طوفان الأقصى وعالميّة جديدة للقضيّة الفلسطينيّة

حقق الفلسطيني المقاوم انتصاراً آخر في معركته الشاقة مع الصهيوني، على مستوى الخطاب في زمن الفضاءات المفتوحة، مستعيداً عالمية القضية التي دافع عنها أحرار أميركا الجنوبية والأفارقة والآسيويون.

  • عالميّة جديدة للقضيّة الفلسطينيّة.
    عالميّة جديدة للقضيّة الفلسطينيّة.

 تجتهد الآلة الصهيونية اليوم في أرض فلسطين بإهلاك الحرْث والنسل، وتدمير الأرض بمن عليها، وسط مشهد دراماتيكيٍّ غريبٍ في عالم القرن الحادي والعشرين، بعد أن صادق العالم القوي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية على خطة إدارة العالم وعلى مستويات الصراع ودرجاته.

 "إسرائيل" تلقن اليوم العالم دروساً جديدة في الوحشية والغطرسة على الشعب الفلسطينيّ، وهي تحمل مشعل المظلومية العربية المتجددة عبر الزمن. 

  في هذا المقال، نحاول تفكيك بنية الخطابين المتصارعين اليوم في الحدث العالمي الراهن: طوفان الأقصى.

الضحية والجلاد

 تدافع "إسرائيل" اليوم عن نفسها كضحية تستعيد العيش من جديد مع "مأساة هولوكست ثانٍ"، تشحن به المخزون العاطفي الذي لا زالت حتى اليوم تبتزّ به الأموال الغربية والسلاح والدعم اللامشروط في أميركا وأوروبا. 

 يحاول خطاب البروباغندا استدعاء صورة الضحية Victimisation من خلال وسائل التأثير في كبريات وسائل الإعلام، وفي منصات التواصل، بل حتى في منصات السينما والتلفزيون العالمية، وذلك من خلال احترافية كبيرة باستدعاء الماضي إلى داخل الحاضر، وممارسة عمليات الاستبدال النفسي السريعة بين الهولوكوست القديم وأحداث طوفان الأقصى الجديدة.

  تحاول الآلة الدعائية والخطابية مزج الرموز الدينية (الإسلام في مقابل اليهودية المسيحية) مع الخطاب العنصري المتخفي (العرق الأبيض في مقابل الآخرين) مع الرموز الأيدولوجية (الإرهاب البربري في مقابل النازية)، لأجل إقناع الرأي العام الغربي بأن "إسرائيل" ضحية غربية من جهة، ويهودية من جهة أخرى داخل عالم بربري متوحش، كما تسميه البروباغندا الصهيونية اليوم.

 صورة الضحية هذه ترافقها في الوقت نفسه صورة أخرى مختلفة يتم ترويجها تجاه المجتمع العربي وتجاه جمهور المقاومة في الحرب النفسية الممارسة داخل الميدان؛ صورة الجيش الذي لا يقهر والتكنولوجيا الخارقة والدرع الحامي لـ"إسرائيل" من أعدائها.

 صورة القوة التي تريد "إسرائيل" أن تظهرها على السواء لمجتمعها المفزوع المرعوب ولجنودها الذين لم يألفوا الميدان وللرأي العام العربي لمن يناصر المقاومة الفلسطينية، تخلق في النهاية نشازاً غريباً في صورة الحرب التي يريد الصهيوني اليوم فرضها على العالم من خلال نفيره الإعلامي وحلفائه الغربيين الذين لا يزالون يلهثون وراء تحولات جيوإستراتيجية ما بعد النزاع الروسي الغربي في أرض أوكرانيا.

 هذه الصورة المتناقضة التي يريد الإسرائيلي اليوم خلقها على جبهات متعددة من التأثير بين الشرق والغرب؛ تنتج صورة مهزوزة بسبب طبيعة التناقضات التي تعيشها اليوم "إسرائيل" على مستوى بنيتها السياسية الداخلية، وعلى مستوى رؤيتها الإستراتيجية للمسارات التي عليها أن تركبها في التحول الذي يشهده العالم اليوم.

 يمثل هذا اللعب على الحبال مقامرة كبيرة، وقودها الأساسي الوحشية التي يمارسها الصهيوني على الفلسطينيين المدنيين، بعد أن اكتشف سريعاً مدى الاستعداد الذي أبدته المقاومة الفلسطينية لمخططاته وأفعاله وردود أفعاله. فصورة الإرهابي المسلم الملوّن تحوّلت سريعاً إلى صورة المقاوم الشرقي الحر الذي يمثل الصمود والصبر، وبدا أنّ العالم لا زال فيه بصيص من النور والخير، حين تعاطف بعفوية كبيرة حرّرت الإنسان من عبودية الوعي المفروض المصنع.

