المنتصر والمنهزم بين الواقع والخيال: بين خطاب نتنياهو وذكرى استشهاد السيد نصر الله
المنتصر الحقيقي ليس من يملك السلاح الأقوى أو الدعم السياسي الأكبر، بل من يملك القضية العادلة، والالتفاف الشعبي، والإيمان الراسخ بحتمية انتصار الحق.
-
ذكرى استشهاد السيد حسن نصر الله: تجذر المقاومة وانتماء شعبي.
في عالم تتسارع فيه الأحداث وتتداخل الروايات، تبرز لحظات تاريخية فارقة تكشف عن حقيقة الصراع بين المقاومة والعدوان، وتلقي الضوء على طبيعة القوى الفاعلة في المشهد الدولي. في أواخر أيلول/ سبتمبر 2025، شهدت الأمم المتحدة حدثيْن متناقضيْن في دلالتهما، ولكنهما متكاملان في إبراز هذا الصراع. تمثل الأول في خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي قوبل بمغادرة جماعية للوفود الدبلوماسية، ما عكس رفضًا عالميًا متزايدًا وعزلة متفاقمة لسياسات حكومته.
أما الحدث الثاني، فكان الاحتفال المهيب بذكرى استشهاد السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، الذي اغتالته يد الغدر الإسرائيلية عام 2024. هذا الاحتفال، الذي شهد حضورًا شعبيًا ورسميًا حاشدًا، لم يكن مجرد إحياء لذكرى قائد، بل كان استفتاءً شعبيًا وتأكيدًا على تجذر المقاومة وعمق الانتماء لهذا النهج في قلوب الملايين.
خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة 2025: رفض عالمي وعزلة متفاقمة
في مشهد يعكس تحوّلًا جذريًا في الرأي العام العالمي تجاه السياسات الإسرائيلية، وقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو في أواخر أيلول/ سبتمبر 2025 ليلقي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. لم يكن هذا الخطاب حدثًا عاديًا، بل تحوّل إلى رمز للعزلة الدبلوماسية المتفاقمة التي تواجهها "إسرائيل". فمع صعود نتنياهو إلى المنبر، بدأت وفود العديد من الدول بالمغادرة في احتجاج صامت لكنه مدوٍ، عاكسًا حجم الغضب الدولي المتراكم ضد الجرائم والمجازر التي ترتكبها حكومته في الأراضي الفلسطينية ولبنان.
تفاعلت وسائل الإعلام الإسرائيلية نفسها مع هذا المشهد بتغطية واسعة ومتباينة، لكنها اتفقت في مجملها على دلالته السلبية. وصفت القناة 13 الخروج الجماعي بأنه "غير مسبوق" مقارنة بالسنوات الماضية، معتبرة إياه ترجمة واضحة لحجم الاحتجاج الدولي. كما أشارت القناة 24 News إلى أن مغادرة الوفود بمجرد دخول نتنياهو كانت "دلالة رمزية قوية" على هذا الرفض. أما القناة 12، فقد أكدت أن هذا الانسحاب الجماعي لحظة بدء الكلمة شكل "رسالة سياسية واضحة"، مشيرة إلى أن نتنياهو لم يتعرض لمثل هذا الموقف من قبل، وهو ما عدّه محللون "دليلًا إضافيًا على أن العالم يدير ظهره لإسرائيل ويزيد من عزلتها".
لم يقتصر الأمر على مجرد مغادرة القاعة، بل امتد إلى تحليل مضمون الخطاب نفسه. فقد وصف أحد مقدمي البرامج السياسية في القناة 12، خطاب نتنياهو بأنه "خطاب حرب" يكرّس استمرار العدوان على غزة، معتبرًا أنه "افتقر إلى الحلول السياسية والأمل". كما لاحظ ارتكاب نتنياهو في خطابه أخطاء لافتة في الأسماء، وهو أمر غير معتاد منه. هذه الملاحظات الداخلية من الإعلام الإسرائيلي تعكس حالة من عدم الرضا حتى داخل الأوساط المحلية تجاه الأداء السياسي والدبلوماسي للحكومة.
