كيف حطّمت عملية طوفان الأقصى نظريّة نتنياهو "إدارة الصراع"؟ (1 – 2)

منذ طوفان الأقصى ركّز نتنياهو كل طاقته وآلته الإعلامية للترويج على عدم تحمّله أي مسؤولية عن الهزيمة التي لحقت بـ "إسرائيل" يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر وتحميلها لقيادات "جيش" الاحتلال والأجهزة الأمنية بشكل كامل.

  • بنيامين نتنياهو (أرشيف).
    بنيامين نتنياهو (أرشيف).

من إبداعات عملية طوفان الأقصى أنها أعادت "القضية الفلسطينية" إلى الأجندة العالمية بحسب قول نيويورك تايمز، بعدما عملت "إسرائيل" والولايات المتحدة منذ تأسيس الكيان الغاصب على تفكيكها وضياع قضيتها.

فبعد أكثر من 75 عاماً من الصراع ضد "إسرائيل" أعادت عملية طوفان الأقصى القضية الفلسطينية ليس إلى الوضع الذي كانت عليه قبل 7 أكتوبر، بل إلى الوضع الذي كانت عليه قبل 1948. أي بتعبير المتظاهرين البريطانيين المناصرين للشعب الفلسطيني الذين أعلنوا بالفم الملآن في ساحات المدن البريطانية: "فلسطين من البحر إلى النهر".

وقد اعترف مستشار في الخارجية الإسرائيلية لموقع "ميديا بارت" الفرنسي بقوله: "نحن نعتقد فقط أن العملية تمّ تصميمها سراً في غزة من قبل حفنة من المسؤولين العسكريين في حماس... فإذا كان خيارهم... هو إعادة قضية فلسطين إلى الطاولة، فقد تحقّق الهدف. ويمكننا حتى أن نتحدّث عن نصر سياسي ودبلوماسي عظيم".

أروع ما في عملية طوفان الأقصى أنها أصابت القيادات الإسرائيلية وعلى رأسهم نتنياهو ورئيس هيئة الأركان العامة و"الجيش" الإسرائيلي، ورئيس أمان، وغيرهم "بمرض العُصابي" وليس العصبي. والفرق بين التعبيرين هو أن المريض النفسي يظن أن 2 + 2 = 5 بينما المريض العُصابي يعلم أن 2 + 2 = 4، ولكنه مغتاظ للغاية من ذلك. "إسرائيل" اليوم عُصابية من رأسها حتى أسفل قدميها وترفض الاعتراف بحقائق القضية الفلسطينية.

ولهذا فقد وصف الصحافي الإسرائيلي ناحوم برنياع، في صحيفة "يديعوت أحرونوت"، صباح الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي بالكارثة، "الفارق، ربما، بين الحادثة والكارثة. أنه في الحادثة، تطمح إلى العودة إلى الواقع الذي كان قبلها. أما في الكارثة، فيجب إعادة التفكير في المسار". وقال: إنّ صباح الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر الماضي، كان "الأصعب والأشدّ مرارةً" منذ "إنشاء الكيان الإسرائيلي".

لقد صدمت عملية طوفان الأقصى العقل الإسرائيلي حيث شنّ أبطال كتائب القسّام وعددهم 1200 مقاتل هجوماً على فرقة عسكرية إسرائيلية مجهّزة بالإنذار المبكر وكاميرات المراقبة وعددها 20 ألف جندي، بعدما تجاوزوا الجدران العازل الذي بلغت تكلفته مليار دولار.

وقد زاد من "المرض العصابي" عند نتنياهو وكلّ القادة الصهاينة شيئان:

الأول أن هذه العملية شُبّهت من قادة أميركيين وصهاينة بحرب أكتوبر 1973، عندما اقتحمت القوات المصرية خط بارليف الذي كانت تصفه "إسرائيل" بأنه "يستحيل اختراقه". وبحسب تقرير للبي بي سي البريطانية فإن "إسرائيل للمرة الأولى منذ 50 عاماً، أي منذ حرب السادس من تشرين الأول/أكتوبر عام 1973 تعلن (حالة الحرب)، وتستدعي قوات الاحتياط وتضع جميع الموارد تحت تصرّف جيش الاحتلال. رغم أنه من الناحية الفعلية لم تتوقّف العمليات العسكرية التي تشنّها دولة الاحتلال، سواء ضد حركات المقاومة الفلسطينية أو في دول الجوار مثل لبنان وسوريا".

