من كوريا إلى أوكرانيا: العلاقات الدولية بين الفوضى الخلّاقة والفوضى الشاملة

هل ستكون الحرب الروسية–الأوكرانية في العام 2022، المسمار الأخير في نعش الأحادية القطبية، وقطع الطريق على المحاولات الأميركية لتأكيد قيادتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على الساحة الدولية؟

  • من كوريا إلى أوكرانيا:  العلاقات الدولية بين الفوضى الخلّاقة والفوضى الشاملة
    من كوريا إلى أوكرانيا: العلاقات الدولية بين الفوضى الخلّاقة والفوضى الشاملة

لم تنتظم العلاقات الدولية يوماً في إطار متكامل، يحاكي البناء الهيكلي لمنظومة المجتمع الدولي، مستندة إلى مؤسسات دولية موثوقة، من المفترض أن تتجلّى أبهى صورها في منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها، والعديد من التجمّعات الدولية التي تهدف إلى نشر المبادئ القانونية الدولية، لتحقيق السلم والأمن الدوليين.

لكنّ تلك العلاقات نفسها، لم تكن بهذا الشكل من الفوضى الشاملة، التي تكرّست في ظل مستوى التباعد والتنافر السياسي والاقتصادي على الصعيد الدولي، ومحاولة هيمنة العديد من الأقطاب الدولية على القرارات المصيرية، التي تصيب الدول وشعوبها.

لقد عاشت البشرية خلال القرن الماضي أسوأ مراحلها التاريخية، التي ظهرت في الحربين العالميتين، مخلّفة ملايين الضحايا والدمار الهائل في الدول، وتركت ندوباً لم تندمل إلى الآن، ومع انتهاء الحرب العالمية الثانية، تم استنزاف الدول بحروب باردة وساخنة، تنقّلت في العديد من المناطق، وتسبّبت في المزيد من المآسي والويلات.

لطالما شكّلت العلاقات بين الدول ساحة مواتية لتنظيم المصالح المشتركة في ما بينها، وترتيب الأولويات في علاقاتها، وصولاً إلى وضع الطرق المناسبة لحل منازعاتها، بالرغم من فشل النظريات التي أسست للعلاقات الدولية، في تحقيق الاستقرار في استمرار تلك العلاقات على ركائز موحّدة، في شكلها وأطرها ومستوياتها، ومع ذلك لم تخرج عن الحدود المرسومة لها، وتم حصر تداعياتها وتأثيراتها المتشعّبة، كي تبقى منضبطة. 

لقد تخلّصت البشرية إلى حدّ ما من الذعر الشامل، الذي تسبّبه الحروب العالمية، وظلت المآسي محصورة في مناطق محدودة، بالرغم من الانشطارات التي طالت بعض الدول المتاخمة لتلك المناطق المتوترة، وعانت مرارة الانعدام الكلي للأمن والاستقرار، فشهدنا الحروب العديدة التي شكّلت محطات أساسية لرسم خارطة التحالفات الدولية، التي ظلت في تبدّل دائم.

شهد العالم بعد الحرب العالمية الثانية، الحرب الكورية في العام 1950، بسبب الحرب الأهلية في شبة الجزيرة الكورية، التي كانت منقسمة إلى جزءين شمالي وجنوبي، الجزء الشمالي تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي، والجزء الجنوبي خاضع لسيطرة لجنة الأمم المتحدة المؤقتة لكوريا بقيادة الولايات المتحدة الأميركية. واستمرت الحرب حتى العام 1953، موقعة أكثر من مليون قتيل، وبالرغم من انتهاء الحرب، استمر النزاع الحدودي بين الكوريتين إلى اليوم.

بعد الحرب الكورية، جاءت الحرب في فيتنام عام 1955، والتي استمرت حتى العام 1975، والتي خرج منها الجميع خاسراً بنسب متفاوتة، مع خاسر أكبر تمثّل في الولايات المتحدة الأميركية، وفشل دعمها لفيتنام الجنوبية، ورابح منهك تجلّى في الفيتناميين الشماليين، عندما اكتسحوا فيتنام الجنوبية بعدما تركت وحيدة في الحرب.