تأتي هذه العزلة الدبلوماسية كنتيجة مباشرة للسياسات الإسرائيلية العدوانية، وبخاصة المجازر المستمرة في غزة والاعتداءات المتكررة على لبنان. فالصور ومقاطع الفيديو التي توثق هذه الجرائم، والتي تنتشر بسرعة عبر وسائل الإعلام العالمية والمنصات الرقمية، أثرت بشكل كبير على صورة "إسرائيل" في العالم. لم يعد الخطاب الإسرائيلي التقليدي، الذي يركز على "الدفاع عن النفس"، قادرًا على إقناع الرأي العام الدولي الذي أصبح أكثر وعيًا بالواقع على الأرض. هذا التغير في الوعي العالمي هو ما يفسر ردود الفعل القوية في الأمم المتحدة، إذ تحوّلت المنظمة الدولية، التي كانت في السابق مسرحًا للدعم الأميركي لـ"إسرائيل"، إلى منصة لإدانة أفعالها ورفض سياساتها. إن مشهد مغادرة الوفود ليس مجرد حادث عابر، بل هو مؤشر على تحوّل عميق في موازين القوى الأخلاقية والدبلوماسية، إذ يجد العدوان والظلم نفسهما في مواجهة جبهة عالمية متنامية من الرفض والاستنكار.
ذكرى استشهاد السيد حسن نصر الله: تجذر المقاومة وانتماء شعبي
في المقابل، وفي الفترة الزمنية ذاتها وتحديدًا في 27 أيلول/سبتمبر 2025، أحيا لبنان والمنطقة الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد السيد حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، الذي ارتقى شهيدًا في 27 أيلول/ سبتمبر 2024 على يد العدوان الإسرائيلي. هذا الحدث، الذي كان من الممكن أن يمثل نقطة ضعف للمقاومة، تحوّل إلى مناسبة لتأكيد قوتها وتجذّرها الشعبي، وإظهار مدى الانتماء الأسمى إلى هذا القائد في وجدان الملايين.
شهدت هذه الذكرى احتفالات شعبية ورسمية حاشدة في مختلف المناطق اللبنانية، من الضاحية الجنوبية لبيروت إلى الجنوب والبقاع. لم تكن هذه الاحتفالات مجرد طقوس تأبينية، بل كانت استفتاءً شعبيًا على الوفاء لنهج المقاومة الذي كرّسه السيد نصر الله طوال حياته. انطلقت فعاليات مركزية أمام مرقد سيد الأمة، ومراسم في مرقد الشهيد السيد هاشم صفي الدين في دير قانون النهر، وفي مرقد السيد عباس الموسوي في بلدة النبي شيت البقاعية. وفي مشهد رمزي مؤثر، رُفعت راية خاصة في الساحة الخارجية لمقام سيد شهداء المقاومة الإسلامية، السيد عباس الموسوي، تُجسد صور القادة الشهداء: السيد عباس الموسوي، والسيد حسن نصر الله، والسيد هاشم صفي الدين، لتكون رمزًا جامعًا لمسيرة الجهاد والتضحية.
إن هذا الحضور الشعبي والرسمي الكثيف، وما رافقه من دعوات إلى الوحدة الوطنية والتشديد على التمسك بخط المقاومة، يعكس بوضوح أن استشهاد القادة لا يعني نهاية المسيرة، بل يمثل دافعًا إضافيًا لاستمرارها وتجذرها. وقد أكد النائب إبراهيم الموسوي، عضو كتلة "الوفاء للمقاومة" في البرلمان اللبناني، أن الجماهير التي توافدت لتجسد معاني الوفاء للقادة الشهداء، وأن لبنان والمنطقة "يعيشان لحظة تحوّل مصيري وتاريخي على مستوى الشعوب".
تُظهر هذه الاحتفالات مدى الحب والتقدير الذي يحظى به السيد حسن نصر الله في قلوب أنصاره ومؤيديه، ليس فقط في لبنان بل في المنطقة بأسرها. وقد وصفته حركة حماس بأنه "سيد المقاومة" و"سيد الحرب النفسية"، مشيدة بمواقفه البطولية في نصرة المقاومة الفلسطينية ودعمها وإسنادها. إن هذا الانتماء الشعبي العميق، الذي يتجاوز الحدود الجغرافية والطائفية، يؤكد أن المقاومة ليست مجرد تنظيم عسكري، بل هي فكرة ومبدأ متجذّر في الوعي الجمعي للشعوب التي تتوق إلى التحرر والعدالة. ففي حين يواجه العدوان الإسرائيلي عزلة متزايدة ورفضًا عالميًا، تتجلى المقاومة كقوة حية ومتجددة، تستمد شرعيتها من تضحيات قادتها ومن التفاف الجماهير حول قضيتها العادلة.
