كيف حطمت عملية "طوفان الأقصى" نظرية نتنياهو "إدارة الصراع"؟ (2– 2)

إن أروع ما في عملية "طوفان الأقصى" أنها جعلت الأمن القومي الإسرائيلي مهدداً ولن يصدق أحد هذه المرة أن نتنياهو يمكن أن يعيد الأمن القومي إلى "دولته" المغتصبة. 

  • الحرب على غزة.
    الحرب على غزة.

إن التجارب العظيمة لحركات المقاومة تؤكد أن أسلوب العدوان على غزة الذي يتبعه نتنياهو مع "جيشه" المحتل سوف يحقق الكثير من أهداف المقاومة الفلسطينية. فما نتج من عملية "طوفان الأقصى" من أبعاد ونتائج سياسية لا يجوز أن يقاس بما يحصل في الميدان من قتل وإجرام صهيونيين. وحسب ما تقول الروائية الإسرائيلية دوريت رابينيان: "في تلك اللحظة، شعرت أن هويتنا الإسرائيلية محطمة للغاية. شعرت وكأن 75 عاماً من السيادة الإسرائيلية قد اختفت في لمح البصر".

ولهذا، أعادت العملية البطولية إلى الذاكرة الصهيونية من جديد "لعنة العقد الثامن" ومفادها أن هذه "الدولة" ستزول قبل مرور 80عاماً على قيامها، ومصيرها سيكون مصير دولتي "الملك داوود والحشمونيم" اللتين بدأتا بالتفكك في عقدهما الثامن.

فرغم الإبادة اليومية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة، فإن من الضروري أن نوضح بأن الأثر السياسي الكبير لعملية "طوفان الأقصى" العسكري "ليس له تاريخ انتهاء"، كما أكدت الصحيفة الإسرائيلية "يديعوت أحرونوت". فقد طغت القضية الفلسطينية بعد 7 أكتوبر على كل الأزمات الدولية، وغطت على معركة روسيا مع أوكرانيا والصراع الأميركي -الصيني واتفاقيات إبراهام التي كان من المفترض أن تتوّج بتطبيع إسرائيلي – سعودي.

 إن ما أثمرته هذه العملية دولياً لا ينحصر بما نتج منها من عدوان إسرائيلي كانت نتيجته قتل أكثر من 22 ألف فلسطيني، فمصير "إسرائيل" بعد هزيمتها في معركة "طوفان الأقصى" سيكون له أثر سياسي كبير بما لا يقاس بالنتائج العسكرية.

وهذا ما أكدته مجلة "فورين بوليسي" بقولها "رغم ضخامة الخسائر غير المسبوقة في تاريخ الشعب الفلسطيني، فإن حركات التحرر الوطني بمعظمها حققت نجاحاتها الكبرى دوماً بعد قيامها بتصعيد عسكري أعقبته خسائر بشرية كبيرة لحقت بالأساس بالمدنيين مثلما حدث للفيتناميين مع الأميركيين (خاصة بعد هجوم تيت)، حيث وصلت خسائر الفيتناميين البشرية إلى نحو 3 ملايين في بعض التقديرات، وتكرر الأمر نفسه مع ثورة الشعب الجزائري ضد فرنسا التي منحت البلاد لقب بلد المليون ونصف مليون شهيد".

واليوم، في جميع أنحاء العالم: جنوب/ شمال، تحتل فلسطين اليوم موقعاً باعتبارها تجسيداً للتمرد ضد الانحياز الغربي لـ"إسرائيل". فمنذ الغزو الأميركي للعراق، لم يخرج هذا العدد الكبير من الملايين حول العالم إلى الشوارع للاحتجاج. وقد خرج العديد من النقابات العمالية للتظاهر ضد الدعم الأميركي لـ"إسرائيل"، ومدّها بالأسلحة. ويتم اليوم استخدام الآليات القانونية شكاوى في المحاكم الأميركية والأوروبية للطعن في السياسات الحكومية التي تمكن "إسرائيل" من ارتكاب جرائم الحرب. المحكمة الجنائية الدولية، محكمة العدل الدولية، وهناك حوار جريء في الصحف الغربية حول الإبادة الجماعية التي ترتكبها "إسرائيل" والإهانة التي يتعرض لها اليهود في الجامعات والمدارس والمتاجر. 

