بين مهسا وغزّة... لا ازدواجيّة في المعايير!

لقد كانت مهسا عنواناً، غطاؤه حقوق الإنسان وحرية المرأة. كانت عنواناً تمّ استثماره بأعلى درجات الاستثمار، ليكون ضربةً سياسيّة للنظام في إيران، فالهدف هو النظام، وعين الأميركيّ عليه.

  • الحرب على غزة.
    الحرب على غزة.

حدثان بفارقٍ زمنيّ ليس ببعيد، سنة واحدة وبضعة أسابيع...

الحدث الأوّل

الزمان الجمعة 16 أيلول/سبتمبر 2022م، المكان: العاصمة الإيرانيّة طهران، الحدث: ضحيّة من ضحايا العنف ضدّ المرأة في إيران!

ضجّ العالم بهذا الاسم، مهسا أميني؛ شابّة إيرانيّة ألقت شرطة الأخلاق في إيران القبض عليها، وتوفيت بعد 3 أيّام.

قامت الدنيا ولم تقعد. لم تبقَ جمعيّة تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة إلّا وتحرّكت. عناوين لافتة وخطوط عريضة عن تظاهرات مليونيّة حاشدة وموجة احتجاجات واسعة، وأنّ النساء في جميع أنحاء العالم، من أقصاه إلى أقصاه، أظهرْنَ دعمهنّ، من بينهن شهيرات قمن بقصّ شعرهنّ كفعل تحدٍّ لهذه الحادثة.

عبارات ملأت الفضاء، وضجّت بها الأقلام، وتناقلتها وسائل الإعلام: "أشهر ضحايا العنف ضدّ المرأة"، "وفاة في ظروف غامضة"، "غضبٌ عالميٌّ عارم"...

المفوضيّة السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين نشرت تقارير عدّة حول العنف ضدّ المرأة في إيران.

عشرات المنظّمات الدوليّة الحقوقيّة نشرت بياناتٍ تُدين العنف الذي تمارسه شرطة الأخلاق على النساء.

وزارة الخزانة الأميركيّة فرضت عقوباتٍ على عددٍ من قادة شرطة الأخلاق وقادة آخرين في منظّمات أمنيّة ثانية.

منظّمة العفو الدوليّة طالبت بفتح تحقيقٍ جنائيّ في الحادثة، وبضرورة تقديم جميع الضبّاط والمسؤولين عن هذه القضيّة إلى العدالة.

وزارة الخارجيّة الأميركيّة، في الذكرى الأولى لمقتل مهسا أميني، أدرجت في لائحة العقوبات 25 فرداً إيرانيّاً و3 وسائل إعلاميّة مدعومة من الدولة الإيرانيّة وشركة إيرانيّة تُعنى بأبحاث الإنترنت.

واللائحة تطول...

الحدث الثاني

الزمان السبت 7 تشرين الأوّل/أكتوبر 2023م، المكان: غزّة - فلسطين، الحدث: عمليّة طوفان الأقصى.

في الساعات الأولى من صباح هذا اليوم، أُعلِن عن عمليّة طوفان الأقصى، ردّاً على الانتهاكات الإسرائيليّة في باحات المسجد الأقصى، واعتداء المُستوطنين الإسرائيليّين على المواطنين الفلسطينيّين في القدس والضفّة والداخل المحتلّ، وبعد...

40 يوماً حتى الساعة من القصف والدمار والقتل والمجازر، بما لا يمكن وصفه. 32 ألف طنّ من المتفجّرات، وأكثر من 13 ألف قنبلة على قطاع غزّة الذي تبلغ مساحته 365 كلم 2، وعدد قاطنيه يزيد على مليونَي نسمة...

40 يوماً، وعدد الشهداء يزيد على 11300 شهيد، ناهيك بحجم الدمار والحصار والتهجير... ولا توجد محرّمات، كلُّ شيء مباح، والقصف يطال المدارس، يطال أماكن النازحين، يطال المستشفيات!

11300 شهيد بين أطفال ونساء ورجال، ولكن ليس بين هؤلاء مهسا أميني!

نعم، مهسا أميني امرأة إيرانيّة، توفيت جرّاء نوبة قلبيّة مفاجئة. تقوم الدنيا ولا تقعد، ويصدر وزير الخارجيّة الأميركيّة بلينكن قرار عقوباتٍ على شخصيّات وقنوات إيرانيّة انتصاراً لمهسا أميني التي تُوفيَت بظروفٍ قد تكون طبيعيّة في الغالب، وليس من الضروريّ أو المؤكَّد أنّها بفعل فاعل أو نتيجة تأثير عواملَ معيّنة... هذا الوزير عينه في لقاءٍ مع بعض وزراء الخارجيّة العرب في العاصمة الأردنيّة عمّان رفض أيَّ وقف لإطلاق النار في غزّة! بل كان أقصى ما يدعو إليه هدنات إنسانيّة، وهو يعلم أنّ طلبه مرفوضٌ من قِبل رئيس حكومة الكيان الغاصب نتنياهو.

