هل وجدت"إسرائيل" لتبقى؟

من الطبيعي أن تحصل أي دولة على الاعتراف من الأمم المتحدة لا من دولة أخرى، فلماذا الفلسطيني الذي بلا دولة يُطلب منه بخبث أن يعترف بشرعية من يحتله كـ "دولة" يوهموننا أنها وجدت لتبقى؟

  • "إسرائيل" والحرب على غزة.

الوجود والبقاء؛ هذه منظومة استراتيجية نتيجتها كيان "إسرائيل"، وأما تكتيكها فتمحور في محطات ليس أوّلها وعد بلفور عام 1917، ولا ما سبق ذلك من محاولات الضغط على السلطان عبد الحميد الثاني بمنح الإسرائيليين فلسطين عام 1901، ولا بتشكيلات "الهاچانا" و"البالماخ" و"ليحي" و"إيتسل"، بل كلّها مجتمعة وضعت استراتيجية البقاء.

ثمّ دخلت معادلة إعلان "الدولة" والحروب عام 1948 وعام 1967، وبينهما سنوات المواجهة والتحضير، ليتمّ تحقيق البقاء ضمن معطيات الميدان وتماشي الحالة الدولية، فباتت واقعاً رأى فيه العرب أنه سرطان، وراح بعضهم يطلب من السمك أن يتجوّع تمهيداً لرميه في البحر، وآخر تمختر بين كلمات اللغة العربية ليختار خطابات ومبادرات تتمحور حول البقاء والوجود.

مرّت سنوات وباتت حقيقة الوجود تتعزّز كثيراً في عقلية أنظمة العرب، وهذا ترويض إضافي، ليفتح باب التطبيع من هناك في القاهرة عبر اتفاقية "كامب ديفيد" عام 1978، مروراً بوادي عربة عام 1994 وبينهما كارثة الحالة الصامتة مع سوريا، ومتوّجة كلّها باتفاقية أوسلو عام 1993، وفي كلّ اتفاقية بند رئيسي بات "ديكوراً" وهو حلّ الدولتين، وأيّ دولتين اللتين يرمز إليهما كلّ طرف؟!

دخلت العلاقة مرحلة جديدة بعد اتفاقيات "السلام" من عداء رسمي إلى مواجهة التطبيع على حساب حقوق الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين، فانطلقت الاتفاقيات على الورق وكانت بطيئة في الواقع، فلا تحقّقَ وطن للفلسطينيين ولم تنعم "إسرائيل" بالأمن، حيث أن محطات الاستنزاف على الحدود الشمالية استمرت للعام 2000 حتى انسحبت "إسرائيل" وبقي الاستنفار، وتواصل مع المواجهة التي استمرت في انتفاضة الأقصى وما قبلها من أحداث النفق ومصادرة الأراضي في جبل أبو غنيم ومجزرة الحرم الإبراهيمي والعديد من الاعتداءات، ما أكد أنّ "إسرائيل" لا تريد البقاء وحسب وإنما مسح الواقع كله على حساب أصحاب الحق.

من اللحظة الأولى لتوقيع اتفاقية أوسلو وما تضمّنته من نقاط ضعف كثيرة ضد الفلسطينيين ومتاهة الوضع النهائي، وما سبق ذلك من محاولة "سحق حماس" التي باشرتها "إسرائيل" بإبعاد جلّ كوادرها وقياداتها من غزة والضفة إلى مرج الزهور جنوب لبنان، ومعهم نشطاء وقيادات في حركة الجهاد الإسلامي عام 1992، حيث كانت تمهيداً أمنياً لترتيبات أوسلو التي تمّ تسويقها على أنها ولادة الدولة الفلسطينية، فما كانت من هذه الاتفاقية إلا ترتيبات أمنية وتجاهل للحقّ الفلسطيني، والأخطر في ذلك تحويل فصيل كامل مركزي في القضية الفلسطينية إلى شرطي ومنظّم لحياة تحت حكم ذاتي، نازعين منه بند الكفاح المسلّح عام 1998 بحضور الرئيس الأميركي "بل كلينتون"، والبند المزلزل وهو الاعتراف الرسمي بـ "دولة إسرائيل"، وهناك تعزّزت لديها نظرية البقاء والوجود.

أدرك ياسر عرفات رئيس السلطة أن سلطة منبثقة عن أوسلو ستكون مقبرة لتاريخ حركة فتح وتفريغاً لمنظّمة التحرير من مضمونها، فلم يستمرّ طويلاً في مسلسل المفاوضات التي كانت كلمة سر دمج "إسرائيل" في الواقع العربي، حيث قال "يتسحاق رابين" في خطابه في الكنيست عام 1995 "سنعطي الفلسطينيين أقلّ من دولة يديرون بها شؤون حياتهم من دون حدود أو سيادة".

حاول عرفات استغلال وجوده على أرض فلسطين لبناء رأي عام دولي، وكذلك بنية تحتية وطنية لتعزيز الحقّ الفلسطيني، فكانت حساباته تصطدم بإجراءات الاحتلال وترتيباته غير المتوقّعة مع المحيط العربي التي تجسّدت في قمة بيروت عام 2002 التي لم تتصل به بأمر أميركي، وبقي محاصراً في المقاطعة برام الله.

