ما العوامل الحاكمة للموقف الإيراني من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا؟

اتصف الموقف الإيراني في بعض أجزائه بالغموض، نظراً إلى سبب محوري مفاده عدم إعلان إيران صراحةً وقوفها مع روسيا، في حين تمّ شجب تحرّكات الناتو لزعزعة أمن روسيا وتقويض تقدّمها ورفضها.

  •  جاء التصرف الإيراني في المنظمات الدولية باعتباره تكتيكاً سياسياً مدروساً
    جاء التصرف الإيراني في المنظمات الدولية باعتباره تكتيكاً سياسياً مدروساً

تجمع إيران علاقات طيّبة مع كلّ من أوكرانيا وروسيا في الوقت ذاته، وهي تتراوح بين السياسة والاقتصاد والثقافة، ولكنها تميل بشكلٍ خاص إلى الجانب الروسي، إذ قال الرئيس إبراهيم رئيسي أنّ التحالف مع روسيا والصين "هو الطريق لكسر الأحادية القطبية"، وذلك إثر زيارة قام بها إلى روسيا.

ولو قارنا بين مجالات العلاقات وتاريخها وعمقها، لمالت الكفة لمصلحة روسيا، إذ إنَّ الكثير من المراقبين الدوليين يتحدثون اليوم عن الحلف الرباعي (الصين وروسيا وكوريا الشمالية وإيران) كقطب مناهض للقطب الأميركي، ولكنّ كلّ هذا لم يجعل إيران تصرّح علناً بالانحياز الكامل إلى روسيا في عملياتها العسكرية في أوكرانيا، بل اتخذت موقفاً وسطياً انطوى على إدراك القواعد اللعبة السياسية التي تديرها أميركا داخل المنظمات الدولية وخارجها.

وقد اتصف الموقف الإيراني في بعض أجزائه بالغموض، نظراً إلى سبب محوري مفاده عدم إعلان إيران صراحةً وقوفها مع روسيا، في حين تمّ شجب تحرّكات الناتو لزعزعة أمن روسيا وتقويض تقدّمها ورفضها، وهو ما يمكن تفسيره بتأييد ضمني لروسيا في تحركاتها لصون سيادتها واستقلالها وحماية منجزاتها وتقدمها. لذا، ومن هذا المنطلق، وجب عرض الموقف الإيراني للاستدلال على مقوماته.

بخصوص وجهة النظر الإيرانية، فرغم ما تمت إشاعته عن الانقسام الداخلي الإيراني بين المحافظين المؤيدين للروس والإصلاحيين المؤيدين للأوكران بخصوص العملية الروسية في أوكرانيا، فإنّ الموقف الرسمي للدولة الإيرانية على لسان مسؤوليها اتسم بالتناسق ووحدة الموقف، إذ كانت إيران من بين الدول التي دخلت في سياق إبداء الرأي في ما يحصل بين روسيا وأوكرانيا من دون إعلان موقف حاسم "مع" أو "ضد"، إذ اعتبر وزير الخارجية الإيراني أن الأعمال الاستفزازية لحلف شمال الأطلسي هي أصل الأزمة الأوكرانية، وكتب حسين أمير عبد اللهيان في "تويتر" أن "أزمة أوكرانيا متجذرة في استفزازات الناتو. لا نعتبر اللجوء إلى الحرب حلاً"، وأضاف أن "وقف إطلاق النار والتركيز على حل سياسي وديمقراطي ضرورة"، وأن ثمة "ضرورة لاحترام القانون الدولي والقانون الإنساني في النزاعات العسكرية".    

وطالب أمير عبد اللهيان الإيرانيين المقيمين في أوكرانيا بالتزام الهدوء والاتصال بسفارة جمهورية إيران الإسلامية واتباع التعليمات الصادرة عن السفارة الإيرانية في أوكرانيا بالبقاء في أماكن آمنة أو المغادرة والعودة إلى إيران. وعلى صعيد المصطلحات المستخدمة في الإعلام الإيراني، فعلى عكس الإعلام الغربي والعربي الَّذي استخدم مصطلحات من قبيل "الغزو" و"الحرب الروسية"، درجت وسائل الإعلام الإيرانية على استخدام مصطلحات من قبيل "عملية خاصة" في الإذاعة والتلفزيون الرسميين.