سقوط السردية الإسرائيلية وصعود صوت الحق
إن التناقض الصارخ بين مشهد العزلة الدبلوماسية لنتنياهو والاحتفاء الشعبي بذكرى السيد حسن نصر الله لا يمكن فهمه إلا من خلال التحوّلات العميقة في المشهد الإعلامي العالمي، وتحديدًا سقوط السردية الإسرائيلية التي هيمنت طويلًا على الرأي العام الغربي. فمع تصاعد وتيرة الجرائم الإسرائيلية في غزة والاعتداءات المتكررة على لبنان، بدأت مصداقية الإعلام الإسرائيلي تتآكل بشكل مطرد، ليحل محلها صوت الحق الذي يصدح به الإعلام البديل ووسائل التواصل الاجتماعي.
لقد أقر الإعلام العبري نفسه بهذا السقوط، حيث تحدثت صحيفة "يديعوت أحرونوت" عبر موقعها "واي نت" عن "سقوط سياسي مدوٍ لإسرائيل في الأمم المتحدة"، معترفة بفشل الحكومة في مواجهة المجتمع الدولي. كما أشارت تقارير إعلامية إسرائيلية أخرى إلى أن "غضب العالم منا يتزايد وقد ينتهي قريبًا"، وأن الصور التي تُعرض عالميًا عن جرائم الاحتلال "لا يمكن إنكارها". هذه الاعترافات الداخلية تعكس حجم الأزمة التي تواجهها "إسرائيل" على صعيد صورتها الدولية.
تُظهر استطلاعات الرأي الدولية الجديدة أن الكيان الصهيوني المجرم يواجه أزمة شرعية عميقة على المستوى العالمي، إذ تحوّل الرأي العام العالمي بشكل متزايد ضد قتل الأبرياء. هذا التحوّل ليس وليد مصادفة، بل هو نتيجة مباشرة للممارسات الإسرائيلية التي تتناقض مع أبسط مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي. لقد فشلت السردية الإسرائيلية في غزة فشلًا ذريعًا، إذ لم ينجح الخطاب الإعلامي والسياسي الإسرائيلي، وامتداداته الغربية، في تبرير جرائمه وحرب الإبادة التي تحوّلت إلى جرائم حرب موثقة.
في محاولة يائسة لإخفاء الحقيقة وتكميم الأفواه، لجأ الاحتلال الإسرائيلي إلى استهداف ممنهج للصحفيين والإعلاميين في غزة. فوفقًا للتقارير، قتل الاحتلال 303 من العاملين في الإعلام منذ بداية الحرب (حتى 26 أيلول/سبتمبر 2025)، وأصاب 433 صحفيًا آخر. كما كشفت منظمة "مراسلون بلا حدود" عن استشهاد أكثر من 110 صحفيين على يد "الجيش" الإسرائيلي في قطاع غزة منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023. ولم يقتصر الأمر على القتل والإصابة، بل امتد إلى تدمير 44 منزلًا للصحفيين، وتفجير مطابع، وإتلاف معدات بث وكاميرات، وحجب عشرات الحسابات والمنصات الرقمية. هذه الأرقام الصادمة تكشف عن حرب إسرائيلية على الحقيقة، تهدف إلى منع العالم من رؤية الواقع المرير في غزة.
ومع ذلك، فإن هذه المحاولات باءت بالفشل. فبفضل جهود الصحفيين الشجعان في غزة، ودور الإعلام البديل والمنصات الرقمية، كان التأثير الأكبر. لقد أصبحت بعض القنوات، بفضل تغطيتها الحقيقية والموثوقة، تكتسب مصداقية عالمية متزايدة، وتسهم في تغيير الرأي العام. إن سقوط السردية الإسرائيلية وصعود صوت الحق يمثلان انتصارًا للإنسانية والعدالة، ويؤكدان أن الحقيقة لا يمكن أن تُدفن طويلًا تحت أكوام الأكاذيب والدعاية المضللة.
