عن الفيتو الأميركي على مشروع القرار الجزائري لإيقاف إطلاق النار في غزة

قد تتدحرج "كرة الثلج" إلى حرب إقليمية كبرى في أي لحظة ما يشكل خطراً وجودياً قد ينتهي إلى إسقاط الكيان الصهيوني وإنهاء وجوده من منطقة الشرق الأوسط. 

  • الفيتو الأميركي الأخير لا يمكن وصفه إلا باعتباره فضيحةً أخلاقيةً وسياسية وإنسانية.
    الفيتو الأميركي الأخير لا يمكن وصفه إلا باعتباره فضيحةً أخلاقيةً وسياسية وإنسانية.

إن اليد التي رفعتها مندوبة الولايات المتحدة الأميركية في مجلس الأمن ليندا توماس غرينفيلد، لتنقض مشروع القرار الجزائري في مجلس الأمن الدولي المطالِب بالوقف الفوري لإطلاق النار لأسباب إنسانية في غزة، في قبالة 13 صوتاً لصالح القرار وصوت بريطاني ممتنع عن التصويت، هي تلك اليد التي تنفرد بالهيمنة على زمام صنع القرار الدولي والعالمي، وتُضَيِّقُ الخناقَ على رقاب الإنسانية، لا في فلسطين المحتلة فقط، بل في كل العالم. 

لقد رافعت الجزائر منذ استقلالها مطالبةً بنظام عالمي أعدل من نظامٍ تسيطر عليه قوتان عالميتان أو قوة واحدة، وإصلاح عمل الهيئات والمنظمات الأممية والدولية، وإنهاء نظام الهيمنة الأحادية أو الثنائية على عالم يحق فيه لكل دول العالم أن تشارك في صنع القرار الدولي في إطار منظومة عالمية جديدة متعددة الأقطاب والأطراف، إذ لا يحق لدولة واحدة أن تهيمن على القرار الدولي والعالمي كالولايات المتحدة الأميركية، التي تبعد عن فلسطين المحتلة عشرات الآلاف من الكيلومترات أن تقرر مصير المدنيين المحاصرين الذين ينتظرون دورهم في عملية القتل والإبادة، الممارسَةِ من الكيان المحتل في ركن جغرافي ضيق في قطاع غزة، بمجرد رفع يد الفيتو التي تمنع إيقاف إطلاق النار لأسباب إنسانية، وتحول دون إيقاف جرائم الكيان الصهيوني الفظيعة تجاه الشعب الفلسطيني في غزة وغيرها. 

إن الفيتو الأميركي الأخير لا يمكن وصفه إلا باعتباره فضيحةً أخلاقيةً وسياسية وإنسانية بأتمّ معنى الكلمة، وتتجلى فيه كل مساوئ الإمبريالية والاستكبار، والتوحش واللاإنسانية التي عهدناها من المحور الغربي، الذي ما فتئ يجعل من "إسرائيل" محوراً لسياساته الخارجية، ويبني سياساته الخارجية وحتى الداخلية أحياناً على هذا الأساس، داعساً على كرامة الشعوب والدول من دون أي اعتبار لمبادئ يتغنَّى بها في كل المناسبات، كالديمقراطية والحرية والعدالة وحقوق الإنسان.

الديمقراطية التي خلق الفوضى في العديد من دول العالم لينشرها، هي نفسها التي يناقض أسسها ومبادئها في المنظومة الدولية التي أسَّسَ لها، من خلال انفراده في اتخاذ القرارات في مجلس الأمن ومختلف الهيئات الدولية والأممية، إذ يكفي أن يرفع يداً واحدة في قبالة 14 عضواً في المجلس لينقض قراراً إنسانياً أجمع عليه أغلب الأعضاء في هذا المجلس بما فيه الأعضاء الدائمون. 