ومن منطلق علم العلاقات الدولية فإن المختصين بهذا العلم لا يتقيدون بالحساب الفلكي، بل يقاربون الأحداث الضخمة التي تعدّ نقطة تحوّل في مسار التاريخ البشري وبناءً عليه يُحدّدون الفترات الزمنية للعلاقات الدولية؛ ولهذا فإن العالم قبل "العملية البطولية للدفاع عن الأقصى" شيء وبعدها شيء اَخر.

ومن منطق التحليل التاريخي فإن عدوان نتنياهو وحكومته اليمنية على غزة سوف يلاقي المصير نفسه الذي لقيه نابليون بونابرت بعد غزو موسكو والمصير ذاته الذي سببته معركة أنوال في الريف المغربي عام 1921 للاحتلال الإسباني. والمصير ذاته الذي سببه "هجوم التيت" على الجيش الأميركي في فيتنام عام 1968. وسوف يكون لعملية "طوفان الأقصى" الأثر ذاته الذي تركته حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973 وإلا لماذا شبه الكتاب والسياسيون الصهاينة والأميركيون معركة "طوفان الأقصى" بحرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973.

فقد أعاد هذا الحدث التاريخي إلى الذاكرة صدمة حرب أكتوبر 1973 لدى الإسرائيليين والغرب، والتي قال عنها رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إيهود باراك الذي كان وقتها ضمن قوات الاحتياط الإسرائيلي: "في ذلك اليوم، ضاع أثر نصر عام 1967 النفسي، وضاع الشعور بأن الجيش الإسرائيلي لا يُهزَم".

 ويورد ريتشارد بن كريمر في كتابه "كيف خسرت إسرائيل"، أن "حرب أكتوبر 1973 القوية والمفاجئة من جانب العرب "ذكّرت إسرائيل بأن بإمكانهم (العرب) محوها من الخريطة". ويلفت كريمر إلى مسألة مهمة وهي "أنه بعد حرب أكتوبر 1973 تخلت إسرائيل عن كل صلفها ورضيت من دون خجل بدور صديق أميركا الصغير في الشرق الأوسط، وأصبحت جزءاً من أي مخطط أميركي للمنطقة".

ولهذا، تطرقت صحيفة "يديعوت أحرونوت" إلى تعاظم محور المقاومة خلال الأعوام الماضية، مشيرةً إلى أنّ "إسرائيل"، أمام هذا التعاظم، في حاجة إلى الولايات المتحدة الأميركية ورئيسها، جو بايدن، "كما لم تكن في حاجة إليهما (من قبل) أبداً".

وفي حين "عملت إسرائيل على الهوامش"، عمل الإيرانيون "على الأساس"، "بما شمل التقدّم في المشروع النووي، وتسليح حلفائهم في لبنان وسوريا واليمن بصواريخ دقيقة، وتعزيز محور المقاومة، الذي يبدأ من طهران، ويمتدّ إلى دمشق وبيروت وصنعاء وغزة، وتعزيز علاقتهم بموسكو".

انهيار مشروع نابليون على أعتاب موسكو 

أسفر هجوم نابليون بونابرت على روسيا واحتلاله موسكو بعدما لقي مواجهة شرسة عام 1813 من الجيش والشعب الروسيين بقيادة الجنرال ميخائيل كوتوزوف عن مقتل نحو 350 ألف جندي فرنسي مقابل خسارة نحو 200 ألف من الجيش الروسي ما أجبر جيش نابليون على الانسحاب بعد فشلهم في عبور نهر بيريزينا، وغرق عدد كبير من الجنود الفرنسيين وفرار نابليون بمفرده إلى فرنسا، وقد نتج من تلك الحملة الفاشلة انهيار الإمبراطورية الفرنسية التي سادت في ذلك الوقت القارة الأوروبية. واستسلام نابليون الذي قضي بقية حياته في جزيرتي ألبا الإيطالية وجزيرة سانت هيلانة التي تقع في وسط المحيط الأطلسي.

