يوم نكبة "إسرائيل"

ستنتهي الحرب وسيلجأ الاحتلال إلى إقناع أي أحد في الغرب أو أميركا بأن يهاجر إلى الكيان والإقامة في المستوطنات.

  • الحرب على غزة.
    الحرب على غزة.

لا يمكن الإجابة عن هذا السؤال إلا في سياق واحد، أقله الآن؛ سياق يجبرنا على العودة إلى الوراء لكي نفهم طبيعة ما جرى. البداية بدأت مع ما يُسمى "الكيبوتس". من منكم يتذكر شخصية يعقوب فاوشي التي ظهرت في أحداث الشيخ جراح وأصبحت حديث العالم؟ يعقوب الذي كان يسرق منزلَ فلسطيني في القدس، وقال لصاحبة المنزل: "إذا لم أسرقه أنا سيأتي غيري ويسرقه". لا بد من أن نتذكر شخصيته جيداً، لأنها ليست شخصية عابرة، بل تمثل صورة مصغرة عن كيان "إسرائيل" الاستيطاني التوسعي. لذلك، يجب الوقوف عند ذلك لفهم ما حصل في 7 تشرين الأول/ أكتوبر. 

أكثر منطقة أماناً وحماية 

لست بصدد الحديث في تحليل ومعرفة شخصية يعقوب، بل الهدف بناء سرد لأعظم عملية في التاريخ القديم والحديث. يعقوب مواطن أميركي من سكان مدينة نيويورك، وليس إسرائيلياً، قبل أن يذهب لسرقة منزل في فلسطين المحتلة، ولكن المفاجأة هي حصول يعقوب بسحر ساحر على الجنسية الإسرائيلية. في المقابل، قدمت له حكومة الكيان 3 وعود: الأول هو العمل، والثاني هو تأمين منزل له. أما الوعد الثالث، فهو الباسبور.

 هذا ملخص فكرة "الكيان الإسرائيلي"؛ شرط واحد فقط مطلوب منك، عليك أن تثبت يهوديتك. وبعد ذلك، سيصل المهاجر اليهودي خلال وقت قصير، وسيحصل على الوعود الثلاثة (عمل، منزل، باسبور). 

من هنا سيظهر مصطلح جديد التداول "كيبوتس" أو بمعنى آخر المستوطنة. كلمة "كيبوتس" بالعبري تعني تجمّعاً. كيف سيصل إذاً المهاجر؟، مثلاً، لنقل إن يعقوب الذي كان يقطن في أميركا هو مواطن فاشل أو شيء من هذا القبيل، وفي ذمته ديون متراكمة، ومطرود من عمله، وميزته الوحيدة أنه يهوديّ رائع! شروط جداً مدروسة. إذاً، هيا فلنحضره إلى "إسرائيل". 

سنعطيه جنسية ونؤمن له عملاً، وسيعيش في "كيبوتس" أو مستوطنة. هذا الموضوع سيأخذنا إلى الحديث عن فكرة المستوطنة التي يعوّل عليها الكيان. "الكيبوتس" هو أهم إنجازات الكيان المحتل، على عكس ما يروّج أن إنجازاته هي الجيش الذي لا يُقهر. أعتقد أننا تخطينا هذه الفكرة بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر المجيد. 

بدأت الفكرة بإحضار مجموعة مهاجرين من بلدان عدة على شاكلة يعقوب، ومن ثم وضعهم في مكان واحد. ستعمل حكومة الكيان على إعطائهم مشروعاً معيناً، وذلك بهدف جمع الأموال، ومن ثم صرفها على توسيع هذه المستوطنات بشكل تدريجي. 

هل هذا كان كافياً؟ لا، بل كان على الحكومة أن تضيف عدة شروط لتجعل المجتمع الصهيوني مجتمعاً متكاملاً، بحسب وجهة نظرهم. أولاً: تسليح المستوطنين بسلاح خفيف يتم تدريبهم عليه لحماية أنفسهم، ثانياً: وهمهم بتهديد خارجي لحياتهم، لإعطائهم حافزاً على النجاح ومقاومة الاعتداءات الفلسطينية وغيرها بحسب زعمهم، وثالثاً: امتلاك الأراضي وزراعتها كنوع من إثبات أحقيتهم كمواطنين أحرار، ففي الكثير من أنحاء أوروبا لم يُسمح لليهود بامتلاك الأراضي أو زراعتها. من هنا يأتي هوَسُهم ببدء حياة جديدة كشعب من المزارعين.

