أساطيل دعم غزة: هل تُوقفها الاعتداءات الصهيونية أم تُبحر مجدداً بدعمٍ عالميٍ أوسع؟‎

سفن المساعدات، لم تحمل أسلحة، بل حملت الأدوية والمواد الغذائية، رغم ذلك اعترضتها السفن الحربية الإسرائيلية في المياه الدولية، ولم تتحرك أي قوة لنجدة الناشطين وردع "إسرائيل".

  • من
    من "أسطول الصمود" إلى "أسطول الحرية"... إصرارٌ يتجدد.

في فجر الثامن من أكتوبر 2025، وبينما كانت الأنظار مُعلّقة على مسار المفاوضات التي تجري في مدينة شرم الشيخ المصرية، اعترضت البحرية الإسرائيلية سفن أسطول الحرية في عرض البحر المتوسط، واعتقلت عشرات الناشطين الدوليين الذين حاولوا كسر الحصار البحري المفروض على قطاع غزة.

لم يكن هذا المشهد جديداً، لكنه بدا هذه المرة أكثر رمزية، فبعد عامين على عملية "طوفان الأقصى"، وبينما ما زالت غزة تئن تحت أنقاض حرب الإبادة والتجويع، تخرج سفُن مدنية تحمل ناشطين ومواد إغاثية من دول مختلفة، لتذكّر العالم بأن المأساة لم تنتهِ، وأن الحصار لم يُرفع، وأن الحرب لم تعد ذكرى، بل واقعاً يومياً يتجدد تحت حماية دولية وصمت رسمي عربي.

من "أسطول الصمود" إلى "أسطول الحرية"... إصرارٌ يتجدد 

الأسطولان لا يمثلان حدثين منفصلين بقدر ما يعكسان تطوّر أدوات المقاومة المدنية الدولية ضد المشروع الإسرائيلي في غزة، فأسطول الصمود العالمي، الذي انطلق في سبتمبر/أيلول 2025 بمشاركة مئات الناشطين من أكثر من خمسين دولة، شكّل محاولة أكثر جرأة لكسر الحصار عملياً، عبر تنسيق مع مؤسسات حقوقية ومدنية من أوروبا وأميركا اللاتينية.

أما أسطول الحرية، فقد جاء امتداداً لتجربة بدأت منذ حادثة "مرمرة" عام 2010، لكن هذه المرة في مناخ أكثر احتقاناً وبعد حربٍ مفتوحة غيّرت معادلات الردع والوعي.

كلا الأسطولين تعرّضا للاعتراض الإسرائيلي، الأول، في 2 أكتوبر حين احتجزت البحرية الإسرائيلية أكثر من 450 ناشطاً من أسطول الصمود، والثاني، بعده بأسبوع تقريباً حين جرى اعتراض أسطول الحرية واعتقال نحو 145 ناشطاً وطبيباً وبرلمانياً.

2025: العام الذي سقطت فيه الأقنعة

لم يكن اعتراض الأسطولين مجرّد حدث بحري أو خرق للقانون الدولي، بل كان مؤشراً على أن "إسرائيل" باتت تتعامل مع كل أشكال التضامن المدني باعتبارها تهديداً استراتيجياً.

ففي 2025، تحاول الحكومة الإسرائيلية بقيادة اليمين الديني القومي إعادة صياغة المشهد الفلسطيني بالكامل، فالعملية العسكرية المستمرة على غزة تحوّلت إلى برنامج سياسي ممنهج يقوم على التجويع، ومنع الإعمار، وخلق بيئة طاردة تُسهِّل التهجير الجماعي. وهذا هو جوهر ما وصفته تقارير غربية بـ"الخطة الميدانية للضمّ المرحلي".

من هنا، يصبح اعتراض الأساطيل ليس مجرد ردع ميداني، بل هو جزء من معركة السيطرة على السردية، إذ تريد "إسرائيل" إقناع العالم أن لا فائدة من المبادرات المدنية أو الحقوقية، وأنها وحدها من تحدد من يمر ومن يُدفن في البحر!.