والثاني: إنّ صحيفة "يديعوت أحرونوت" كذّبت نتنياهو عندما تفاخر بمجيء جنرالات من كل أنحاء العالم إلى "إسرائيل"، من أجل التعلّم من إنجازات "الجيش" الإسرائيلي المدهشة في الحرب على غزة، وقالت إن "الحقيقة هي أنّ هؤلاء الجنرالات أتوا بهدف الحصول على جواب عن الأحجية، التي تشغل منذ شهر المنظومتين العسكرية والسياسية في العالم. ومفاد هذه الأحجية: "كيف أخفق جيش مدرّب إلى هذا الحدّ، وغني ومجهّز إلى هذا الحدّ، إخفاقاً مميتاً في الـ 7 من تشرين الأول/أكتوبر"؟

فمنذ اللحظة الأولى لعملية طوفان الأقصى جنّ جنون نتنياهو ورفع سقف شروطه للخروج من غزة: القضاء على حماس وقيادتها، وإطلاق الرهائن، والسيطرة الأمنية على غزة. وكانت النتيجة أنه لم يحقّق أيّ شيء من شروطه. وكانت النتيجة أنه بعد نحو 3 أشهر حركة حماس لم تهزم و"إسرائيل" لم تنتصر.

وقد أرجع رئيس وزراء "إسرائيل" الأسبق إيهود باراك "فشل نتنياهو في قيادة الحرب إلى رفضه فهم أنه لا يمكن تحقيق النصر على حماس من دون تحديد موقف واضح لليوم التالي المخطّط له وخطة لتنفيذ الرؤية المحدّدة". 

فشل استراتيجية نتنياهو: "إدارة الصراع"

لقد حطّمت عملية طوفان الأقصى "عقيدة نتنياهو" التي اتبعها، والتي كان هدفها الأول والأخير "البقاء في السلطة"، وهذا ما يؤكّده أنطوان شلحت في كتابه "بنيامين نتنياهو.. عقيدة اللاحلّ"، وهو ما جعله يتمسّك بسياسة "عدم الفعل"، بديلاً من سياسة الفعل، بهدف تكريس "الوضع القائم"، الذي يتسم بنهج "إدارة الصراع". وقد نقل شلحت عن المؤرّخ يحيعام فايتس المحاضر في قسم التاريخ في جامعة حيفا قوله: "نتنياهو أول رئيس حكومة في تاريخ إسرائيل يعتبر البقاء في السلطة هدفاً أساسياً، وليس لديه أي هدف آخر يتخطّى البقاء على كرسي الحكم".

فقبل أسابيع من العملية البطولية، كان رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو يتباهى بنظريته المفضّلة "إدارة الصراع"، وأنّ "إسرائيل" تتجاهل عمداً أي حديث جاد عن تأسيس دولة فلسطينية وموضوع القدس واللاجئين وغيره، وأن هذه النظرية نجحت إلى درجة أن الفلسطينيين ليسوا محور الصراع في المنطقة، وبأنه هو الوحيد القادر على دمج "إسرائيل" في الشرق الأوسط من خلال مبدأ "السلام مقابل السلام" من دون تقديم أي شيء للفلسطينيين. على عكس ما يراه العالم أجمع وليس المنطقة فقط، متوهّماً أنه يستطيع توقيع اتفاقية تطبيع مع السعودية بينما يتجاهل الفلسطينيين ويهمّشهم تماماً، وأن فلسطين لم تعد تظهر على خريطته "للشرق الأوسط الجديد".

وقد طبّق نتنياهو استراتيجيته هذه من خلال رفض مواصلة التفاوض مع السلطة الفلسطينية أو منظمة التحرير الفلسطينية، والتأكيد أنهما ليسا محاورين يتمتعان بالمصداقية لأنهما يسيطران فقط على الضفة الغربية، بينما يفلت قطاع غزة منهما.

فقبيل عملية طوفان الأقصى كان نتنياهو يكتفي بالردع. فعندما كانت ترمي المقاومة الفلسطينية وابلاً من الصواريخ على مناطق إسرائيلية محتلة كان يردّ عليها من خلال حشد صواريخ "القبة الحديدية" المضادة للصواريخ، وشنّ غارات جوية قصيرة وموجّهة ومدمّرة. ومنذ أن شكّل الحكومة الحالية في كانون الأول/ديسمبر من العام الماضي، ألزم نتنياهو نفسه بضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية المحتلة بشكل رسمي إلى "إسرائيل". 

فقد نشرت صحيفة The New York Times الأميركية تقريراً منذ مطلع العام الماضي، يرصد كيف أن "حكومة إسرائيل اليمينية المتطرفة تزيد من خطر التصعيد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، في ظلّ ضم أجزاء كبيرة من الضفة الغربية المحتلة بشكل رسمي إلى "إسرائيل" وتصاعد اعتداءات المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية، ووضع الحكومة الإسرائيلية الجديدة الاستيطان في طليعة ملفاتها المهمة، منذ نيلها ثقة الكنيست الذي يسيطر عليه اليمين واليمين المتطرّف، في كانون الأول/ديسمبر 2022.

وقبل أن تكمل تلك الحكومة، برئاسة بنيامين نتنياهو وعضوية إيتمار بن غفير، شهرها الأول، اقتربت الأمور من حافة الانفجار حرفياً، وارتفعت فرص اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة ضد الاحتلال، فسارعت إدارة جو بايدن بإرسال وزير الخارجية أنتوني بلينكن إلى المنطقة لاحتواء الموقف.