عملت حكومة الاحتلال بخطة مدروسة وعبر السنين على إحاطة كل المدن الفلسطينية بـ"الكيبوتس". وبطبيعة الحال، سيتوسع المستوطنون عبر أخذ أجزاء من المدن المجاورة. هذا يعني أن المستوطنة تكبر وتحتاج إلى مساحات جديدة.

 وبالعودة إلى المستوطن الذي أصبح مسلحاً برخصة مفتوحة تتيح له الدفاع عن نفسه في كل الظروف. ما هذه الظروف؟ من يقطن إلى جانب المستوطن؟ صاحب الأرض؛ المواطن الفلسطيني. يعتبره المستوطن بحد ذاته تهديداً حتى ولو لم يشكل تهديداً جسدياً عليه، فبحسب المستوطن، المواطن الفلسطيني تهديد، ووجوده تهديد، لأنه يقطن في مساحات يريد المستوطن التّوسع فيها. ما الحل إذا؟ الاصطدام بين المستوطن وصاحب الأرض. كيف يتم ذلك؟ عبر جمع مجموعة من المستوطنين المسلحين ودعمهم بفرقة من قوات الاحتلال ليأخذوا بيت المواطن الفلسطيني تحت تهديد قوة السلاح.

 ما علاقة 7 تشرين الأول/أكتوبر بكل ذلك؟

 مع الوقت، "الكيبوتس" بدأ يكبر يوماً بعد يوم. وبطبيعة الحال، هؤلاء المستوطنون لديهم عائلات، وسينجبون أطفالاً، لينشأ لدينا جيل ثانٍ وثالث، مع عملية استقدام مهاجرين جدد من كل أنحاء العالم. 

أجيال جديدة تخرج من "الكيبوتس"، تطلب من الحكومة حمايتها. لذلك، أنشأت الحكومة عدة فرق من فرق الجيش مخصصة لحماية المستوطنات. وهنا نصل إلى أشهر وأقوى فرقة: "فرقة غزة". فرقة من "نخبة" القوات الإسرائيلية. سُخّر في خدمة هذه الفرقة معدات تكنولوجية هدفها محاصرة غزة من كل الجهات، إلى درجة أنها قادرة حرفياً على أن ترصد ذرات الهواء، ما حوّل المستوطنات المجاورة لقطاع غزة، المسماة بغلاف غزة، إلى أكبر وجهة دعائية للمهاجرين اليهود في أميركا وأوروبا. 

الهدف من ذلك رسم دعاية مفادها: أنتم في أجمل بيئة في العالم، بيئة جاذبة للعمل، اقتصاد مستقر ومستمر لا يتأثر بشيء. إذاً، إنها منطقة آمنة محمية من أقوى فرقة في الجيش الإسرائيلي؛ "فرقة غزة". 

تشرين الأول/أكتوبر كابوسهم المرعب

أتذكرون "فرقة غزة" التي لا تقهر؟ المقاومة الفلسطينية بقيادة كتائب القسام أغارت على هذه الفرقة تحديداً ومسحتها وأبطلت مفعولها بالكامل عبر ألف مقاوم، وفي ظرف 3 ساعات فقط. تحوّلت مستوطنات غزة من مستوطنات مرفهة بجيل ثالث آمن إلى مستوطنات مكشوفة وعارية.

لم يصدق أحد في الكيان ما جرى في7 تشرين الأول/أكتوبر إلى يومنا هذا. انتصار مرعب وسريع إلى درجة أنه هدم أكبر دعاية صهيونية وفي 3 ساعات فقط. حلم "كيبوتس" الذي جرى العمل عليه من 70 عاماً انهار في 3 ساعات، مشاهد المهاجرين الجدد والجيل الثالث هاربين ستبقى راسخة في عقول الصهاينة إلى ما بعد زوالهم. أهم إنجاز قامت به حماس هو ضرب فكرة "إسرائيل" العبقرية التي تهدف إلى جذب يهود العالم في مكان واحد، ونعيد ونذكر كل ذلك تم في 3 ساعات.

