حرب غزة.. فيتنام "إسرائيل" وأفغانستان نتنياهو

علمت قيادة المقاومة أن العدو يبحث عن أي انتصار وهمي، وهو ما منحته إياه بتفريغ بعض المواقع العسكرية التي يتوهم الاحتلال بأن قيادتها فيه، فيتقدم ويسيطر عليه. وبعدها، ينقض المقاومون عليه بالرصاص والقذائف الصاروخية. 

  • دمار واسع في
    دمار واسع في "تل أبيب".

أغرب قضية في الحياة هي القضية الفلسطينية، وأكثر القضايا السياسية تعقيداً هي القضية الفلسطينية. في المقابل، أكثر القضايا وضوحاً في الحل هي القضية الفلسطينية، وهي أيضاً أكثر القضايا التي تُرفض الحلول بخصوصها.. 

بكل اختصار، يمكن تفسير القضية الفلسطينية بالتالي: "شعب لديه أرض وإرث تاريخي وديني ودولة وكل شيء، ثم يأتي آخرون يحملون أفكاراً دينية سنقول إن جلّها ليس صحيحاً، على الرغم من أن جميعها كاذبة، ويحتلون أرض ذلك الشعب ويهمشونه ويطمسون إرثه التاريخي والديني ويدمرون دولته ويقيمون دولتهم". 

هذه هي القضية الفلسطينية باختصار، ثم تأتي الولايات المتحدة والمجتمع الدولي ليقولوا إن حل القضية الفلسطينية الوحيد هو حل الدولتين: دولة "إسرائيلية" وأخرى فلسطينية، متجاهلين أن الدولة الأولى قائمة فعلياً على أنقاض الدولة الثانية، وترفض الاعتراف بها، وتجهض محاولات قيامها كلها، بل وتنسفها. 

ما يجري الآن في قطاع غزة هو كابوس رعب حقيقي لجيش الاحتلال الإسرائيلي؛ فالمقاومة الفلسطينية حضرت لهذه المواجهة منذ أشهر، وقسمت قواتها العسكرية لفرق وفيالق تشبه الجيوش النظامية، ولكن ضمن حرب العصابات، وهذه الحرب هي ما ترهق الجيوش النظامية وتضعفها وتنسف مفاعيل قوتها كلها، فكيف إذا كانت حرب عصابات مرفقة بعقيدة قتالية ودينية كبيرة!

وفي حروب الجيوش النظامية، يجب أن يكون عدد القوات المهاجمة ثلاثة أضعاف القوات المدافعة، ولكن بمثل هذه الحروب يجب أن تكون عشرة أضعاف وأكثر حتى تضمن جزءاً من الانتصار، لأن الجزء الأساسي سوف تأخذه بالمفاوضات، وبالتالي مهما جيّش كيان الاحتلال وجمع قواتٍ، فإنه لن يستطيع كسر المقاومة في غزة، لأنها فعلياً محتاجة إلى مليون جندي، وليس 350 ألفاً فقط. 

الحرب على قطاع غزة غير متوافقة كماً ونوعاً، ولكن المقاومة سيّرتها لمصلحتها بطريقة ذكية إلى أبعد الحدود، والمقاومون كانوا في الأنفاق قبل بداية طوفان الأقصى بمدة بعيدة. وعلى الرغم من المجازر والقصف اليومي والعنيف، فإن المقاومين يتمتعون بهدوء كبير وسكينة منعتهم من التعجل في أي رد فعل.

خير دليل على ذلك هو الفيديوهات التي خرجت عن مواجهة المقاومين للتوغل البري، كيف كانوا يبدون منظمين وهادئين في المواجهة، وحتى في الرصد والقصف والتوثيق. ولفتني هنا مشهد لهم في الأنفاق، كيف كانوا يكبرون بهدوء منقطع النظير وسكينة تشبه السكينة التي نزلت على النبي محمد صلى الله عليه واله وسلم وأصحابه في أثناء غزوة الخندق.

جيش الاحتلال اعتمد أسلوباً جديداً في الاقتحام، هو أسلوب الـ72 ساعة، أي أنه يبدل الجنود الذين دخلوا إلى تخوم القطاع كل 3 أيام. واللافت أن من يدخل سليماً جسدياً ونفسياً، يخرج مصاباً أو قتيلاً أو مريضاً نفسياً، على الرغم من أن الحرب البرية في بدايتها، ومنهم من بات يتحدث عن أشباح تخرج لهم في غزة.