  البروباغندا المبالغ فيها، والتي زايد عليها أصدقاء "إسرائيل"، أعطت ردَّ فعل عكسيّ يتعطش من خلاله المتلقي لسماع الرأي الآخر، والمنصات الكبرى المسيطر عليها أصبحت اليوم تستبدل بمنصات أخرى لا تمنع ولا تقيّد الخبر والرؤية والموقف. 

  أسهم الوضع السياسي الداخلي الإسرائيلي في عدم وضوح رؤية متخذي القرار السياسي، ومن وراء ذلك الإقرار السياسي. وبعد أن كان الفلسطيني بعد صفقة القرن عنصراً هامشياً، وثقيلاً في القضية الفلسطينية التي أصبح حلّها عند دول التطبيع دون الفلسطينيين وفي الاقتصاد دون المقاومة، أعاد طوفان الأقصى الروح التحرّرية في السبعينيات، وروح انتفاضة الحجارة، وروح محور الممانعة في لحظة واحدة.

 لقد كانت التحولات الداخلية، التي شهدتها حركات المقاومة بعد "الربيع العربي"، عاملاً أساسياً في تحرر الخطاب المقاوم من أسر التخندق الذي جعله في أحايين كثيرة تحت ضغط الثنائيات الأيديولوجية والسياسية التي يعيشها العالم العربي، وأصبحت تجد في خطاب المقاوم الإسلامي لحن القول اليساري والقومي، دونما مساس بجوهر الخطاب نفسه وقضيته.

الخطاب ونتائجه

 تمثل صورة المقاتل العربي الذي يواجه الدبابة الإسرائيلية بدون دروع واقية، وهو يواجه أيقونة الجيش البري الإسرائيلي، ضربة حقيقية لإستراتيجية الردع التي تمارسها "إسرائيل" وشركات الأسلحة الغربية تجاه أعدائها وخصومها على حدّ سواء.

 تخفف المقاتل الفلسطيني شيئاً ما من إصر النزاعات العربية، وأصبح أكثر تمثيلاً للواقع العربي، وبدا خطاب التطبيع المتأسّس على مبدأ المصالح الوطنية، وضرورة التحالف مع الطرف الأقوى فاشلاً إلى حد كبير.

 لقد كان خطاب السنوار الذي أعلنته حماس منذ أن ترأسها الزعيم الحازم عنوان مرحلة جديدة اختلفت جذرياً عمّا سبقها، فطوى الرؤية المتحيرة التي أعقبت "الربيع العربي" والمتلكئة في البحث عن المسارات الممكنة.

  لم ينتج خطاب الإسلاميين المندمج مع خطاب المصلحة إلا تدافعاً غير مسبوق نحو التطبيع، بينما أدى خطاب طوفان الأقصى، رغم مرارته، وقسوته على الشعب الفلسطيني إلى نهاية مسدودة لمسارات التطبيع في المدى القريب؛ بسبب عدم قدرة "إسرائيل" نفسها على توفير المخرج المناسب لأصدقائها من العرب في مرحلة الأزمة. 

 وسط الخطاب المتناقض (الضحية والجلاد)، وفي وسط الصراعات الداخلية وأزمة الأسرى، لم يكن لنتيناهو أن يركز كثيراً على البحث عن حلول سريعة لمشروع التطبيع الاقتصادي الذي يلفظ أنفاسه الأخيرة داخل مستشفيات غزة، ومع أطفالها الذين سيظلون، على الأقل في وقتنا الراهن، عقبة حقيقية أمام إعلانات الصداقة المبالغ فيها، وأواصر التطبيع الكامل بين العرب وحكومة نتيناهو.

 تستعيد اليوم القضية الفلسطينية بُعدها العالمي من جديد؛ بسبب دعايات "إسرائيل" التي كشفت أمام أحرار العالم عدالة القضية دونما ارتياب، وتستعيد من جهة أخرى تمثيليّتها الحقيقية لمسار تاريخي طويل، أسهمت فيه أيقونات ليلى خالد، وأبو نضال... في إذكاء روح الصمود عبر الأجيال. أظهرت المقاومة بعفويتها وفي صورتها البسيطة رمز البطولة التي تخرج من تحت ركام الاستضعاف، مستعيدة روح العالم المظلوم الذي يواجه أسئلة كبرى في صراع جيوإستراتيجي يختبر فيه الغرب ليبراليته وقدرته على الثبات أمام القوى الصاعدة الجديدة في السياسة والاقتصاد وموازين القوى.

حقق الفلسطيني المقاوم انتصاراً آخر في معركته الشاقة مع الصهيوني، على مستوى الخطاب في زمن الفضاءات المفتوحة، مستعيداً عالمية القضية التي دافع عنها أحرار أميركا الجنوبية والأفارقة والآسيويون، حين أثبت الإنسان الصامد رغم إمكانياته الضعيفة قدرته الهائلة على تغيير الواقع في زمن ندرت فيه المعجزات.