وزار بلينكن المنطقة لتوجيه رسالة إلى حكومة نتنياهو، مفادها معارضة أميركا لأي "إجراءات استفزازية" بحق الفلسطينيين، لكن نتنياهو ردّ بالتوسّع في المستوطنات وتكثيف الاعتداءات والاقتحامات على المسجد الأقصى، وتهجير الفلسطينيين من أراضيهم في القدس.

وقد حاول نتنياهو تشكيل محور إسرائيلي مع بعض دول ما يسمّى الاعتدال العربي لمواجهة إيران، فماذا حدث؟ وقّعت السعودية وإيران اتفاقاً لتطبيع العلاقات برعاية صينية. وحاول نتنياهو برعاية أميركية أن يردّ على ذلك الاتفاق بتوقيع اتفاق إسرائيلي ـــــ سعودي.

ماذا كانت النتيجة؟

لقد انفجرت استراتيجية "إدارة الصراع" التي استخدمها في وجهه في 7  تشرين الأول/ أكتوبر، وفق ضابط إسرائيلي متقاعد، وسيُجبر على الانتقال إلى استراتيجية "حل الصراع". فلم يعد الزمن يسعفه كما كان يدّعي ليتهرّب من استراتيجية "حل الصراع". فالانتقال إلى هذه مرحلة "حلّ الصراع" يجعله يدخل إلى ملعب طالما تهرّب منه خوفاً من مواجهة الحقائق التاريخية.

إنّ نتنياهو اليوم عالق بين السندان والمطرقة، فينقل موقع "ميديا بارت" الفرنسي عن ضابط إسرائيلي كبير متقاعد، قوله: "نتنياهو محاصر بين احتمالين هائلين.. مواجهة بايدن، أي تعريض نفسه لمطالب حليف حاسم؛ أو مواجهة يمينه المتطرف، أي المخاطرة بانهيار ائتلافه.

ويحدّد هذين السيناريوهين على النحو التالي: "القبول في فترة ما بعد الحرب بعودة السلطة الفلسطينية المعزّزة إلى غزة، وهو ما يعني أيضاً فتح المفاوضات في نهاية المطاف حول إنشاء دولة فلسطينية"، وهو الحل الذي اقترحه بايدن، وفي هذه الحالة، قد يخاطر بمغادرة اليمين الديني المتطرف الحكومة والائتلاف، مما يفتح الطريق أمام انتخابات مبكرة سيصبح فيها حزب الليكود ضعيفاً للغاية، وحيث قد تؤدي الهزيمة إلى تقديم نتنياهو إلى المحاكمة، وهو الأمر الذي سعى إلى تجنّبه لسنوات".

إن العدوان على غزة بحسب تحليل لصحيفة هآرتس هو "عملية إنقاذ المجنّد نتنياهو"، في توظيف لعنوان فيلم أميركي شهير هو "إنقاذ المجنّد رايان" يحكي قصة حقيقية أثناء الحرب العالمية الثانية لمهمّة البحث عن وإنقاذ مجنّد أميركي يدعى رايان كان له إخوة مجنّدون قتلوا جميعاً."

فمنذ طوفان الأقصى ركّز نتنياهو كل طاقته وآلته الإعلامية بحسب صحيفة هآرتس على محورين: الأول يتعلّق بعدم تحمّله أي مسؤولية عن الهزيمة التي لحقت بـ "إسرائيل" يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر وتحميلها لقيادات "جيش" الاحتلال والأجهزة الأمنية بشكل كامل. وكان نتنياهو قد نشر بالفعل تغريدة على حسابه في منصة أكس (تويتر سابقاً) بهذا المعنى، قبل أن يحذفها لاحقاً ويعتذر عنها.

أما المحور الثاني فهو يتعلق بتصوير نفسه وكأنه زعيم يخوض "حرباً مقدّسة" ليست فقط دفاعاً عن الإسرائيليين، بل عن الحضارة الغربية بأكملها في مواجهة "الفاشية"، في إشارة لفصائل المقاومة الفلسطينية، وبخاصة حركة حماس، وهو ما وصفه تقرير هآرتس بأنه "تلاعب بالعقول على مستوى قومي".

وتؤكد هآرتس أنّ رفع نتنياهو شعارات "سنواصل الحرب حتى النهاية"، و"لن نتوقّف"، و"سنقضي على حماس"، و"سنحرّر الأسرى"، وهي شعارات لا طائل من ورائها سوى تحقيق هدف واحد وهو استمرار الوضع الحالي "إنقاذاً لمستقبل نتنياهو السياسي وحريته الشخصية"، ففي اللحظة التي تتوقّف فيها الحرب على غزة، ستبدأ لحظة الحساب العسير له.