إذاً، عندما تعمل 70 سنة على هذه الفكرة، ومن ثم كل جهودك تدمّر عبر ألف مقاتل، وفي 3 ساعات، سيعطينا ذلك نتيجة الجنون والهستيريا غير المسبوقة في قتل الأطفال والنساء.

وهنا نصل إلى سببين، الأول هو الانتقام، وأعتقد أن هذا أصبح واضحاً للعلن. أما السبب الثاني، وهو الأهم، فهو التشويش بشكل مدروس على الانتصار غير المسبوق الذي حصل في يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر في عملية طوفان الأقصى، وانهيار فكرة "الكيبوتس". 

إنها خطوة مدروسة إسرائيلياً هدفها نقل الصور الوحشية للأطفال مقطعي الأشلاء والأوصال. لذا، أنت كمشاهد ستنفرد بتغطية صور هؤلاء الأطفال، وتتناسى صورة جنود فرقة غزة المذلولين. وفي الوقت نفسه، تتناسى صورة المستوطنات التي اختفى فيها المستوطنون في ليلة وضحاها.

هدف الدعاية الصهيونية أن تنقل الاعلام إلى منحى آخر، ولو على حساب أطفال غزة، لنقل صورة مؤلمة، ليست مؤلمة فقط لنا نحن، لا، بل لمواطنين غربيين في عدة دول، والذين تظاهروا تنديداً بهذه المجازر. الاحتلال ليس لديه أي مشكلة في أن يرى الغربُ وحشيتَه بقتل الأطفال. المهم أن لا يرى الهزيمة الحقيقية التي حدثت في 7 تشرين الأول/أكتوبر. 

انهيار فكرة الهجرة إلى "إسرائيل"

هنا نصل إلى حقيقة أن فكرة الهجرة إلى "إسرائيل" (الفكرة الأساسية) لقيام كيانهم انهارت تماماً. ستنتهي الحرب وسيلجأ الاحتلال إلى إقناع أي أحد في الغرب أو أميركا بأن يهاجر إلى الكيان والإقامة في المستوطنات، وسيقول لهم إنه سيحميها عبر "جيش" دفاع نخبة، ولكنهم لن يهاجروا. أسطورتكم انتهت في 3 ساعات مع ألف مقاوم، فما بالكم مع 30 ألف مقاوم؟! وهو إحصاء تقديري لعدد المقاومين في غزة.

 يوم 7 أكتوبر كان البداية، وأبرز دليل هو خطاب أبو عبيدة الشهير الذي قال فيه: "إن المقاومة الفلسطينية لا تحتاج لتدخل عسكري من العرب لا سمح الله"، وكذلك كلمة إسماعيل هنية الذي قال: "إننا حذرناكم من التوسع في بناء المستوطنات. لذلك، الاجتياح البري لغزة كان فكرة إعلامية بحتة أكثر من كونه اجتياحاً فعلياً، فتغيرت المصطلحات إلى توسع بري وعمليات برية".

كل ذلك تغطية على الفكرة الرئيسية التي هي أساس هذا الكيان، وهي أن فكرة "الكيبوتس" والمستوطنات ليست آمنة، رغم كل الذي يحصل في غزة من مجازر يومية. علينا أن ندرك أن الذي جرى في يوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 هو أول انتصار حقيقي في معركة حقيقية غير متكافئة. وحتماً، ستكون المسار نحو تحرير فلسطين من البحر إلى النهر. 

ووسط احتفال الساسة والإعلاميين ببعض التقدّم لجيش الاحتلال في قطاع غزة، خرج الجنرال احتياط غيورا آيلاند برأي آخر، وهو رئيس قسم التخطيط في "جيش" الاحتلال ورئيس مجلس الأمن القومي سابقاً، وهو ذاته صاحب مشروع "توطين" سكان قطاع غزة في سيناء: "نحن لا نرى أيّ علامات على انكسار حماس". 

نحن نشاهد أنهم ينفّذون عمليات معقّدة ومنسقة بواسطة المسيّرات وقذائف الهاون والصواريخ المضادة للدروع. هؤلاء ليسوا أفراداً يحاربون من أجل أنفسهم، بل هم منظومة تعمل. هم يستطيعون تحريك القوات من مكان إلى آخر، ويسيطرون على الأقل على 80% تحت الأرض، ويعرفون كيفية الرد بسرعة على ما نفعله. غزة ما زالت أكبر هدف محصّن في العالم.