لقد شكّل التدخّل السوفياتي في أفغانستان في العام 1979، منعطفاً خطيراً، استدعى التأسيس لتشكيلات وتحالفات دولية، لأسباب سياسية واقتصادية، مغلّفة بنكهة أيديولوجية، تؤسس لاستغلال الصراع المفتوح بين الإسلام والشيوعية، بحيث انتهت الحرب بهزيمة السوفيات في العام 1989، وانتصار الأفغان بدعم كبير وأساسي من الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا والصين وباكستان وإيران والسعودية، وأدت الحرب إلى مقتل أكثر من مليون شخص وتهجير الملايين من الأفغان.

ما إن وضعت الحرب أوزارها في أفغانستان، وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979، حتى اندلعت حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران في العام 1980، والتي استمرت حتى العام 1988، والتي وصفت بأنها أطول نزاع عسكري في القرن العشرين، وواحدة من أكثر الصراعات العسكرية دموية، نظراً للخسائر البشرية والاقتصادية (سقوط أكثر من مليون قتيل من العسكريين والمدنيين).

بعد انتهاء حرب الخليج الأولى، استفاق العالم في 2 آب/أغسطس من العام 1990، على اجتياح الجيش العراقي للكويت واحتلالها، والتي رسّخت تواصل الحروب في المنطقة الأكثر حساسية، لناحية المخزون الكبير من مصادر الطاقة، الذي يغذي الدول المتقدمة، ويبقي عجلة إنتاجها مستمراً، نظراً لما تشكّله تلك الموارد من مواد أولية أساسية، تفتح شهية الدول الغنية على الأسواق الخارجية، وتحديداً أسواق الدول النامية، وحرمانها من تحويل مواردها وثرواتها إلى القطاعات الإنتاجية، لتلبية احتياجاتها الداخلية، وتخفيف كلفة الاستيراد المرتفعة.

لقد أحدث اجتياح العراق للكويت تغيّراً كبيراً في خارطة منطقة الخليج، لما له من تداعيات جسيمة على مجمل منطقة الشرق الأوسط، وعلى التحالفات الدولية التي تشكّلت في اللحظة المصيرية، كما أنها مهّدت إلى تحقيق الأهداف الاستراتيجية الثابتة للولايات المتحدة الأميركية، وأهمها الوجود العسكري المباشر في منطقة المخزون الاحتياطي الوازن على صعيد الاحتياطي العالمي من النفط والغاز، بحيث يكون هدف تحرير الكويت، جسراً للعبور نحو السيطرة على منابع مصادر الطاقة، وعاملاً إضافياً لتوكيد السيطرة الأميركية على القرار الدولي، في ظل سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991. 

ولعلّ الوجود العسكري المباشر في الخليج، يشكّل ضمانة مزدوجة للولايات المتحدة الأميركية، فمن ناحية تحافظ على استمرار الإمدادات النفطية، ومن ناحية ثانية تدعم بقاء ملوك وأمراء الدول الخليجية العربية في السلطة، بعد تضخيم الخطر الإيراني وتهديده المباشر، والخوف من تصدير الثورة لزعزعة استقرار دول الخليج وتقويض أنظمتها. كما أن الوجود المباشر يساهم في تأمين سهولة التحرّك والتدخّل بحال حدوث أي اضطرابات أو أزمات في المنطقة، وضمان سلامة الممرات البحرية، وسط الصراع المستمر في السيطرة أو التأثير عليها.

بعد تدخّل التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، تحرّرت الكويت من الاحتلال العراقي في 26 شباط/فبراير من العام 1991، ليرزح بعدها العراق تحت حصار اقتصادي شامل بدأ في 6 آب/أغسطس 1990 نتيجة غزو العراق للكويت، واستنزف موارده وإمكانياته، وأهدرها على مدى 13 عاماً، لتفتح بعدها آفاق التسويات في المنطقة، بعد عقد مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991، لحل الصراع العربي – الإسرائيلي.

في الحادي عشر من أيلول/سبتمبر عام 2001، وفي لحظة تاريخية، اصطدمت عدة طائرات حربية ببرجي مركز التجارة العالمي في نيويورك، ومبنى البنتاغون في مقاطعة أرلنغتون في فرجينيا، ما أحدث صدمة مرعبة شاهدها العالم أجمع، كانت كفيلة بتغيير مجرى الأحداث على الصعيد العالمي، بحيث أصبح الإرهاب ظاهرة دولية، تغذّت من اتهام الإسلام بالدعوة إلى العنف والإرهاب، الذي يهدّد الاستقرار العالمي. 

