غيوم في سماء تونس
سرعان ما تلقفت الدوائر المعنية بالوضع التونسي ما حصل، فجاءت تصريحات السيناتور الأميركي جو ويلسون التي ذكّر فيها الرئيس التونسي بمصير بشار الأسد، مُحذراً إياه من أنه لن يجد خلاصه علي يد حلفائه.
-
تعيش تونس هذه الأيام على وقع مخاطر مُحدقة (أرشيف).
تعيش تونس هذه الأيام على وقع مخاطر مُحدقة؛ الأولى داخلية والثانية خارجية، وهما اللتان تتآلفان في معظم الأحيان، فهذه تغذي تلك، ما جعل سماءها مُلبدة بالغيوم بما يُنذر بعواصف محتملة.
داخلياً، عمدت مجموعات قالت إنها تتبع الرئيس قيس سعيد إلى التظاهر أمام المقر المركزي للاتحاد العام التونسي للشغل، رافعة شعارات مكتوبة ومسموعة تنادي بتجميد الاتحاد، معتبرة أنه سبب خراب البلاد، ثم مرة ثانية نقلت المواجهة إلى الجهات لتبدأ بثاني أكبر مدينة، وهي صفاقس، التي تُوصف بعاصمة الجنوب التونسي، ولكنها هذه المرة ظلت بعيدة عن مقر الاتحاد الجهوي.
وقد تبين أن تلك المجموعات تعاني من ضعف الالتفاف الشعبي حولها، إذ لم تنجح إلا في جمع عدد قليل من الأشخاص، معظمهم لا علاقة لهم باتحاد الشغل والعمل النقابي.
وكان لافتاً أن الرئيس قيس سعيد قد علق على نشاطها الأول بالقول إنها لم تكن تنوي اقتحام مقر الاتحاد في العاصمة، ما فُهم منه دعمه لها، فيما سكت عن الثاني.
ويرجح أن ذلك سببه إدراكه عزلتها من جهة، ورغبته في نزع فتيل مواجهة غير مأمونة العواقب مع أكبر منظمة نقابية في تونس وأقدمها في أفريقيا والوطن العربي من جهة ثانية، وهي التي وُلدت من رحم الحركة الوطنية المضادة للاستعمار الفرنسي، ولا يزال يُنظر إليها رغم الهزات باعتبارها خيمة تونسية جامعة.
وما جرى على هذا الصعيد هو زرع الانقسام والاضطراب في صفوف جبهة 25 جويلية، وخصوصاً بين قصر قرطاج، حيث الرئيس قيس سعيد، وساحة محمد على الحامي، حيث الأمين العام للاتحاد نور الدين الطبوبي، علماً أن الحديث عن هذه الجبهة هو من قبيل الافتراض، فقد أغلق الرئيس دوماً أبوابه أمام كل عمل يجمعه بقوى سياسية ونقابية وثقافية قريبة منه، وهو الذي يُلام على أنه لا يُصغي إلى أحد غير نفسه، فهو لا يرغب في الاستماع بقدر رغبته في أن يُسمع، غير أن ذلك الافتراض له ما يبرره، فقد دعم الاتحاد مُبكراً الإجراءات التي أقدم عليها قيس سعيد غداة هبة 25 جويلية، والتي أفضت إلى تغيير هام في مجرى السياسة التونسية، بما أدى إلى وضع نهاية لما سُمي بـ"العشرية السوداء" في تونس، التي حكم خلالها اليمينان الإسلامي والليبرالي بعد رحيل الرئيس الأسبق زين العابدين بن على، إذ سادت الاغتيالات والإرهاب وفقدان السيادة الوطنية وفوضى الديمقراطية الليبرالية، فضلاً عن تعمق الشروخ الاجتماعية وتفشي الاقتراض الخارجي وانهيار العملة المحلية... فالاتحاد كان ضحية لتلك السياسة، حيث أحرقت مقاره، ووُضعت النفايات أمام أبوابها، بما فيها مقره المركزي، وجرح بعض أعضائه، ما يُفسر انتصاره لتلك الإجراءات.
خارجياً، سرعان ما تلقفت الدوائر المعنية بالوضع التونسي ما حصل، فجاءت تصريحات السيناتور الأميركي جو ويلسون التي ذكر فيها الرئيس التونسي بمصير بشار الأسد، مُحذراً إياه من أنه لن يجد خلاصه على يد حلفائه، مثل روسيا وإيران، عندما يُواجه غضب شعبه.
وقد أشار إلى تظاهرة الاتحاد العام التونسي للشغل باعتبارها دليلاً على رفض شعبي متنامٍ لحكمه، ما يعني استثمار الحدث التونسي الذي ازداد حدة بعد ذلك مع الخطوة الموالية ممثلة في إعلان النائب نفسه (جمهوري) في 5 سبتمبر 2025 أنه قدم، بالتعاون مع النائب الديمقراطي جيسون كراو، مشروع قانون إلى مجلس النواب الأميركي تحت عنوان "استعادة الديمقراطية في تونس"، من ضمن ما نص عليه وضع قائمة خلال ستة أشهر تضم مسؤولين تونسيين لمعاقبتهم على اقترافهم انتهاكات لحقوق الإنسان وعرقلة الديمقراطية...
فضلاً عن وقف أو تعليق مساعدات أميركية للدولة التونسية، بما يؤكد تدهور العلاقات التونسية الأميركية خلال حكم قيس سعيد الذي وصل إلى حد استدعاء الرئيس التونسي السفير الأميركي في مارس 2023 للفت نظره إلى التدخل الأميركي غير المقبول في شؤون بلاده، مؤكداً عُلوية السيادة الوطنية ورفض الإملاءات الخارجية مهما كان مصدرها.