وبناءً على التّصريحات الدبلوماسيّة السابقة الصادرة عن مختلف المستويات السياسية في إيران، يمكن تحديد مقومات الموقف الإيراني من الأحداث الحالية بين الروس والأوكرانيين بثلاثة مقومات يمكن حصرها بـ:

1.    عدم الوقوف مع أحد أو ضدّ علانية، سواء سياسياً أو عسكرياً أو إعلامياً...

2.    رفض الحرب والعقوبات الاقتصاديّة كمبدأ عام. وفي ما يخصّ الحالة الروسية، رفض تحركات الناتو على الدول المتاخمة لروسيا، الأمر الذي تفسّره روسيا بأنّه تهديد لأمنها القومي بحكم العداوة التاريخية بين روسيا، وريثة الاتحاد السوفياتي (حلف وارسو)، وحلف شمال الأطلسي (الناتو).       

3.    الدّبلوماسية هي الحلّ في ما يخصّ آليات فض النزاع بينهما، لأنّها تجنّب الكثير من المغبّات التي تتسبّب بها الحرب، منها مثلاً المغبات الاقتصادية، إذ قال رئيس مجلس الأمن القومي علي شمخاني: "انهيار الأسواق المالية والارتفاع الكبير في أسعار الطاقة بسبب الأزمة في أقصى شرق أوروبا أظهر أنّ عدم الاستقرار وانعدام الأمن بجميع أشكاله في نصف الكرة الشرقي تسبَّب بضرر جسيم"، في إشارةٍ إلى ما سيترتّب على العملية العسكرية في أوكرانيا.    

4.    احترام القانون الدولي ودعوة الأمم المتحدة إلى تجنّب المعايير المزدوجة في التعامل مع القضايا المتعلّقة بالسلم والأمن الدوليين.

5.    احترام القانون الدولي بخصوص حقوق الإنسان والتقيّد بما ورد من قوانين في أوقات الحروب وكيفية التعامل مع المدنيين وأسرى الحرب وضحاياها. ومن الطبيعي تأييد روسيا فتح ممرات لخروج المدنيين من الأراضي الأوكرانية.  

وبشأن امتناع إيران عن التصويت على قرار الجمعية العامّة الخاص بأوكرانيا، لا يمكن اعتبار الموقف الإيراني علامة فارقة أو صدعاً في العلاقات، وذلك لعدّة اعتبارات منها:

أولاً: أغلب حلفاء الأميركيين والأوروبيين لم يصوتوا مع القرار، منهم دول الخليج مثلاً. في المقابل، وقف أقوى حلفاء روسيا على الحياد، منهم الصين وكوبا وفنزويلا والسلفادور وبوليفيا، ومنهم أصدقاء روسيا، مثل إيران. 

ثانياً: لو صوّتت إيران مع القرار ضدّ الولايات المتحدة الأميركية، فإنّ ذلك سيكون بمثابة تحزب مع الروسي، وسينعكس سلباً على مفاوضات فيينا، ولا سيما بعد رفع الطرف الأميركي بعض العقوبات الاقتصادية عن إيران في الفترة ذاتها التي اجتمع فيها الرئيسان الروسي والصيني بمناسبة افتتاح أولمبياد بكين وتوقيعهما العديد من اتفاقيات الطاقة، الأمر الذي كان له دلالاته.

ثالثاً: لو صوّتت إيران مع القرار، لكان الأمر ضربة للعلاقات الروسية - الإيرانية، لأنَّ روسيا والصين أعلنتا في العام 2018م قيامها بضمان المشروع النووي الإيراني السلمي، علاوةً على التعويل الإيراني الكبير على العلاقات مع روسيا مقابل النبرة المتوترة مع الغرب. 

في النّتيجة، جاء التصرف الإيراني في المنظمات الدولية باعتباره تكتيكاً سياسياً مدروساً قائماً على مراعاة الظرف الإيراني الراهن وفهم قواعد اللعبة السياسية التي تجري بين الروسي من جهة والأميركي والأوروبي من جهة أخرى. كما جاء التصرّف الإيراني في المنظمات الدولية معبّراً ومنسجماً مع المعلن دبلوماسياً، بدليل الامتناع عن التصويت الذي جاء ترجمة للموقف الإيراني الوسطي بين الدعوة إلى الحوار والدبلوماسية لحلّ الخلافات الدولية بعيداً عن الحرب، والتأكيد على المخاطر المرتبطة بتوسّع الناتو شرقاً... على العموم، جاء الموقف الإيراني معتدلاً وعقلانياً، ظاهرة أنيق وباطنه عميق، وهو ليس سوى تأييد ضمني لروسيا، ليس ضد أوكرانيا، بل ضد الولايات المتحدة والدول الأوروبية الساعية لزعزعة الأمن الروسي.    