وعلى وقع هذا الحدث، ورداً على استهداف العمق الأميركي، قادت الولايات المتحدة الأميركية في العام 2001 تحالفاً دولياً، بهدف غزو أفغانستان واحتلالها، بذريعة استهداف زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن، واستمرّ الاحتلال حتى العام 2021، سبقه اعتماد الناتو لاستراتيجية خروج قواته في العام 2014، لتقوم بعدها الولايات المتحدة الأميركية بالانسحاب من أفغانستان بطريقة دراماتيكية، وسيطرة حركة "طالبان" على البلاد، وقد أوقعت الحرب مئات الآلاف من القتلى.

بعد الحرب على أفغانستان، ومواصلة السيطرة على منطقة الخليج، تمّ تضخيم امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل، والتي تبيّن في ما بعد، بأنّ تلك الادعاءات لا تستند إلى أي أدلة تثبت ذلك. فقادت الولايات المتحدة الأميركية تحالفاً دولياً في العام 2003، وشنت حرباً أدت إلى سقوط نظام صدام حسين، واحتلال العراق بالرغم من المقاومة العراقية في العديد من المناطق، ووقوع آلاف القتلى وتدمير العديد من المدن والمعالم الأثرية. 

وعمدت قوات الاحتلال إلى تشكيل سلطة التحالف المؤقتة، وفي خطوة متعمّدة، قامت بحل الجيش العراقي، بذريعة اجتثاث حزب البعث، لكنها تهدف إلى قطع الطريق على أي دور للجيش العراقي في حاضر العراق ومستقبله، وجعله ساحة للفتنة الطائفية، التي تؤسس لاستدامة الصراع بين المكوّنات العراقية، لمنع قيامة الوطن واستقراره، وقد قامت الولايات المتحدة الأميركية بإعلان انسحاب قواتها في العام 2011. 

وقد استمرّ تمركز جنودها في الأراضي العراقية، بموجب الاتفاقية الأمنية الموقّعة مع العراق في العام 2008، والتي تمّ الاستناد إليها في العام 2014، عند تلبية طلب العراق من الولايات المتحدة الأميركية المساعدة في القضاء على تنظيم "داعش"، ولم يتوقّف الجدل في الداخل العراقي حول شرعية الوجود الأميركي في العراق، وإلغاء الاتفاقية الأمنية.

استمرّت التوترات العالمية، وتغيّرت التحالفات الدولية، لكن هذه المرة تركّزت من أجل السيطرة على الاقتصاد العالمي، واتخذ الصراع أشكالاً متعددة، ظلت محصورة في الجانب الاقتصادي، فشهدنا حروباً تجارية بين الولايات المتحدة الأميركية والصين، والقيام بإجراءات أحادية من قبل واشنطن، تمثّلت برفع الرسوم الجمركية على السلع الصينية، وكذلك بطريقة مماثلة على بعض الواردات الأوروبية، ما هدّد باستقرار التجارة الدولية.

وظلت الحروب التجارية متواصلة بأشكال متنوعة، بالرغم من استمرار العلاقات التجارية بين الدول المتنازعة، وخصوصاً بين الولايات المتحدة والصين، وتراوحت بين التصعيد والترقّب، والتي طالت عدة مجالات اقتصادية، إلى أن خرج الصراع إلى مجالات أخرى، تجلّى في الجانب السياسي والعسكري مع الصين، بسبب قضية تايوان، ومحاولة استغلالها للتضييق على بكين، وتأخير تغلغلها في مفاصل الاقتصاد العالمي، الذي يؤهّلها إلى التحكّم أو على الأقل المشاركة الفعّالة في صنع القرار على هذا الصعيد. 

فمع سعي تايوان الدائم لتأكيد استقلالها، تعمد الصين إلى تأكيد استحالة ذلك بشتى الوسائل، وعدم المساس بوحدتها، وأن قضية تايوان بالنسبة إليها مسألة حياة أو موت، وأنها لن تستثني استخدام أي أسلحة سلمية أو عسكرية لإبقاء تلك الجزيرة تحت سيادتها، مع التسليم ببعض الخصوصية في طريقة إدارتها، أو التخفيف من حدة التعاطي معها، عبر تأمين الوحدة مع الاستقرار المستدام.