إن مساعي إصلاح منظومة الإدارة الدولية إجمالاً وعمل مجلس الأمن الدولي تحديداً، وتعديل مهامه بما يخدم مصالح الإنسانية قاطبة، لهو واجب على دول العالم جمعاء أن تناضل وتعمل بجهد على إتمامه، وفق مساعي الانتقال ببنية النظام الدولي من بنية أحادية يحكمها منطق القوة المهيمنة "Hegemonic Power"، إلى بنية تعددية تتيح لأقطاب دولية وإقليمية أخرى أن تساهم بشكل متساوٍ في رسم مساقات السياسات الدولية والإقليمية وفق ما تقتضيه المصلحة الجمعية لدول وشعوب العالم، وهذا هو الهدف المنشود من الجهود التي تبذلها الدبلوماسية الجزائرية العتيدة لترسيخه منذ استقلالها إلى يومنا هذا، وتنخرط في هذا المسعى العديد من دول العالم الحرة والرافضة لمبدأ الهيمنة الأحادية على القرار الدولي. 

تحاول الولايات المتحدة من خلال هذا الفيتو، منح الشرعية لممارسات "جيش" الاحتلال الإسرائيلي في عملياته الوحشية في غزة، والتي انتهكت كل معاهدات وقوانين الحروب المنصوص عليها في القوانين الدولية المختصة بهذا الشأن، وتحاول أيضاً منح وقت إضافي لهذا "الجيش" لتحقيق أهدافه التي عجز عنها في مواجهة المقاومة الفلسطينية الباسلة التي تسعى لتحرير أرضها وأسراها من سجون الاحتلال، وقدمت هذه المقاومة أسمى الأمثلة في احترام حقوق الأسرى وحقوق الإنسان عموماً في حربها الدفاعية منذ 7 أكتوبر وحتى قبل ذلك، إذ قدمت نموذجاً يحتذى به لكل حركات التحرر في العالم عن كيفية التعامل مع الأسرى، وكيفية المواجهة العسكرية الشجاعة والباسلة والمستميتة في الدفاع عن أرضها وصد العدوان عنها. 

ولا تزال إدارة نتنياهو تغرق في وحل غزة كل يوم من دون تحقيق أي هدف محدد من حربها الهمجية منذ بدايتها، وتواجه معارضة كبيرة لا على المستويين العربي والإسلامي فقط، بل وصلت التظاهرات الحاشدة إلى قلب لندن ونيويورك وباريس لتعارض الهمجية الإسرائيلية وتعارض حتى حكوماتها الغربية الداعمة لهذا الكيان، كما فتحت "إسرائيل" على نفسها "أبواب جهنم" كما يُقال حينما توسعت الجبهات التي تستهدفها لأول مرة من اليمن والعراق، وكذا لبنان صاحب التاريخ الطويل في مقاومة هذا الكيان الدخيل على المنطقة.

وقد تتدحرج "كرة الثلج" إلى حرب إقليمية كبرى في أي لحظة ما يشكل خطراً وجودياً قد ينتهي إلى إسقاط هذا الكيان وإنهاء وجوده من منطقة الشرق الأوسط. 

لهذا، فالعالم والإنسانية الآن، يقفان أمام تحدي مواجهة الإمبريالية والاستكبار والتفرد بالسيطرة على النظام الدولي والعالمي، حيث يجب على الدول الحرة في العالم، وحتى شعوب الدول الغربية الحرة أن تساند المساعي الدبلوماسية الجزائرية للحد دون استمرار آلة القتل الإسرائيلية في ارتكاب الجرائم الفادحة تجاه الشعب الفلسطيني، وأن تتحد جميعاً في مسعى إصلاح عمل المنظومة الدولية إجمالاً، لإنهاء حالة الفوضى التي تتسبب بها الإدارة الأميركية بقرارات لا تخدم مصالح دول وشعوب العالم الأخرى، وينخرطوا في دعم القضية الفلسطينية وكل القضايا العادلة الأخرى، وحركات التحرر فيها، وأن يناضلوا لترسيخ نظام عالمي أكثر عدلاً، تتساوى فيه مقدرات صنع القرار بين القوى الإقليمية والدولية.

وإلا فسيبقى العالم تحت سيطرة قوة واحدة منحازة بشكل كلي لممارسات الكيان الصهيوني ودعم جرائمه، ومعاقبة كل من يقف في وجه هذا الإجرام بأي شكل من الأشكال.