خطة دونالد ترامب... احتكار "المساعدات الإنسانية"

في خلفية مشهد اعتراض الأساطيل، تبرز ظلال خطة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي قُدّمت كـ"خارطة طريق لإنهاء الحرب على غزة وإعادة الإعمار بضمانات دولية"، نهاية الشهر الماضي.

لكن رغم العنوان الإنساني الهادئ، فإن جوهر الخطة يعيد إنتاج المنطق نفسه الذي حكم "صفقة القرن"، فهي تفصل غزة عن الضفة الغربية، وتُبقي السيطرة الأمنية لحكومة الاحتلال تحت غطاء دولي، مقابل السماح بإدخال المساعدات وإطلاق مشاريع اقتصادية واسعة بإشراف أميركي مباشر.

وبذلك يتحول قطاع غزة من قضية سياسية إلى ملف إداري وإنساني، تُدار حدوده وسواحله من الخارج، وبالتدريج يتحول إلى "كيان مؤقّت" خاضع لرقابة مالية وأمنية مشددة، ما يعني إنهاء عملياً للقضية الفلسطينية.

في هذا السياق، يصبح اعتراض أساطيل المساعدات، ليس مجرد ردّ عسكري، بل خطوة متسقة مع روح الخطة الأميركية نفسها التي تُضفي الشرعية على الحصار، وتحاول احتكار إدارة البعد الإنساني للقضية الفلسطينية تحت سقف سياسي أميركي – إسرائيلي واحد.

هل تموت الأساطيل؟ أم تُبعث من جديد؟

لم تُحقق أساطيل كسر الحصار اختراقاً مادّياً للحصار البحري، لكنها نجحت في كسر الحصار الأخلاقي والإعلامي، فهي ليست مجرد سفن، بل هي رموز متحركة تُعيد تعريف الصراع، وتُحرج الخطاب الغربي الذي يساوي بين الضحية والجلاد، ولهذا، فإن اعتراضها لا يعني موتها، بل إحياءها في ذاكرة العالم.

فالمؤكد أن كل عملية اعتراض تتحول بحد ذاتها إلى حدث إعلامي، وكل اعتقال يُعيد النقاش حول شرعية الحصار ذاته، الذي تعتبره الأمم المتحدة غير قانوني ويشكل عقاباً جماعياً.

العوامل التي تسهم في استمرار سُفن المساعدات المتجهة إلى غزة:

أولاً، كثافة التغطية الإعلامية:

تُعد التغطية الإعلامية المكثفة أحد أبرز العوامل التي تحافظ على استمرار المبادرات البحرية تجاه غزة، فالاعتقالات والاعتراضات التي تتعرض لها السفن تُولّد اهتماماً إعلامياً واسعاً على المستوى الدولي، ويزداد التأثير حينما يكون المتضررون من الشخصيات المعروفة عالمياً أو إقليمياً.

فوجود ناشطين بارزين مثل غريتا ثونبرغ أو نواب وشخصيات سياسية بارزة يمنح الأسطول زخماً إعلامياً إضافياً، ويحوّله من مجرد مبادرة محلية أو هامشية إلى قضية عالمية تحظى بالاهتمام المستمر.

ثانياً، التوثيق القانوني والدعم الحقوقي:

تلعب منظمات حقوق الإنسان دوراً محورياً في دعم تلك المبادرات، حيث تعمل على توثيق الانتهاكات التي يتعرض لها المشاركون في الأسطول، مثل الاعتقالات غير القانونية أو المعاملة القاسية، ومنع الوصول إلى المحامين أو الإجراءات القانونية اللازمة.

منظمات مثل Adalah وFIDH وغيرهما تصدر تقارير مفصلة وتقدّم شكاوى قانونية، ما يفتح ملفات قضائية طويلة يُفترض أن تصل إلى المحاكم الدولية.