وقد أطلقوا مصطلحاً عسكرياً جديداً هو "فتحات العيون" أو "فتحات الموت"، فمن داخل فتحة في الأرض داخل أرض زراعية أو حارة فرعية، ومن لا شيء، وخلف خطوط العدو، يخرج المقاوم الفلسطيني ليستهدف جيش الاحتلال من نقطة الصفر وينسحب بكل هدوء وهو يوثق عمليته من الألف إلى الياء.

وقد علمت قيادة المقاومة أن العدو يبحث عن أي انتصار وهمي، وهو ما منحته إياه بتفريغ بعض المواقع العسكرية التي يتوهم الاحتلال بأن قيادتها فيه، فيتقدم ويسيطر عليه. وبعدها، ينقض المقاومون عليه بالرصاص والقذائف الصاروخية. 

قادة المقاومة صريحون للغاية. مثلاً أبو عبيدة المتحدث الرسمي باسم كتائب عز الدين القسام، يتحدث بكل وضوح عن العملية وكيف اخترق جيش الاحتلال قطاع غزة، وكيف تقدم، وإلى أين وصل، والتفاصيل كلها، ولا يخفي أي تفصيل، حتى لو كان صغيراً أو كبيرًا.

وقد تحدّث مثلاً عن مدى اختراق العدو قطاع غزة، وكيف تقدم، وإلى أين، وكيف وُوجِه، وأي نقاط دخل، وأين تمركز. وإلى اليوم، لم أرَ متحدثاً عسكرياً يتحدث بهذا الوضوح. وهنا، ظني يقول إن أبو عبيدة أكبر من مجرد متحدث. ومن يتابع طريقة حديثه وأسلوبه وارتجاله يعلم أنه قائد عسكري فعال في القسّام، ولديه صوت في القيادة لا يقل عن القادة الكبار في القسّام، مثل محمد الضيف ومروان عيسى. 

المقاومة الفلسطينية لديها شروط أساسية لوقف الحرب. هي الآن مع هدنة ووقف للغارات، ولكن لتنهي الحرب تماماً، فلديها شروط عدة، أبرزها إطلاق سراح الأسرى الفلسطينيين جميعهم، وإنهاء ملف الاعتقال الإداري بالكامل، وفك الحصار عن قطاع غزة، وإقامة مطار ومرفأ لقطاع غزة. ومن دون هذا، لن تكون هناك نهاية للحرب ولا إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، وزمام المبادرة بيد المقاومة. وحتى الآن، لم يحرر الاحتلال أسيراً واحداً أو حتى جثة من دون قرار من المقاومة.

هذه الحرب جعلت الجميع يبحث عن الحل، لأن الإعلام العربي والإسلامي ومواقع التواصل الاجتماعي التي أدارها الشارع العربي باحتراف شكلت كلها أداة ضغط حقيقية على الغرب ودفعتهم إلى البحث عن حل القضية الفلسطينية وقضية المنطقة عموماً لنزع فتيل المواجهة في المستقبل وإعادة وديعة رابين إلى السطح من جديد، أي دولة فلسطينية وحدود 1967 وسلام مع دول المنطقة ككل، وخصوصاً أن الخارج بدأ يتنكر لقادة الاحتلال بسبب هذه الجرائم، والداخل بدأ ينتفض بوجه حكومة المتطرفين بزعامة بنيامين نتنياهو.

خوف نتنياهو من السجن والمحاكمة جعله يفعل كل شيء يؤدي به إلى هذا المصير، ولن تكون نهايته أفضل من إيهود أولمرت، وخوف كيان الاحتلال من المقاومة الفلسطينية وانتصارها عليها جعلها تفعل كل شيء يؤدي به إلى هذا المصير، وحصار غزة والضغط على المقاومة جعلهم يبتكرون طرائق حرب جديدة، والحروب على غزة جعلت الغزاوين يعتادون الحرب، بل ويتنافسون من يضحي فيها أكثر، وكيان الاحتلال خلق لنفسه عدواً أكبر منه وأشد منه وأقل منه تسليحاً لكنه مؤمن بحقه، وكان جاهلاً بأن الضغط يولد الانفجار، وأن ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، وأن لكل فعل رد فعل.

وهذه أول حرب في تاريخ الحركة الصهيونية تكون قيادة "إسرائيل" فيها مشتتة متخبطة غير منسجمة داخلياً وغير موثوق فيها من قبل مجتمعها، ويعبر المجتمع عن ذلك صراحة، في مقابل قيادة مقاومة فلسطينية متفقة متماسكة ملتحمة مع شعبها... 

في النهاية، رسالتنا لمن يقف ضد المقاومة أو يهاجمها هي: "المقاومة مثل الماء. طاهر بنفسه مطهر لغيره، وموقفك مثل أي شيء غير طاهر".