طوفان الأقصى... السياق الطبيعي للردّ...

يعتبر نتنياهو هذه الحرب بأنها حرب البقاء لكيانه، لأنه يعلم أن الجمود الذي كسر سيترتّب عليه الكثير من التطورات التي ستغيّر قواعد المنطقة والاشتباك، وستبدأ معها مرحلة جديدة من الصراع هي أكبر وأعمق من أن يتحمّلها الكيان.

  • الحرب على غزة.
    الحرب على غزة.

طوفان الأقصى، تسونامي المقاومة، انتفاضة الأحرار... سمّوها ما شئتم لكنها عملية أعادت للأمّتين العربية والإسلامية عزّها وفخرها وقدرتها على مواجهة كيان محتل تشدّق دائماً بأنه يمتلك "الجيش" الذي لا يقهر، لكنه في ساعات تعرّض لأكبر هزيمة وانكسار منذ ما يزيد على خمسة عقود. 

منذ بداية الشهر الجاري أردت التحضير لمقال عن حرب تشرين التحريرية التي خاضها الجيشان السوري والمصري ولكن أتى الهجوم الإرهابي على الكلية الحربية في حمص في الخامس من هذا الشهر أي قبل يوم من ذكرى الحرب، ليكبّل يديّ ويضع حواجز الكون كلّها بيني وبين الكتابة، وبعد يوم من ذكرى الحرب وتحديداً في صباح يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر أرادت المقاومة الفلسطينية أن تكتب نص النصر بعملية طوفان الأقصى وجعلت شهر تشرين الأول/أكتوبر شهر الرعب لكيان الاحتلال.

لماذا نُفّذت عملية طوفان الأقصى؟ 

هذا السؤال تبادر إلى أذهان فئة مهمة في المجتمع خصوصاً فئة الشباب البعيدة عن السياسة، وهنا نريد أن نوضح لهم أنه منذ عام 2007 يفرض كيان الاحتلال الإسرائيلي حصاراً خانقاً على قطاع غزة أي منذ نحو 17 عاماً، وفي سنوات الحصار تأكّل وجود الطبقة الوسطى في القطاع تأكّلاً كبيراً، وذلك في ظل الأزمات المعيشية والاقتصادية التي عصفت به، ووفق تقديرات مؤسسات المجتمع المدني في القطاع، فإن معدل الفقر بلغ 64%، ويزيده مرتين في الضفة الغربية، إضافة إلى أن ما يزيد على 34% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، في الوقت الذي تعاني فيه 57% من الأسر الفلسطينية من انعدام الأمن الغذائي، أي ما يقارب ست من كل عشر عائلات من القطاع، ونسبة البطالة العامة في قطاع غزة تجاوزت 50%. 

ومنذ عام 2007 شنّ كيان الاحتلال ما يزيد على ست حروب على القطاع، والبداية كانت مع حرب 2008 – 2009 التي سمّيت بمعركة الفرقان، وحرب 2012 وكان اسمها حجارة السجيل، وحرب عام 2014 العصف المأكول، وحرب عام 2019 وهي صيحة الفجر، وأخرى في عام 2021 وهي سيف القدس، ثم حرب في عام 2022 وسمّيت بوحدة الساحات. في هذه الحروب استُشهد وأُصيب عشرات الآلاف إن لم يكن مئات الآلاف من الفلسطينيين، وأدّت هذه الحروب إلى تدمير آلاف المباني السكنية والمنشآت الاقتصادية، وهو الأمر الذي أدى إلى انضمام آلاف الأسر إلى قوائم الفقر والفقر المدقع على مدار ما يزيد على عقد ونصف العقد. 

التنسيق للعملية ومحور المقاومة.. 

واهم من يظنّ أنّ العملية جرت من دون تنسيق وتبادل خبرات بين حركة المقاومة الفلسطينية حماس وباقي فصائل محور المقاومة، فمثلاً من يتابع الأخبار خصوصاً العام الماضي يرى أنه في لبنان اخترقت عناصر حزب الله مرات عديدة السياج بين جنوب لبنان والأراضي الفلسطينية المحتلة، وربما لم تعد معلومة خفية أن عدداً من عناصر الحزب قد دخلوا فعلاً إلى الأراضي المحتلة، والتحصينات العسكرية عند الحدود اللبنانية مشابهة جداً لتحصينات "جيش" العدو عند حدود قطاع غزة، فبالتأكيد تبادل الحزب وحماس تفاصيل اختراق السياج والتعامل مع نقاط المراقبة الإسرائيلية وطريقة مشاغلتها. ولماذا لم يتدخّل حزب الله في المعركة أو سوريا أو إيران، فالجواب واضح وهو أن المقاومة في غزة ليست بحاجة إلى تدخّلهم ولو كانت بحاجة إلى ذلك لطلبت، ودورهم الآن المشاغلة في الشمال ودفع "جيش" الاحتلال لتوزيع قواته بين الشمال والجنوب وعدم الهدوء.

طوفان الأقصى ومفاجأة الاحتلال..

