نحو تحالف عالمي للتعويض عن الاستعمار وجرائمه

من الضروري العمل من خلال الأحرار في العالم على إنشاء تحالف أممي يضم الدول والشعوب التي خضعت للاستعمار، وذلك لمطالبة القوى الاستعمارية بالتعويض عن ماضيها الاستعماري.

  • نحو تحالف عالمي للتعويض عن الاستعمار وجرائمه
    بُنيت الممارسات والسياسات الاستعمارية على نهب ثروات الشعوب المستعمرة

قامت فكرة الاستعمار تاريخياً على ممارسة مبنية على فرض الهيمنة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والقانونية من جانب دولة أجنبية، وهي في الغالب دولة غربية، على إقليم أجنبي وسكانه. وقد كان الاستعمار الذي امتد من القرن السادس عشر حتى منتصف القرن العشرين ممارسة غير محظورة بموجب القانون الدولي التقليدي، لكنها أصبحت محرمة منذ منتصف القرن العشرين، إذ قامت الأمم المتحدة بتصفية الاستعمار في العالم. 

لقد بُنيت الممارسات والسياسات الاستعمارية على نهب ثروات الشعوب المستعمرة، ومراكمة الثروة ورأس المال على حسابها، وإفقارها وتهميشها واسترقاقها والاتجار بها، وتدمير صناعاتها ونشاطاتها الزراعية والتجارية، فضلاً عن القهر والاضطهاد والبطش الذي مارسته القوى الاستعمارية في الأراضي الخاضعة لها. وقد أدت تلك السياسات والممارسات الاستعمارية إلى اختلالات بنيوية بين الدول الاستعمارية وتلك التي خضعت للاستعمار، تجلت في ظلم وعدم مساواة تاريخيين.

 ومع أن شعوباً ودولاً كثيرة نالت استقلالها وتحرّرت من ربقة الاستعمار، إلا أن ذلك لم ينهِ مظاهر الظلم وعدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الفاحشة التي حلت بالشعوب والدول التي خضعت للاستعمار من جراء ممارساته وسياساته الاستعمارية، فضلاً عن سيطرة نخبة سياسية اجتماعية أنشأها الاستعمار، وما زالت تحظى بعلاقات وطيدة معه، وتقوم بإدارة دولة ما بعد الاستعمار سياسياً واقتصادياً وقانونياً، بما يخدم الدولة الاستعمارية ومصالحها هي الشخصية، أي أن الاستعمار ما زال قائماً، ولكن بصورة متوارية خلف تلك "النخبة المتحالفة معه" التي اختطفت الدولة عقب استقلالها وتحرّرها، فمرحلة ما بعد الاستعمار لم تشهد زوال مظاهر الاستعمار وآثاره، من ظلم وعدم مساواة وفقر وتخلّف تسبب به الاستعمار وسياساته.

لا شكَّ في أن آثار الاستعمار التي ما زالت ماثلة إلى الآن، إضافة إلى سياسات الاستعمارية الجديدة، تثير أسئلة قانونية عن إمكان مطالبة الدول والشعوب التي خضعت للاستعمار بالتعويض عليها بعد ما لحق بها، وما زال، من فقر وتخلف وظلم وعدم مساواة في المجالات المختلفة، ثم هل لتلك الشعوب والدول حق جماعي أو فردي في المطالبة بالتعويض والمساعدة في حل مشكلاتها القائمة بسبب الممارسات والسياسات الاستعمارية من خلال حقها في التنمية الذي أقرّته الأمم المتحدة قبل عقود من الزمن؟ وما السبل والآليات التي قد يتيحها القانون الدولي في هذا الخصوص؟

 من الثابت أن جبر الضرر والتعويض يعدان من أبرز الطرائق القانونية وأهمّها لمعالجة آثار الجرائم الدولية والانتهاكات الكبيرة لحقوق الإنسان، والممارسات الاستعمارية تشكل –وفق مفاهيم القانون الدولي المعاصر– جرائم ضد الإنسانية وجرائم إبادة جماعية وعدواناً في بعض الحالات.

 ومن الضروري أن نؤكد هنا أن هذا الوصف القانوني هو بمقتضى القانون الدولي المعاصر، لأن القانون الدولي التقليدي الذي كان سائداً إبان الحقبة الاستعمارية لم يكن يحظر الاستعمار، وكان يعده من الوسائل المشروعة لكسب الإقليم.