وعلى وقع الحروب التجارية والتهديد بالحروب العسكرية، توجّهت أنظار العالم في العام 2021 إلى روسيا، بعد حشد قواتها بالقرب من حدودها مع أوكرانيا، وعاش العالم التجاذبات الدولية في تلك الأزمة، بوصفها واحدة من أكثر الأزمات حدة منذ الحرب الباردة، والتي بدأت في العام 2014، عندما تمكّنت الثورة الأوكرانية من الإطاحة بحليف روسيا الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش. 

ما يوحي بانتصار للولايات المتحدة الأميركية، بجعل أوكرانيا الخاصرة الرخوة للدولة الروسية الطامحة إلى تأدية دور ريادي في صنع القرار الدولي، والتأثير على الأحداث العالمية، خصوصاً بعد سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم في العام 2014، وإجراء استفتاء ضمّت بنتيجته شبه الجزيرة إلى روسيا الاتحادية، والذي اعتبرته أوكرانيا والمجتمع الدولي بمثابة احتلال وتعدٍ على سيادة أوكرانيا ووحدة أراضيها.

بعد فترة قصيرة اتخذت الأزمة أنماطاً متعددة، بدأت مع التهديدات المتبادلة بين روسيا من جهة، وأوكرانيا وحلف الناتو من جهة أخرى، والتعبير بقوة عن القلق الروسي من انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو، ومعارضة توسيعه ليطال دولاً متاخمة للحدود مع روسيا، إلى أن وصل الأمر بالتهديد بالدخول إلى أوكرانيا، مع تأكيد المخابرات الأميركية بأن روسيا تستعدّ لغزو أوكرانيا، بناءً على الخوف الروسي من الانتشار الأطلسي بالقرب من حدودها. 

وذلك لتغيير الوضع الجيو–أمني في المنطقة، وسحب البساط من تحت زعامة فلاديمير بوتين، المهووس بعودة روسيا إلى القيادة المشتركة للعالم مع الولايات المتحدة الأميركية، والانتقال الطبيعي من الأحادية القطبية إلى تعدّد الأقطاب، في عالم يتغيّر بسرعة مذهلة، وعلى أبواب الأزمات المخيفة، التي تهدّد مصادر الطاقة، وتوحي بأزمة غذاء عالمية، في ظل المؤشرات المؤكّدة لركود الاقتصاد العالمي، ودخول العالم في مرحلة تضخّم مقلقة، وتزايد الاضطرابات، ما يهدّد الاستقرار العالمي، مع تزايد الصراع على مناطق النفوذ الغنية بالموارد الطبيعية، ومحاولة تحييد الممرات البحرية عن الصراعات القائمة.

فهل ستكون الحرب الروسية–الأوكرانية في العام 2022، المسمار الأخير في نعش الأحادية القطبية، وقطع الطريق على المحاولات الأميركية لتأكيد قيادتها السياسية والاقتصادية والعسكرية على الساحة الدولية؟ وما هي آفاق الحرب وتداعياتها على الأمن الغذائي العالمي ومصادر الطاقة؟ وهل ستنجح الولايات المتحدة وأوروبا في استراتيجية الاستغناء عن الغاز الروسي، بعقد اتفاقات مع العديد من الدول كي تكون بديلاً مستداماً، لتجنّب الضغط الروسي على القارة الأوروبية؟ 

وهل سيتغيّر شكل العلاقات الدولية في ظل التحالفات التي لم تعد مستقرّة؟ وماذا حقّقت روسيا من حربها على أوكرانيا على الصعيدين الداخلي والخارجي؟ وهل ستسلك الصين في صراعها مع تايوان الخارطة الروسية في حربها مع أوكرانيا، وتضحي بمكتسباتها في التجارة الدولية في علاقاتها مع الولايات المتحدة الأميركية؟ وهل من مؤشرات ومعطيات على عقد اتفاق ضمني أو عفوي بين واشنطن وبكين، للاستفراد بالقرار الدولي، وإغراق روسيا في المستنقع الأوكراني؟ أم أن روسيا والصين تعتمدان استراتيجية موحّدة في مواجهة الخصم المشترك؟ 

لن يتأخّر الوقت لاكتشاف التغيرات في موازين القوى بعد تلك الحرب المرعبة، ليس لأنها أكثر حدة من الحروب السابقة، بل لأنها فقط تهدّد بحرب عالمية ستكون كارثية على الجميع.