هندسة القبول: كيف حوّلت "نافذة أوفرتون" رفض التطبيع إلى قبول؟
تمّ كسر الحاجز النفسي والمعنوي لدى المواطن العربي، وحوّلت "نافذة أوفرتون" الخطاب من منطقة "التابو" إلى مناطق ما بين "المقبول" و"المقبول مناقشته".
-
قضية التطبيع مع "إسرائيل".
يعجّ الإعلام العربي عامة واللبناني خاصة بأسئلة يومية ونقاشات حول "مسار التطبيع مع إسرائيل" وتطفو على سطح النقاشات العامة في لبنان، عناوين "سبقتنا سوريا الى التطبيع" لماذا لا يستفيد لبنان، أو ادّعاءات أنّ "لبنان سيبقى خارج الركب بينما التحقت به سوريا وسيكون الازدهار والاستثمارات من نصيبها" إلخ...
واقعياً، إنّ ما يحصل ليس مجرّد "ثرثرة" إعلامية أو أسئلة تطرح بهدف النقاش، بل هي حملة منظّمة تتضمّن أدوات معروفة في وسائل الاتصال وهندسة الرأي العامّ، وتعتمد نظريتين أساسيتين "نافذة أوفرتون" و"نظرية التحريض"، فما هما وكيف تستخدمان لهندسة الرأي العام؟
أولاً- "نافذة أوفرتون" (The Overton Window)
هي نظرية سياسية تصف مدى قبول الرأي العام للأفكار والسياسات. تُصوّر هذه النافذة طيفاً من السياسات المقبولة من قبل الجمهور في وقت معيّن، على الشكل الآتي:
1.سياسات مقبولة (Standard): سياسات عادية ومقبولة على نطاق واسع.
2. سياسات مقبولة بحذر (Sensible): مقبولة، ولكن قد تكون مثيرة للجدل بعض الشيء.
3. سياسات مقبولة هامشياً (Acceptable): ليست شائعة، ولكن يمكن مناقشتها.
4.سياسات غير مقبولة (Unpopular): غالباً ما يتمّ رفضها، ولكن يمكن طرحها للنقاش.
5. سياسات متطرّفة (Extreme): مرفوضة تماماً من قبل الغالبية العظمى.
تقوم هذه النظرية على طرح "كيف يمكن تحريك النافذة لجعل الأفكار التي كانت مرفوضة تبدو مقبولة أو قابلة للنقاش؟". وتقترح النظرية الآلية الآتية:
1.التطبيع (Normalization): يتمّ تقديم الفكرة المتطرّفة بشكل متكرّر في الخطاب العامّ (غالباً عبر وسائل الإعلام أو منصات التواصل).
2.إطار جديد (Framing): تتمّ إعادة صياغة الفكرة بلغة أقلّ تطرّفاً أو من خلال ربطها بقيم مرغوبة (الازدهار والاستثمارات الخارجية).
3.التأييد (Endorsement): يقوم أشخاص ذوو مصداقيّة نسبية أو حسابات مؤثّرة (جزء من شبكة الذباب الإلكتروني) بمناقشة الفكرة وكأنّها خيار شرعي ( "لِمَ لا؟"/ أما آن الأوان للتفكير بها"؟)
4.القبول (Acceptance): مع التكرار، تصبح الفكرة مألوفة وتدخل تدريجياً في حيّز "المقبول مناقشته".
ثانياً- نظرية التحريض (Agitation Theory)
تركّز هذه النظرية على كيفيّة استخدام الرسائل الإعلامية المُحرّضة لاستثارة المشاعر السلبية (مثل الخوف، الغضب، الكره، القلق) لدى الجمهور لتحقيق أهداف محدّدة، مثل تفكيك التماسك الاجتماعي أو إضعاف الثقة في المؤسسات أو حشد التأييد لسياسة معيّنة.
وتقوم هذه السياسة على آليات أهمها:
1.التكرار (Repetition): تكرار رسائل بسيطة وعاطفية لتثبيت فكرة في العقل الباطن (تعبنا).
2.التبسيط (Simplification): تحويل قضايا معقّدة إلى ثنائيات بسيطة (نحن وهم، ثقافة حياة مقابل ثقافة موت).