 وفي أي حال، الفكرة التي نطرحها وندافع عنها في هذا المقال تتمثّل بوجوب التعويض على الشعوب التي خضعت للاستعمار عن الآثار الاستعمارية التي عانت وما زالت تعانيها، وتمثلت من الأساس بعدم المساواة في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والتنموية، وبما لحقها من ظلم واضطهاد. 

يتخذ جبر الضرر والتعويض في القانون الدولي أشكالاً مختلفة وعديدة، وقد يجري من خلال وسائل قضائية أو شبة قضائية أو غير قضائية، وقد يتضمّن الاعتذار والترضية وضمان عدم تكرار الفعل، وإعادة الحال إلى ما كانت عليه، والتعويض النقدي وإنشاء برامج ومشروعات اقتصادية وصحية وتعليمية واجتماعية وتنموية لمعالجة المشكلات التي نجمت عن الاستعمار وجرائمه، وما زالت ماثلة إلى أيامنا هذه. 

وإذا كان الاستعمار جائزاً، ولم يكن جريمة في ظل القانون الدولي التقليدي، فإنَّ القانون الدولي المعاصر يتضمن مفاهيم ومبادئ، في مقدمها الحق في التنمية، تسمح، لا بل تستوجب، تصحيح آثار الماضي وما نجم عنها الآن من مظاهر ظلم وعدم مساواة تاريخيين.

ثمة ترسانة قانونية لا يستهان بها تؤيّد ما نذهب إليه من وجوب مطالبة الدول الاستعمارية بتعويض الشعوب التي رزحت تحت نير سياساتها الاستعمارية. ربما ليس هذا هو المقام المناسب لاستعراض الأسس القانونية التي تسوّغ وجوب تعويض الشعوب المستعمرة عن الظلم وعدم المساواة التي لحق بها من جراء السياسات الاستعمارية، ولكن من المستحسن الإشارة إلى إعلان الجمعية العامة الخاص بالحقوق والواجبات الاقتصادية للدول لعام 1974، وإعلان الجمعية العامة الخاص بالحق في التنمية لعام 1986، والإعلان الخاص بمبادئ الأمم المتحدة التوجيهية لتعويض ضحايا الانتهاكات الكبيرة للقانون الدولي لحقوق الإنسان وللقانون الدولي الإنساني.

 وهناك مصادر وأسس قانونية كثيرة قد تسوغ هذا الحق وتدافع عنه كأحد أبعاد الحق في التنمية، على الرغم من إنكار وجوده من جانب الدول الغربية التي مارست الاستعمار، وعدد من الغربيين المختصين بالقانون الدولي، وخصوصاً أنهم يرفضون الطبيعة القانونية والمعيارية للإعلانات المذكورة، إضافةً إلى اعتراضات أخرى يبدونها لتدعيم وجهة نظرهم. لذلك، إن مسألة الأسس القانونية للحق في التعويض عن الآثار الاستعمارية كجزء من الحق في التنمية تستحق التحليل في مقال مستقل ومفصل. 

كذلك، إن الممارسة القضائية في دول مثل نيوزيلندا وبريطانيا أقرت فكرة حصول بعض الشعوب والمجموعات السكانية المحلية على تعويض، إذ قضت المحكمة العليا في بريطانيا عام 2013 بالتعويض على مجموعة تضم 5 آلاف كيني ينتمون إلى قبيلة "الماو ماو" على ما لحق بهم من أضرار من جراء تعذيبهم على يد الاستعمار البريطاني.

 من جهة أخرى، قامت المنظمة الدولية للدول الكاريبية بإنشاء لجنة للتعويض عن الجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الإبادة الجماعية التي ارتكبها الاستعمار بحق الشعوب والسكان الأصليين. ويشمل التعويض الاعتذار، وإعادة التأهيل، والإعفاء من قروض دولية، وتمويل برامج تنموية في مجالات شتى.

 ومن أبرز التطورات القانونية في هذا السياق، الاجتهاد القضائي الصادر عام 2018 عن محكمة هولندية الذي رسّخ مبدأ مهماً، وهو أن حرية الدولة في سن تشريعات، بما فيها حريتها في منع معالجة آثار الماضي الاستعماري، قد يخضع لقيود مستمدة من المبادئ القانونية الدولية المعاصرة، ومقتضيات العدل والإنصاف، واعتبارات حسن النية. 