آلاف النساء، آلاف الأطفال... يُقتَلون، وبشكلٍ دمويٍّ علنيٍّ سافر، على مرأى من العالم أجمع، آلاف المفقودين، ولا منظّمات حقوقيّة! فأين تلك الجبهة التي أشعلت العالم لأجل مهسا أميني؟ أين هي من عَدّاد الموت في غزّة؟

كثيراً ما كنّا نسمع عن الكيل بمكيالَين، عن ازدواجيّة المعايير، وأنّه مفهوم أو مصطلحٌ يدلّ على نمطَين من التعامل مع شرائح مختلفة من الناس؛ نَمط يكون مقبولاً، بل واجباً أحياناً مع شريحةٍ ما، وهو عينه يكون محرّماً ومرفوضاً، فقط لكونه مع شريحةٍ أخرى، ثمّ يُبرّر هذا المفهوم ويُحتجّ له بأنّ الحياة ليست عادلة!

هل ما يحصل في غزّة اليوم هو مصداق لازدواجيّة المعايير؟ هل ثمّة مكيالان في الأمر؟

في رأيي، إنّ الحاصل في غزّة خارج المعايير المتوقّعة والمحتملة، حتّى نتكلّم على الازدواجيّة. لقد بات من نافل القول الكلام عليها، بل إنّ ثبوت الازدواجيّة فرع ثبوت المعايير، حتّى تستطيع المقارنة بينها، ثمّ الحكم عليها... لكن ما يحصل في غزّة اليوم لا يمكن أن يُقارَن بأيّ فعل...

وإن استطعت مقارنته، ففي رأيي أنّه بقليلٍ من التأمّل لن تحكم بالازدواجيّة. نعم، لا يوجد مكيالان هنا، بل مكيالٌ واحد، نسق واحد، سياسة واحدة، هدف واحد!

لا فرق بين ردّ الفعل لأجل مهسا أميني وردّ الفعل لأجل نساء غزّة!

نعم، لا فرق سوى في الغطاء الخارجيّ، فقط في الإخراج؛ فما مهسا أميني إلّا مطيّة امتطاها الاستكبار الأميركيّ ليطال إيران الداعمة لجبهات المقاومة، فهل يظنّ عاقلٌ أنّ لمهسا كرامةً واعتباراً عند الأميركيّ؟! ألم يمُت جورج فلويد صاحب البشرة السمراء قتلاً، وعنقه تحت ركبة شرطيّ أميركيّ في مدينة منيابولس بولاية مينيسوتا منذ 3 سنوات؟! فهل هذا النموذج المصغَّر عن أسياده وحكّامه يمكن أن يتحرّك ضميره لمواطنةٍ إيرانيّة توفيت إثر نوبة قلبيّة؟!

لقد كانت مهسا عنواناً، غطاؤه حقوق الإنسان وحرية المرأة. كانت عنواناً تمّ استثماره بأعلى درجات الاستثمار، ليكون ضربةً سياسيّة للنظام في إيران، فالهدف هو النظام، وعين الأميركيّ عليه، لا على شيء سواه.

والآن في غزّة، العين على حماس والفصائل الفلسطينيّة، العين على المقاومة، وهم ليسوا بحاجةٍ إلى غطاءٍ لذلك، وإنّ مَن يدعم حماس والفصائل هي إيران التي استماتوا دفاعاً بالأمس عن حقوق مواطنةٍ من مواطنيها!

لم تعد لغة الازدواجيّة نافعة ولافتة، بل إنّ من السذاجة بمكان أن يخرج أحدٌ ليناقش هذا الأمر ويثبته. ثمّة محوران يدوران في العالم اليوم: محور أميركا والاستكبار العالميّ، ومحور المقاومة لهذا الاستكبار وهذه السيطرة... وإنّ منظّمات العالم كلّه، من حقوقيّة وغيرها، لن تجدي نفعاً، فهي منظّمات وجمعيّات ومُسمَّيات شتّى تدور في فلك معيّن، ولديها مهام معيّنة، وتتحرّك وفق أوامر وتوجيهات، كما بات وضحاً وبيّناً.

الكلمة اليوم هي للميدان، الكلمة لصواريخ اليمن والعراق، للجبهة المفتوحة في لبنان، للمدد والعون الدائم من إيران، هذا ما ينفع دعماً لغزّة وأهلها ونصرةً لمقاومتها؛ أمّا مَن هم في فلك الاستكبار الأميركيّ من العرب، ففي رأيي أنّه أيضاً لا جدوى من مناشدتهم ولا نفع من مطالبتهم بالدعم والنصرة، فقد بتنا نحتاج اليوم إلى مطالبتهم بأن لا يُسقِطوا صواريخ اليمن المتّجهة إلى إيلات!

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.