3. التشويه (Distortion): تضخيم التهديدات أو تصغيرها وفقاً للأجندة المطلوبة.
4. التوجيه (Channeling): توجيه الغضب أو الخوف المشتعل نحو عدو أو كبش فداء محدّد (مثل فئة اجتماعية، حزب، دولة).
وعلى هذا الأساس، فإنّ نافذة أوفرتون هي الإطار الاستراتيجي طويل المدى لتغيير ما يعتبره المجتمع "غير مقبول"، أما نظرية التحريض فهي التكتيك التعبوي قصير المدى لخلق الفوضى العاطفية وكسر المقاومة ضدّ هذا التغيير.
ثالثاً- قضية التطبيع مع "إسرائيل"
لعقود طويلة، كان التطبيع مع "إسرائيل" من دون حلّ عادل للقضية الفلسطينية يقع في أقصى الهامش- "المرحلة المتطرّفة" في الرأي العامّ العربي (واللبناني) الرسمي والشعبي، وكان يعادل "الخيانة". بهدوء، وعلى مراحل، حصلت عملية تحريك لهذه النافذة بطريقة منظّمة:
1. المرحلتان الأولى والثانية: نقلها من "المتطرّفة" إلى "المقبولة هامشياً"، حيث يتمّ ترويج مصطلحات مخفّفة: "التعاون من أجل الاستقرار الإقليمي"، أو "مصالح مشتركة في مواجهة تهديدات مشتركة" (إيران كعدو مشترك). لم يعد الأمر يعبّر عن "حبّ لإسرائيل"، بل عن "ضرورة" براغماتية.
2.المرحلة الثالثة: من "المقبولة هامشياً" إلى "المعقولة": ظهور شخصيات إعلامية و"خبراء" في قنوات عربية رئيسية يطرحون أسئلة "جريئة": "هل حان الوقت لإعادة النظر في موقفنا؟" أو "كم كلّفنا رفض التطبيع؟". في المقابل، يقوم الذباب الإلكتروني بمهاجمة أيّ معارض لهذه "الجرأة" ويصفه بأنه "خشبي" أو "ممانع" أو من"حرس الثورة الإيرانية" إلخ..
وبعدها، تحوّل الخطاب إلى "الاقتصاد" أو "السلام من أجل الازدهار"، مع التركيز على المنافع الاقتصادية الموعودة (الاستثمارات، الازدهار) وإخفاء الثمن الباهظ (تفريط في الحقوق، والقبول باقتطاع الأرض لمناطق عازلة إلخ).
3.المرحلتان الرابعة والخامسة: من "المعقولة" إلى "الشائعة" ثمّ "السياسة":
لا يعود النقاش هنا يدور حول "إذا" كان يجب التطبيع، بل حول "كيف" نطبّع لتحقيق أقصى استفادة. ويصبح النقاش حول آليات التعاون (السياحة، التجارة، الأمن) بدلاً من الشرعيّة الأخلاقية.
وهكذا، يتمّ تحويل النقاش من مجال الحقوق والسيادة إلى مجال المصالح المادية الصرفة، مما يخلق انقساماً بين من يفكّرون "بقلبهم" أو "الممانعون" أو "الخشبيون"، ومن يفكّرون "بعقلهم" (المؤيّدون للازدهار الاقتصادي)، وبمصلحة بلدانهم وتقدّمها أو "مَن يحبّون الحياة".
في النتيجة، تفاوت نجاح هذه الآليات بين دولة وأخرى في العالم العربي، فبينما ما زال اللبنانيون في المراحل ما بين الأولى والثالثة، انتقل العديد في العالم العربي إلى المرحلتين الرابعة والخامسة، وانتقلت الدول التي قامت بالتطبيع فعلاً الى المرحلة الأخيرة: "السياسة". وفي النتيجة، تمّ كسر الحاجز النفسي والمعنوي لدى المواطن العربي، وحوّلت "نافذة أوفرتون" الخطاب من منطقة "التابو" إلى مناطق ما بين "المقبول" و"المقبول مناقشته".