: التملّص الجزئي وهو عبارة عن إجراءات حكومية متقطّعة التوقيت والتنفيذ لإغلاق بعض المواقع لكنّ التحدّي هاهنا هو بروز بدائل فورية أو انتشار شبكات VPN ومنصات تعتمد المراوغة في التملّص وبهذا تظلّ السوق شحيحة للاستثمار طويل الأجل وقد يؤدّي ذلك إلى العزلة الرقمية.
الثالث: المواجهة ورفض حاسم للإملاءات الخارجية أو ضعف قدرات الإنفاذ من خلال حملات وقف الاستثمار من شركات كبرى أو التفاهم الرسمي المباشر معها بوصفه أمناً وطنيّاً وقومياً وهو على الأغلب قد يترك أثراً اقتصادياً طويل الأجل في سوق #الإعلام الرقمي بالعراق وخسارة فرص تدريب وصناعة محتوى محلي احترافي.
ولهذه السيناريوهات تحدّيات رئيسة منها:
*البنية التشريعية وغياب إنفاذ قوانين الملكية الفكرية بنكهة حداثوية ملاءمة لواقع العصر الرقمي ـــــ الذكي قابلة للتنفيذ بعيدة عن تحاصص الأحزاب والمجموعات المتحكّمة بالتراخيص والموافقات.
*بنية الإنترنت وموفّرو الخدمة من الضعفاء أو المتواطئين فنياً وتقنياً.
*قدرة الجمهور الشرائية المحدودة تجعل البدائل القانونية أقلّ جذباً.
*نقص صناعة محتوى محلّي جذّاب ومنظّم تجارياً يقلّل من فرص الاشتراك.
*مخاطر الدبلوماسية الرقمية من خلال إجراءات سريعة قد تُفسّر كضغوط خارجية قد تثير ردود فعل سياسية محلية.
وبناءً على ما تقدّم ذكره نحن بحاجة إلى حلول مستدامة من خلال تحديث الإطار القانوني وتوفير حوافز استثمارية لصناعة محتوى محلي ذي جودة تخلق تنافسية تقلّل الاعتماد على المحتوى الأجنبي المُقرصن، تعزّزها شراكات تقنية من الشفافية إلى التقنين من خلال وضع قواعد تعاونية بين مزوّدي الإنترنت ومالكي الحقوق على بنود واضحة لحجب المحتوى بعد إنذارات تحذيرية ومن ثم قضائية، وبالتالي رفع القدرة الشرائية الرقمية من خلال حزم مدفوعة محلية ومدفوعات إلكترونية مبسّطة وسياسات تحفيز للاشتراكات العائلية وخيارات مدفوعة.
أضف إليها أن تكون ملاءمة لعاداتنا وتقاليدنا وديانتنا لأنّ عراقنا عبارة عن فسيفساء متعدّدة الألوان والتاريخ والأعراق، وهذه أهمّ الحلول لتهذيب المحتوى الذي بات أداة هامّة في معادلة صناعة الحروب وتسطيح العقول وصراع الأفكار وتجهيل المجتمعات من خلال ضرب "قيمهم وقيمتهم وتاريخهم ومقدّساتهم"، ولا سيما في محيط العراق الذي يشهد تغيّرات جيوسياسية وديموغرافية بـ كرونولوجيا الأحداث التي تسعى في التهديم لا البناء والله المستعان.