في تلك الفترة كانت أميركا و"إسرائيل" تحضّران لليوم التالي لعرفات، تمثّل في استحداث منصب رئيس الوزراء والالتفاف المباشر على المركزية "العرفاتية" في إدارة الانتفاضة والمشهد السياسي، أما جوهر الجهود الأميركية آنذاك فكان أنّ "إسرائيل" وجدت لتبقى.

تمخضت عن قمة بيروت مبادرة السلام العربية الرامية للتطبيع مقابل حلّ الدولتين، وهنا فارقة جديدة بتوسّع الاعتراف بـ "إسرائيل" مجاناً. تدحرجت الأحداث وباتت مصر والأردن ومنظّمة التحرير الفلسطينية -والتحقت بها عديد الدول منها خليجية ـــــ معترفة بـ "إسرائيل"، وهذه مفارقة في مشروع أميركا المستمرّ في بقاء "إسرائيل" والذي عزّزته بمنع الانتخابات في الدول العربية وحتى في فلسطين، إضافة إلى مخطّط الفوضى الخلّاقة وانتشار الطائفية والفتنة والانقلابات، وفي هذه الأثناء "إسرائيل" تبقى وتتوسّع وتتمدّد.

بات مشروع "إسرائيل" مبنياً على قبول المنطقة لها بل والاعتراف بها، فكلما زاد الاعتراف والتطبيع تلاشى الحقّ الفلسطيني وتقلّصت مساحة الضفة وحيّز الدولة المنشودة، حيث كان المستفيد دائماً "إسرائيل" انفتاحاً واعترافاً وتحالفاً وتطبيعاً، والخاسر في كلّ جولة هو الحقّ الفلسطيني المهمّش.

جاء حديث محمود عباس معزّزاً لنظرية "إسرائيل"، فحديثه يعتبر هدية مجانية، وفي مراحل يعتبر استجداء من فراغ، ففي ظلّ خطة "دايتون" وشعار السلاح الشرعي الوحيد الذي من خلاله تمّت محاربة المقاومة ونزع سلاحها وشيطنته في الساحة الفلسطينية؛ صرّح قائلاً عام 2012 "إسرائيل وجدت لتبقى" و"سأكون زائراً لصفد". فما كانت نتيجة ذلك إلا مزيداً من الاستيطان والإجرام بحقّ الفلسطينيين في الضفة الغربية وحصار وخنق قطاع غزة وتهويد القدس.

واليوم يتمّ الحديث عن حل الدولتين ويراد خلط الحابل بالنابل بين هذا الوهم المباع أميركياً والذي فيه اعتراف بـ "دولة إسرائيل"، وما بين الدولة الفلسطينية على حدود 1967 التي أقرّها القانون الدولي، والتي تطلبها كلّ الفصائل الفلسطينية ولا تتضمّن الاعتراف بـ "إسرائيل".

هنا كلمة سر جديدة يحاول الأميركي ـــــ وبعض الأطراف التي تعمل لحسابه في الساحة ـــــ تفعيل حل الدولتين مؤقتاً لجعل حماس في زاوية محرجة، ووضع عقبات من جديد أمام انفتاحها على العالم، بينما يتنامى رأي دولي حول الدولة الفلسطينية المستقلة والتي لا يلغي استحقاقها عدم الاعتراف بـ "إسرائيل".

القانون الدولي لا يلزم الدول الاعتراف ببعضها، بل هو منظّم للعلاقة والحياة فيما بينها، لبنان وسوريا إلى جوار "إسرائيل" ولا يوجد اعتراف بـ "إسرائيل"، وكلّها تعتبر دولاً في القانون الدولي، كذلك الهند وباكستان وكوريا الشمالية وغيرها من الدول التي بينها نزاعات.

وهنا مرة أخرى تلعب أطراف على معادلة بقاء "إسرائيل" لتفريغ مضمون الثورة الفلسطينية وطوفان الأقصى والدخول في دوامة الشرعية الدولية المحرّفة، وفي هذا الإطار تواجه المقاومة والشعب الفلسطيني هذه المحاولة في ظلّ فاتورة دم ودمار كبيرة، يسعى البعض العربي لتقزيمها بمقاسات أمنية وحياتية بمبادرة المقاسات الأميركية؛ مسترجعة تاريخ المبادرة العربية التي نفّذ فيها العرب كلّ شيء إلّا استرجاع الحّق الفلسطيني، بل كان تحرّكهم إشارة فهمتها "إسرائيل" أن التطبيع والاعتراف بها يعني ضمناً سحق الفلسطينيين ومقاومتهم وحقهم وأرضهم، وتجاوز الطوفان بقوارب التطبيع المتجاهلة لحقّ الفلسطينيين وللقانون الدولي، والالتفاف على وثيقة حماس عام 2017 الرامية إلى قبول دولة فلسطينية على حدود عام 1967، وحقّ اللاجئين بالعودة إلى أراضيهم. 

فمهمة حماس شاقة جداً ميداناً ووعياً وقانوناً وفكراً وتحدّياً ينجح ويتراكم، ويضع القضية أمام العالم فاضحةً الإبادة والتجاهل وفارضة الحقّ في وجه منظومة ممتدة عميقة تعزّز يوماً بعد يوم بقاء "إسرائيل".

الخلاصة؛ أنه من الطبيعي أن تحصل أي دولة على الاعتراف من الأمم المتحدة لا من دولة أخرى، فلماذا الفلسطيني الذي بلا دولة يُطلب منه بخبث أن يعترف بشرعية من يحتله كـ "دولة" يوهموننا أنها وجدت لتبقى؟