منذ عام 2021 ومع معركة سيف القدس، مارست حركة حماس خطة الخداع الاستراتيجي وهي التي أسمتها بهذا الاسم، فأظهرت لكيان الاحتلال أنها غير معنية بأي موجة تصعيد في قطاع غزة وابتعدت عن المشاركة في أي معركة في مواجهة كيان الاحتلال الذي ظن أنها خارج دائرة الصراع والمواجهة وأنها استكانت والتفتت لإدارة قطاع غزة ولا تريد المواجهة، فأتت معركة طوفان الأقصى لتظهر لكيان الاحتلال ضعف استخباراته في توقّع ما تحضّر له المقاومة، إضافة إلى أن المعركة أظهرت أن تكتيكات الاحتلال العسكرية ومناوراته كلّها، والتي كان آخرها في 30/05 من العام الجاري، وفيها حاكى حرباً تنطلق من قطاع غزة، مواجهة تقليدية مثل باقي حروبه السابقة ولم يتوقّع يوماً أن يخرج المقاومون من داخل السياج والجدار العازل وينقضوا على جنوده، الذين أظهروا أقصى درجات الغباء والاستهتار العسكري. 

فقد أكد الإعلام العبري نقلاً عن مصادره العسكرية أن كثيراً من ضباط فرقة غزة كانوا يستضيفون أفراد عائلاتهم في المواقع العسكرية التابعة للفرقة عندما نفّذت حركة حماس الهجوم، وأن هذا أمر اعتاد الضباط فعله في الأعياد ويوم السبت، وحتى إن بعض الضباط كانوا يتركون المجال لعائلاتهم للنوم في المواقع العسكرية عند مناوباتهم، وبالتالي هذا يفسّر سقوط مدنيين في الهجوم، ولكن هؤلاء كانوا داخل المواقع العسكرية ومن سمح بوجودهم في هذه المواقع يتحمّل مسؤولية مقتلهم في الهجوم.

قصف غزة والعملية البرية.. 

حاول كيان الاحتلال الإسرائيلي الترويج لمظلوميته في هجوم المقاومة وهو أمر اعتاده لأنه ملك الكذب وترويج الأكاذيب، ولكن من المسؤول عن الهجوم هل الجلّاد أم الضحية؟

عندما تحاصر شعباً ما يزيد على عقد ونصف العقد هل تريده أن يبقى ساكناً ينتظر منك قتله وتجويعه؟ وبالتالي هذه المعركة يتحمّل مسؤوليتها من حاصر غزة وقتل أهلها وسكت عن الحصار وقتل الفلسطينيين. ورداً على العملية المشروعة التي نفّذتها المقاومة والتي أرادت فيها تغيير الواقع وتأديب الجلاد، انتقم الاحتلال من الشعب الفلسطيني كله في قطاع غزة انتقام المجرم الذي فقد الأمل بالانتصار، انتقام الطاغي الذي سقط كبرياؤه تحت أقدام المقاومين.

العملية البرية التي بدأها الاحتلال في قطاع غزة أثبتت فشله الاستخباراتي والعسكري، وبات الجنود مثل الدمى تتساقط أمام نيران المقاومين الذين يخرجون لهم من كل فتحة وزقاق من دون خوذة ودرع واقٍ، وباتت المعادلة متغيّرة ولم يبقوا بحاجة للأنفاق، لأنهم باتوا يخرجون لهم من شرفات المنازل، مثلما حصل في حي التفاح في مدينة غزة، حيث خرج المقاوم من شرفة المنزل وهو على ارتفاع نحو متر من الدبابة وقام بضربها، وواهم من يتوقّع أن المقاومة لم تحضّر لهذا السيناريو لأنها حضّرت وكانت تنتظر الاحتلال بفارغ الصبر لتجعله يسدّد ديوان الماضي والحاضر والمستقبل. 

وحتى الآن المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد، فبحسب تقديرات الأميركيين فإن حماس تمتلك 30 ألف صاروخ حتى عام 2021 هي تقديرات وهمية لأنها لا تعتمد على استراتيجية صحيحة في الحساب والعدد أكبر من ذلك بكثير، وانخفاض كمية الصواريخ التي تطلق يومياً من القطاع على المدن المحتلة هو خير دليل على أن المقاومة تحضّر لمرحلة أطول من المواجهة ربما تستمر أشهراً، فهل يتحمّل الكيان أن يسقط عليه يومياً 300 صاروخ لمدة ثلاثة أشهر متتالية؟ 

معركة طوفان الأقصى هي أول معركة تحصل على أرض تحتلها "إسرائيل" من فلسطين منذ عام 1948 وهذه المعركة سيبنى عليها كثيراً ولها تداعيات لن يتحمّلها الاحتلال أبداً، خصوصاً وأنها كسرت جموداً كان في قلوب الكثيرين، وأعادت حلم التحرير.

لذلك يعتبر رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو هذه الحرب بأنها حرب البقاء لكيانه، لأنه يعلم أن الجمود الذي كسر سيترتّب عليه الكثير من التطورات التي ستغيّر قواعد المنطقة والاشتباك، وستبدأ معها مرحلة جديدة من الصراع هي أكبر وأعمق من أن يتحمّلها الكيان، ولذلك يسعى لأحداث أكبر قدر من الدمار والقتل بهدف بثّ الرعب في قلوب الفلسطينيين ليمنعهم من تكرار جديد لطوفان، ولكن علينا أن نخبره أن القادم هو بركان غزة.