في المجمل، إنّ الموقف الإيراني تجاه الحالة الروسية - الأوكرانية يحكمه العديد من العوامل ذات الأبعاد المتعدّدة، وأهمها:

أوّلاً: العامل الأمني الَّذي يتمثّل بالمخاطر التي تترتب على تحرّكات دول الناتو على دول آسيا وأوروبا، وهو ما عبّر عنه سعيد خطيب زاده بقوله: "أدّى استمرار الإجراءات الاستفزازية من قبل الناتو إلى وضعٍ تبدو فيه منطقة أوراسيا على وشك الدخول في أزمة شاملة".

ثانياً: هناك أسباب كثيرة جعلت إيران تأخذ الدواء والمبدأ في موقفها متسابق من التطورات الحاصلة، أهمها روسيا مبدئياً، لا تحتاج لحلفاء في حربها.

ثانياً: المفاوضات النووية في فيينا حالياً مع الخمسة زائد واحد، واعتماد إيران في المفاوضات مبدأ حل المشاكل مع جيرانها، ورغبتها في اعتماد هذه التجربة وتعميمها.

ثالثاً: الظروف الراهنة في إيران، لا سيما الاقتصادية، فهي تشهد تعافياً تدريجياً، ولكنها ليست بصدد إقحام نفسها بمخاطر مجهولة الأمد والتكاليف. 

رابعاً: وجود روسيا في عضوية مجلس الأمن، الأمر الذي يمنحها حق النقض الفيتو، في ظل وجود الحليف الصيني الذي لا يتحرّك إلا إذا بلغت الأمور مبلغاً حرجاً، بدليل اتفاق الغاز والنفط الأخير مع روسيا والغاز اقتصادها وبين اندلاع العملية العسكرية في أوكرانيا.

خامساً: الأساس الأيديولوجي للجمهورية الإسلامية المتجسّد بمبدأ "لا شرقية ولا غربية". ولو كان الإمام الخميني حياً يرزق، لمدح هذا الموقف الذي اتخذته إيران. أمّا على صعيد الحروب الكبرى، فلا شرقية ولا غربية، لأنّ المعيار هو حماية الأمن القومي الذي قد يقتضي النأي بالنفس عن أي صراع عسكري أو اقتصادي، مهما كانت درجة العلاقات الدولية ومتانتها، وخصوصاً في عالم اليوم الَّذي لا تستطيع فيه الدول إلا أن تتحزّب طوعاً أو قسراً تبعاً لمعاييرها وحساباتها الخاصة، كلّ على حدة.

ومن الأدلة التي تثبت أن الموقف الإيراني من العملية العسكرية الروسية، سواء في إطار المنظمات الدولية أو خارجها، هو - كما أسلفت - تكتيك سياسي مدروس، قيام روسيا التي تؤدي دور الضامن في مباحثات فيينا بموجب العلاقة الوثيقة مع طهران بطلب ضمانات خطية من الولايات المتحدة بأنّ العقوبات المفروضة على روسيا لن تضر بتعاونها مع إيران.

هذا الطلب الغريب الذي أظهر روسيا بمظهر "ضعيف" قابلته تصريحات للخارجية الإيرانية بأن الوزير أمير عبد اللهيان قال للافروف في اتصال هاتفي: "نحن ضد كلّ من الحرب والعقوبات، وعلاقات إيران مع كل الدول، بما فيها روسيا، (يجب) ألا تتأثر بالعقوبات". 

إن استخدام فعل "يجب" يعكس إرادة متبادلة باستمرار العلاقات بين الروس والإيرانيين رغم العقوبات. ولعل الطلب الروسي ينطوي على تهديد مفاده: "لن نضمن إيران إذا قيّدتم علاقتنا بها. وفي هذا الطّلب تلويح إلى مكاسب روسية منتظرة من إيران ذات صلة بالنووي، كشراء اليورانيوم المخصب مثلاً"، والمهمّ في الأمر أنَّ العلاقات الإيرانية الروسية مستمرة، ولن تتأثر في حقيقة الأمر بما تقتضيه الدبلوماسية والإعلام من تصريحات شكليّة لا تعبّر عن المضمون.  

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.