وكانت أميركا قد عبرت منذ البداية عن قلقها من إجراءات قيس سعيد، باعتبارها تنصلاً من الديمقراطية وانحرافاً عنها. وعندما أعلن بلينكن وزير الخارجية الأميركي السابق عن قلقه العميق من تلاشي "الديمقراطية" في تونس، كان بيان الخارجية التونسية الذي استنكر التدخل في الشؤون الداخلية.
وقد تواصل الجفاء التونسي الأميركي مع إدارة ترامب. ويبدو أن الأسباب العميقة تتجاوز الخطاب المعلن عن الديمقراطية وحقوق الإنسان لتمسّ خاصة موقف قيس سعيد من التطبيع مع "إسرائيل" وجذرية موقفه من تحرير فلسطين، فضلاً عن الاقتراب من دول مثل روسيا والصين وإيران، ورفعه شعارات وطنية مثل التعويل على الذات في علاقة بصندوق النقد الدولي والمساعدات الخارجية والسيادة الوطنية ورفض تركيز قواعد عسكرية أجنبية واعتماده الديمقراطية المباشرة بديلاً من الديمقراطية الليبرالية... وهي الشعارات التي منحته مقبولية شعبية.
غني عن البيان أن العاملين الخارجي والداخلي مترابطان في تفسير الغيوم التونسية. ففي تونس اليوم لا تزال التناقضات الداخلية التي فجرت انتفاضة 17 ديسمبر 2010 من دون حل في جوهرها، وخصوصاً ما تعلق منها بالاقتصاد والاجتماع.
ومثلما كانت سبباً وقتها في إشعال حريق ذلك الزمن القريب، يمكنها إشعال حريق جديد، وهذا الجانب الداخلي هو الذي يجد فيه العامل الخارجي قوة تأثيره والأبواب والنوافذ المشرعة أمامه.
وإذا كان الرئيس الحالي قد تقدم خطوات في حل المعضلة السياسية، فإنه لم ينجح في وضع أسس جديدة للتدبير السياسي، وظل في عزلة عن جميع السياسيين في تونس تقريباً، فضلاً عن النقابيين والمثقفين، كما ـلمحنا إليه، بل إن تلك العزلة شملت وزراءه وولاته أيضاً، حتى إنه ظل يُعين ويعزل هذا الوزير أو ذاك من دون خطة واضحة، وفي خطوة من خطواته المفاجئة عزل تقريباً كل ولاته دون تفسير.
هذا معناه أنه عندما تقرر قوة خارجية نافذة إعادة رسم اللوحة التونسية، فإن مهمتها لن تكون عسيرة إذا ما استمر الوضع على ما هو عليه، وهو الوضع ذاته الذي ما فتئ الرئيس التونسي يكرر وصفه باعتباره استمراراً للوضع السابق، فالمنظومة القديمة لم ترحل بعد، والمافيا تبسط سيطرتها على القطاعات الاستراتيجية، وحزب الإدارة يحرس القديم ويخنق الجديد.
لقد كان جلياً منذ البدء أنه لا يمكن إصلاح الدولة بالدولة ذاتها، وأن قيس سعيد عوضاً عن وضع أسس دولة جديدة متطابقة مع انتفاضة 17 ديسمبر وهبة 25 جويلية ظل يردد ما ردده الرؤساء الذين سبقوه من بورقيبة إلى الباجي قائد السبسي عن خلود الدولة التونسية واستمراريتها، وهي التي ستعيش أبد الدهر في غربة تامة عن فكرة تغير الدول وزوالها وانحلالها بزوال الظروف التي أنتجتها، وهو ما كان ابن خلدون قد شرحه بما فيه الكفاية منذ قرون طويلة.
بالعودة إلى "ديمقراطية" قيس سعيد، نلاحظ أن نسبة المشاركة في انتخاباتها كانت ضعيفة، سواء تعلقت بالبرلمان أو بمجلس الجهات والأقاليم، وهذه واقعة موضوعية، مثلما كانت الحملات الانتخابية باهتة أو منعدمة حتى، وكان يمكن أن تكون أفضل بكثير لو توفرت جملة من الشروط، ومنها:
أولا: تنظيم قوى 17 ديسمبر 25 جويلية سياسياً، والدفع بها في اتجاه إنجاز المهام الوطنية المؤجلة، بما من شأنه خلق ديناميكية مستمرة ومتصاعدة.
ثانياً: تحقيق مكاسب ملموسة أوسع في خضم المعركة الاقتصادية الاجتماعية.
ثالثاً: بناء إعلام وطني معبر عن تونس الجديدة.
رابعاً: إرساء الثقافة الوطنية الجديدة.
هذه الشروط من شأنها إحداث قطيعة فعلية بين تونس القديمة وتونس الجديدة، أي تحقيق فرز حقيقي يسمح باعتماد تونس الجديدة على نفسها في بناء ذاتها، لا ارتكازها (غير المبرر حتى الآن) على تونس القديمة في تحقيق ذلك، وهي التي تخترقها من شتى الجهات، وتكاد تخنقها جهاراً حيناً ومواربة أحياناً أخرى .
واليوم، ربما حان الوقت للاعتراف بأن 25 جويلية لم تنجح في أن تكون حركة ديمقراطية شعبية واسعة حتى الآن، فظلت تدور حول نفسها دون آفاق تذكر، فكان التكرار والاجترار على مدى سنوات، وهو ما أثار استغراب العدو والصديق، ما يدعو إلى التساؤل: هل كانت فرصة تونسية ضائعة؟ والجواب حتى الآن لا، ولكنها تقترب من ذلك المصير، ما يُحيل إلى سؤال ثانٍ: هل بالإمكان إنقاذها بتبديد تلك الغيوم والسير بتونس نحو معانقة فجرها؟