يبدو لنا أنَّ من غير الملائم أن نحلل في هذا المقال الآليات والوسائل المتاحة لتفعيل فكرة التعويض عن السياسات الاستعمارية وآثارها الممتدة إلى وقتنا هذا، لأنها مسألة فنية وذات أبعاد قانونية صرفة لا داعي إلى إزعاج القارئ غير المتخصّص في تفاصيلها. 

ولكن من الضروري القول إن هناك آليات وطرائق عديدة ومتنوعة تتيحها منظومة الأمم المتحدة من خلال أجهزتها الرئيسة، وفي مقدّمها الجمعية العامة ومجلس الأمن ومحكمة العدل الدولية، فضلاً عن آليات أخرى من الممكن اللجوء إليها على المستويين الدولي والداخلي.

وبصرف النظر عن الأبعاد والحيثيات القانونية الدقيقة المتصلة بموضوع التعويض عن السياسات الاستعمارية وما نجم عنها من ظلم وعدم مساواة تاريخيين، فإن من الضروري، على أقل تقدير، العمل من خلال الأحرار في العالم على إنشاء تحالف أممي يضم الدول والشعوب التي خضعت للاستعمار، وما طفقت تعاني آثاره وتبعاته، على الرغم من استقلالها الشكلي من ربقته، وذلك لمطالبة القوى الاستعمارية بالتعويض عن ماضيها الاستعماري، وما اقترفته من فظائع بحق الشعوب في العالم، وفي مقدمها شعوبنا العربية، ولا سيما الشعب الفلسطيني الذي طرد من بلده بعدما سرق منه، وهجّر وطرد ونكّل به، وعلى دعمها نخباً سياسية واقتصادية وقوى اجتماعية ومدنية غربوية الهوى في دول كثيرة من دول ما بعد الاستعمار، بغية إدامة آثار سياساتها الاستعمارية إزاءها واستتباعها.

 والحقّ أن العالم عموماً، وعالمنا العربي خصوصاً، بأمس الحاجة إلى هذا التحالف، ذلك أن الآثار الاستعمارية ما زالت ماثلة في كثير من الدول والمجتمعات، فالمجتمعات العربية تعاني الاختلالات التاريخية الناشئة عن الحقبة الاستعمارية وتبعية غالبية النخب السياسية والاقتصادية والثقافية للدول الاستعمارية، وتحالفها معها لإدامة سائر مظاهر الظلم، وعدم المساواة بينها وبين الدول المستعمرة، فضلاً عن أن لقيام مثل هذا التحالف فائدة كبيرة، لأنه يساهم بالتأكيد في وضع حد للسياسات النيوكولونيالية والنيوليبرالية المعاصرة، فهو وإن كان يستهدف تنسيق الجهود من أجل المطالبة بتعويضات عن أضرار الماضي وفظائعه، فإن عينه كذلك ستكون على الحاضر. 

ختاماً، لا بد من التشديد على أهمية استبعاد أي جهة تعاملت أو تتعامل مع الدول الاستعمارية أو التي تدعم الاستعمارية الجديدة والنيوليبرالية، وفي مقدمها الهيئات والمنظمات التي تتلقّى تمويلاً من دول استعمارية تحت أي ذريعة، حتى لو كانت إنسانية أو تتخذ من الإنسان لبوساً لها، أو تتردّد على سفاراتها استجداءً لتمويل أو بحثاً عن صفقة ذات طابع نفعي، وذلك أمر بديهي، لأن مثل هذا التحالف مناهض لجميع القوى التابعة لمنظومة الاستعمار أو التي تتبنى توجهاتها وسياساستها، سواء عن غفلة أم عن سابق قصد وتدبير، فهما سِيّان من حيث المآلات والنتائج.

 إن طهرية هذا التحالف ورفعة مهمته الإنسانية تستدعيان ألا يضم مرتزقة وباحثين عن الثراء من خلال خدمة تطلعات القوى الاستعمارية وأيديولوجيتها الليبرالية، وأن يقتصر على أحرار العالم والمناضلين الذين أفنوا حياتهم دفاعاً عن الشعوب وتحرّرها، وعن قيم ومبادئ القانون الدولي الكبرى، وفي مقدمها الحقّ في تقرير المصير، وعدم الإسهام في إدامة هيمنة أي دولة ذات تطلعات أو طموحات استعمارية أو تدميرية للإنسان وحضارته.