ثالثاً، الدبلوماسية والضغط الدولي:

الدول التي لديها مواطنون مشاركون في الأسطول تمارس ضغطاً دبلوماسياً مستمراً على "إسرائيل" لضمان سلامتهم. هذا الضغط يشمل اتصالات رسمية، وبيانات احتجاج، وتحركات في المحافل الدولية. من جهة أخرى، بعض الدول تستخدم القضية كوسيلة للضغط السياسي أو لإبراز موقفها من الحصار. وجود هذه الدبلوماسية يجعل الحدث أكثر ثقلاً على المستوى الدولي، ويخلق حالة من الاهتمام المستمر بالقضية.

رابعاً، الرمزية والمبادرات البديلة:

حتى لو لم تنجح السفن في الوصول فعلياً إلى غزة، فإن المبادرة تحمل قيمة رمزية كبيرة، إذ تُظهر أن هناك من يرفض الحصار ويُصر على توصيل رسالة التضامن. هذه الرمزية تتحوّل إلى قوة معنوية، فهي تثبت للعالم أن الحصار ليس مسألة مسكوت عنها، وأن هناك أشخاصاً يسعون إلى مقاومته بطرق قانونية وسلمية.

أما العوامل التي قد تُضعف القضية أو تُهدّد استمراريتها:

أولاً، الاعتقالات المتكررة والتعامل الإسرائيلي العنيف:

تواجه المبادرات البحرية تحدياً كبيراً بسبب الاعتراضات المتكررة والاعتقالات التي تقوم بها "إسرائيل"، فهذه الإجراءات لا تقتصر على توقيف السفن، بل تتضمن استخدام القوة، ما يخلق حالة من الخوف لدى بعض الناشطين ويزيد من المخاطر على المستوى الشخصي والقانوني.

هذا النوع من التعامل العنيف قد يُثني بعض المشاركين عن الانخراط في المبادرات المستقبلية، ويزيد من التحديات.

ثانياً، الإرهاق اللوجستي والمالي:

تشغيل أسطول من السفن يحمل مساعدات إنسانية يتطلب موارد كبيرة، سواء كانت قوارب، طواقم عمل، مساعدات غذائية وطبية، دعماً لوجستياً، أو تأميناً قانونياً. ومع اعتراضات متكررة وعمليات احتجاز طويلة، تتضاعف التكاليف المالية وتزداد التعقيدات التنظيمية، ما قد يؤدي إلى نفاد الموارد، وإرهاق المشاركين، ويحدّ من قدرة المبادرة على الاستمرار بالوتيرة نفسها .

ثالثاً، الانشغالات الدولية الأخرى وضغط الأجندات:

في ظل تعدد القضايا والصراعات الإقليمية والدولية، قد تتراجع أولوية قضية أسطول المساعدات أمام أحداث أخرى تستأثر بالاهتمام الإعلامي والدبلوماسي

إرادة التضامن تستمر رغم التحديات

على الرغم من كل الصعوبات، تظل قضية أسطول المساعدات إلى غزة قضية حيوية ومستمرة، تحمل أبعاداً إنسانية وقانونية وسياسية في الوقت نفسه، فالاعتقالات والاعتراضات المتكررة التي تتعرض لها السفن لا تعني توقف الأصوات الداعية لإنهاء الحصار، بل قد تحوّل هذه المواجهات إلى ساحات قانونية ودبلوماسية أكثر استراتيجية، إذ تستمر منظمات حقوق الإنسان والحكومات الداعمة في توثيق الانتهاكات وممارسة الضغط الدولي لإطلاق المحتجزين وضمان سلامتهم.

سفن المساعدات، لم تحمل أسلحة، بل حملت الأدوية والمواد الغذائية، رغم ذلك اعترضتها السفن الحربية الإسرائيلية في المياه الدولية، ولم تتحرك أي قوة لنجدة الناشطين وردع "إسرائيل"، لكن الأمور ستتغير بالتأكيد مع مرور الوقت، ومع إصرار الهيئات الإغاثية على تنظيم القوافل، وحتى تتبدّل الأمور، فيكفي الدعم المعنوي الكبير الذي قدّمه ناشطون من مختلف دول العالم للفلسطينيين، وتكفي صورة حكومة بنيامين نتنياهو أمام العالم، والتي تتدهور يوماً بعد آخر، لا على مستوى الشرق الأوسط فحسب، بل على مستوى العالم أجمع.