انتصار الحق حتمية تاريخية: الإطار النظري
إن الأحداث المتسارعة في المنطقة، والتي تبرز التناقض بين مسار العدوان ومسار المقاومة، لا يمكن فهمها بشكل كامل إلا من خلال إطار نظري يستند إلى الفلسفة والتاريخ، ويؤكد حتمية انتصار الحق والعدالة في نهاية المطاف. إن فكرة الصراع الأزلي بين الحق والباطل ليست مجرد مقولة دينية أو أخلاقية، بل هي حقيقة فلسفية وتاريخية تتجلى في مسيرة الحضارات والشعوب.
وما نشهده من عزلة متزايدة للكيان الصهيوني الغاصب، وتراجع مصداقية إعلامه، وصعود صوت المقاومة وتجذرها الشعبي، يمثل تجسيدًا عمليًا لهذه النظريات. فجرائم "إسرائيل" ومجازرها، التي تتناقض بشكل صارخ مع مبادئ العدالة والحق، تؤدي حتمًا إلى تآكل شرعيتها في عيون العالم. وفي المقابل، فإن المقاومة، التي تستمد قوتها من الدفاع عن الحقوق المشروعة والعادلة، تحظى بدعم شعبي متزايد، وتثبت قدرتها على الصمود والانتصار.
في الختام، يبرز التحليل المقارن بين خطاب نتنياهو في الأمم المتحدة عام 2025 وما صاحبه من مغادرة للوفود، وبين الاحتفال المهيب بذكرى استشهاد السيد حسن نصر الله، صورة واضحة للتناقض الجوهري بين مسارين متضادين في المشهد العالمي. فمن جهة، نرى مسار العدوان والظلم الذي تمثله السياسات الإسرائيلية الإجرامية، والذي يقود حتمًا إلى العزلة الدبلوماسية، وتآكل المصداقية الإعلامية، والرفض العالمي المتزايد. إن مشهد القاعة الفارغة أمام نتنياهو ليس مجرد حدث عابر، بل هو رمز لسقوط السردية الإسرائيلية وفشل محاولاتها لتبرير جرائمها أمام ضمير العالم.
ومن جهة أخرى، يتجلى مسار المقاومة الذي يمثله السيد حسن نصر الله، والذي يستمد قوته من الحق والعدالة والانتماء الشعبي الصادق. إن الاحتفالات الواسعة بذكرى استشهاده، والحضور الجماهيري والرسمي الحاشد، يؤكدان أن المقاومة ليست مجرد فعل عسكري، بل هي قيمة متجذرة في وجدان الشعوب التي تتوق إلى التحرر والكرامة. هذا الانتماء الشعبي هو الذي يضمن استمرارية المقاومة وتجذرها، ويجعلها قوة لا يمكن كسرها، حتى في وجه أعتى التحديات.
لقد أثبتت الأحداث الأخيرة أن الظلم والعدوان، مهما بلغا من قوة وبطش، لا يمكن أن يصمدا أمام صوت الحق والعدالة. فسقوط الإعلام الإسرائيلي، وتراجع تأثير دعايته، وصعود صوت الإعلام البديل الذي يكشف الحقائق، كلها مؤشرات على تحوّل عميق في الرأي العام العالمي. هذا التحوّل يؤكد أن الحقيقة لا يمكن أن تُحجب طويلًا، وأن محاولات طمسها أو تزييفها محكوم عليها بالفشل.
إن النظريات الفلسفية التي تؤكد حتمية انتصار الحق على الباطل تجد تجسيدًا واقعيًا في هذه الأحداث. فالتاريخ يشهد أن الظلم مهما طال أمده فإن نهايته محتومة، وأن العدالة هي الأساس الذي تقوم عليه الحضارات الحقيقية.
إن المنتصر الحقيقي ليس من يملك السلاح الأقوى أو الدعم السياسي الأكبر، بل من يملك القضية العادلة، والالتفاف الشعبي، والإيمان الراسخ بحتمية انتصار الحق. هذه الأحداث ليست مجرد وقائع تاريخية، بل هي دروس بليغة تؤكد أن العدوان يسقط في عيون العالم، وأن المقاومة تتعزز في العالم، وأن شمس الحق لا بد أن تشرق في نهاية المطاف، مبدّدة ظلام الظلم والعدوان.