أما معركة أنوال التي تعرّض خلالها الجيش الإسباني لأكبر هزيمة في تاريخه وشكلت صدمة للعالم حينها، وتسمى في أدبيات الإسبان العسكرية بـ "كارثة أنوال". فقد حاول الاحتلال الإسباني أن ينتقم من قوات الأمير عبد الكريم الخطابي المكونة من 3000 جندي، فوقعت المعركة في 21 تموز/ يوليو عام 1921 وكان تعداد الجيش الإسباني نحو 22 ألف جندي سقط منه أكثر من 18 ألف جندي إسباني مسلحين بأحدث الأسلحة والمدافع وبتغطية جوية من الطائرات، من بينهم قائد الجيش الجنرال سلفستري الذي كان يراقب انسحاب الجيش من أنوال على قمة مرتفعة، ولمحه أحد المسلحين من الأهالي، فتسلل نحوه وأطلق النار عليه. 

وقد تسببت نتائج المعركة في أزمات سياسية كبرى في الداخل الإسباني، إذ أدى الأمر إلى استقالة الحكومة الإسبانية في 10 آب/أغسطس 1921، وحدث انقسام بين العسكريين وارتفعت الأصوات المناوئة للحرب والمطالبة بالجلاء عن المغرب في ضوء الخسائر الفادحة التي تكبدتها القوات الإسبانية، وبتقديم المسؤولين عنها للمحاكمة.

وقد شبه محللون غربيون وعرب هجوم 7 أكتوبر بـ"هجوم تيت" الفيتنامي عام 1968، الذي شكل لحظة فارقة في إلحاقهم الهزيمة بالولايات المتحدة، وهو أحد أكبر الأحداث التي شهدتها حرب فيتنام.

فتذكر مجلة "ذي نايشن" الأميركية أنه "في عام 1968 شن الثوار الفيتناميون بشكل متزامن في يوم واحد هجمات دراماتيكية، شديدة الإثارة، على أكثر من 100 هدف في مختلف أنحاء البلاد، بعدما خسر الثوار الفيتناميون المعركة وضحّوا بالكثير من البنى التحتية السياسية والعسكرية التي كانوا قد شيّدوها على مدى سنين من العمل الدؤوب. وكان ذلك الهجوم مؤشراً فهم منه الأميركيون أن الحرب التي طُلب منهم التضحية بعشرات الآلاف من أبنائهم لخوضها، غير قابلة للكسب".

وتذكر هذه المجلة حسرة هنري كيسنجر في عام 1969 في حرب فيتنام حين قال: "لقد خضنا حرباً عسكرية بينما خاض خصومنا حرباً سياسية. سعينا من أجل الاستنزاف المادي، بينما كان هدف خصومنا الإرهاق النفسي". 

ولهذا، قال وزير الدفاع الأميركي لويد أوستن عن استخدام "إسرائيل" قوتها العسكرية ضد الفلسطينيين، بأنها تخاطر بدفعهم "إلى أحضان العدو، واستبدال النصر التكتيكي بهزيمة استراتيجية".

فنتنياهو بهدف تدمير حماس وقتل قادتها الذين يتهمهم بالتخطيط للهجوم في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، وقع في فخ حرب الإبادة الجماعية على غزة، ونتج منها قتله آلاف الفلسطينيين غير مبال بالأبعاد السياسية لعدوانه؛ لأن حساب البيدر ليس كحساب الحقل.

 وحسب صحيفة "نيويورك تايمز"، فإن مراوغة قادة حماس تحرم بنيامين نتنياهو من دليل يقدمه لجمهوره المحلي وجوقة دولية تطالبه بوقف إطلاق النار، ويثبت لهم أن العملية العسكرية تتقدم نحو تدمير حماس.

يؤكد ناحوم بريناع في صحيفة "يديعوت أحرونوت" أن إسرائيل في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، سقطت في حفرة عميقة، ومنذ ذلك اليوم، ونحن نقف في قاع الحفرة ونسأل الكثير من الأسئلة: إلى أي مدى سقطنا، لماذا سقطنا، وأين العدو الذي أسقطنا وكيف سندمره؟".

ويرى برنياع أن الخروج من هذه الحفرة يعني "إعادة المخطوفين (الأسرى الإسرائيليين في غزة)، واستعادة الأمن والإحساس بالأمان لسكان الجنوب والشمال، وإطلاق سراح جنود الاحتياط إلى منازلهم ومحاولة إنهاء الحرب".

وقد أعاد نتنياهو في خطابه بمناسبة مرور 3 أشهر على الحرب، تأكيد هذه الأهداف بقوله: "القضاء على حماس وعودة الأسرى وضمان ألا تمثل غزة تهديداً لإسرائيل".

لكن شبكة CNN الأميركية ذكرت في تقرير يرصد "وعود نتنياهو المستحيلة والتي لم يتحقق منها شيء يُذكر" أن إلحاق الهزيمة بحركة حماس يمثل "طموحاً صعب المنال" بالنسبة إلى "إسرائيل". هذا إذا كان يمكن تحقيقه من الأساس.

وبحسب هذه الشبكة: "لا يبدو أن قيادات جيش الاحتلال يتفقون مع أهداف رئيس الوزراء الساعي للبقاء في منصبه". فبحسب الإعلام الإسرائيلي، تخلى مدير الاستخبارات العسكرية في "جيش" الاحتلال، الجنرال أهارون هاليفا، عن هدف تدمير حماس، خلال كلمة له، الخميس 4 كانون الثاني/يناير من الشهر الجاري، حدد خلالها الأهداف من وجهة النظر العسكرية.

حتى إن رئيس أركان "الجيش" الإسرائيلي السابق دان حالوتس قال إن "إسرائيل" خسرت الحرب ضد حماس، وأن صورة النصر الوحيدة التي ستتحقق هي إطاحة رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو.

وأضاف: "لن تكون هناك صورة للنصر في هذه الحرب، بل صورة للخسارة فقط مع وجود 1300 قتيل و240 مختطفاً و200 ألف لاجئ". 

وقد كان من أولى نتائج هزيمة نتنياهو السياسية في العدوان على غزة وضع صورته وسط آلاف الجماجم، على غلاف مجلة "تايم" الأميركية في أحد أعدادها الأخيرة من العام الماضي، لتختاره مجرم العام، أو قاتل العام. وحمّلت المجلة الأميركية نتنياهو مسؤولية سقوط آلاف القتلى على الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني، خاصةً الجانب الفلسطيني.

ولهذا، فـ"إسرائيل" في السياق التاريخي للأمم، انتقلت من مرحلة بداية النهاية إلى مرحلة نهاية النهاية. وبالتأكيد، فإن فشل نتنياهو في القضاء على حماس جعل ما وعد به عام 2022 بمناسبة مرور 74 عاماً على تأسيس "دولة" الاحتلال تافهاً جداً: "سأجتهد كي تبلغ إسرائيل عيد ميلادها المئة، لأن مسألة وجودنا ليست مفهومة ضمناً، وليست بديهية، فالتاريخ يعلمنا أنه لم تُعمَّر دولة للشعب اليهودي أكثر من 80 سنة".

وقد حذر رئيس الكنيست السابق أبراهام بورغ من حتمية رد الفعل العنيف قبل عشرين عاماً وكتب حينها يقول: "تبين أن النضال المستمر منذ ألفي عام للحفاظ على الوجود اليهودي وصل في نهاية المطاف إلى دولة من المستوطنات، تديرها طغمة لاأخلاقية من الفاسدين الخارجين عن القانون، والذين يصمّون آذانهم عن سماع ما يقوله مواطنوهم وما يقوله أعداؤهم. إن الدولة التي تنقصها العدالة لا يمكن لها أن تدوم".

إن أروع ما في عملية "طوفان الأقصى" أنها جعلت الأمن القومي الإسرائيلي مهدداً مئة في المئة، ولن يصدق أحد هذه المرة أن نتنياهو يمكن أن يعيد الأمن القومي إلى "دولته" المغتصبة.