إن الكرام قليل

قاتل أطفال غزة الذي لم يرشق له جفن من جرائم إبادة غير مسبوقة في التاريخ الحديث لم يخجل وهو يعتلي منبر الأمم المتحدة بدلاً من كرسي الاعتقال في محكمة الجنايات الدولية.

0:00
  • أحد أسباب الطغيان في عالم اليوم هو أن الأحرار في هذا العالم قلة.
    أحد أسباب الطغيان في عالم اليوم هو أن الأحرار في هذا العالم قلة.

ما قيمة أن تنال أَعْلَى منصب في العالم وأن تحمل أعلى الألقاب إذا لم تكن إنساناً حراً؟ وما قيمة أن ترضى عنك أعلى قوى الكون فيما تخشى بوصلة قلبك أن يَمُتَّ طرفك إلى المرأة فترى في عيني ذاتك الذلَّ والمهانة والانكسار الداخلي الذي قد لا يعرف كُنهَه أحد سواك؟ وما جدوى أن تظهر وكأنك تملك ثروات الأرض فيما نفسك الداخلية القابعة في أعماقك تَشْعُرُ ليل نهار أنك الأفقر والأصغر بين البشر؟ وما قيمة العمر إذا انقضى وأنت عاجز عن أن تقول كلمة حق تعلم في قرارة نفسك أنها الواجب الإنساني والأخلاقي، وأنها أضعف الإيمان، ولكنها أفضل إنجاز يمكن أن تسجله عند الله والخلق؟ حتى وإن لم تحدث الأثر المرتجى منها اليوم أو غداً، فإنها تحفر أثرها في ذاكرة الأيام، وتبقى شاهداً على موقف أخلاقي وإنساني لا تكتمل إنسانيتك بدونه.

بالرغم من تعطيل الولايات المتحدة المتعدد لدور مجلس الأمن الحيوي في حل النزاعات، وبالرغم من تراجع دور الأمم المتحدة في السنوات الأخيرة بشكل غير مسبوق نتيجة اختطافه بالقوة من قبل الولايات المتحدة، فإن مشهد اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة هذا العام كان مشهداً ذا دلالات جديدة تستحق التوقف عندها والتأمل في أهميتها ومؤشراتها لكل ذي خبرة وبصيرة؛ فقد وقف أولاً رئيس أقوى دولة في العالم، رئيس الولايات المتحدة الأميركية، يحمل على كتفيه وزر تعطيل وقف جرائم التجويع والموت لمئات الآلاف من الأطفال والنساء والرجال في فلسطين الذين خُذِلوا وتتبع فرض خذلانهم من قبل الدول والمؤسسات الدولية المعنية، دون أن يبدي أقل شعور أو إشارة أو كلمة عن ثقل هذا الوزر، ودون أن يبذل أي محاولة للتكفير عن موقف الإطلاق الإنساني والأخلاقي ولا البشري. على العكس، بدا مستهزئاً ومهدداً وطاعناً بكل من تجرأ أن ينتقد غروره، مُطْلقاً الأحكام على أي شخص أو دولة أو كيان على هذا الكوكب، كأن أحكامه هي الأحكام الإلهية التي لا أمرة لها ولا سبيل إلى تغييرها في الأرض ولا في السماء، متكئاً بكل ذلك على قوة عسكرية ضاربة وقدرة على تدمير أي شخص أو بلد يتجرأ على أن يشكك في صوابية مواقفه وآرائه.

والمحزن في هذا الأمر أنه تم إغفال أهم مقوم من مقومات هذا الكوكب الذي نعيش عليه، ألا وهو الإنسان، إذ لم ير الرئيس ترامب في فلسطين أو سوريا أو العالم العربي أو إيران أو فنزويلا إلا خُصومًا، ناسياً أن الله خص هؤلاء البشر بأقدس مقومات مخلوقاته، وجعل ثواب من أحيا نفساً منهم كأنما أحيا الناس جميعاً، ومن قتلها فكأنما قتل الناس جميعاً. ما يعنيه هذا هو أن كل نفس بشرية ذات قيمة هي أعلى القيم لدى الخالق الغفور الرحيم الودود، فيما لم يرَ الرئيس ترامب في كل هذه البلدان سوى الموارد التي يريد أن يستحوذ عليها بشتى الوسائل مهما كان الثمن الإنساني باهظاً.

أما قاتل أطفال غزة، والذي لم يَرْمش له جفن من جرائم إبادة غير مسبوقة في التاريخ الحديث، فلم يخجل وهو يعتلي منبر الأمم المتحدة بدلاً من كرسي الاعتقال في محكمة الجنايات الدولية، ولم يفكر في أن ينزل ويعتذر من الكون كله وهو يراقب معظم الوفود تَغادر القاعة قبل أن يَنطق بِشَفَة اعتراضاً على وجوده وإجرامه وقبحه في تجويع وإبادة أطفال فلسطين، بل بقي بكل وقاحة ليتلو أكاذيبه المفضوحة على مسامع كراسٍ فارغة، ويقرع مزاميره على حفنة من المتواطئين الذين لا يستحون أن يبقوا جالسين في وجود أكبر مجرم في القرن الواحد والعشرين، والذين فقدوا احترامهم في أعين البشرية قبل أن يفقدوا مناصبهم التي يظنون أنها تشكل لهم خلاصاً من الذل والعار والمهانة. مع ذلك، فقد كان إخلاء القاعة من قبل مَنْ يَحْمِلُونَ شرف الكلمة والموقف قبل خطاب قاتل الأطفال صفعة هامة في وجه كل الصامتين والمتواطئين والجبناء الخائفين من قول كلمة حق في عهد ظالم ومتجبر وجائر.

ولأن الذي لا يستحي يستطيع أن يفعل ما يشاء، ولأن المسافة بين قلب القاتل ولسانه كالبعد بين المشرقين والمغربين، فقد استمر في الكلام الأجوف بلسان لا ينطق إلا كذباً ونفاقاً، وبوجه أصفر من صفرة الوجوه التي تخلو من أي ملامح إنسانية تشي بوجود قلب بشري. في الوقت ذاته، كان أسطول الصمود والحرية والدعم يشق عنان البحار من شتى أنحاء الأرض ليصل إلى أولئك المستضعفين قبل أن يحكم عليهم شيطان الموت بالموت جوعاً. هؤلاء المتطوعون الشرفاء غامروا بحياتهم ليصلوا إلى أطفال مظلومين يستغيثون ويتضورون جوعاً، وتمتد أيديهم الأمينة آمِلين أن تعود لهم بما يسد رمقهم ولو ليوم آخر، وأيضاً لِيُعِيدُوا للبشرية أنهم هم الذين يمثلون الإنسانية لا مجرمو حروب الإبادة وإن فلتوا من العقاب إلى حين.

وسط هذه المشاهد المتضاربة، يعتلي المنبر رئيس حَرصَ على إنسانيته وقلبه ووجدانه وضميره، ولم ير في لقب "رئيس" سوى القدرة والتمكين لقول الحق ونصرة المظلومين، فرفع الصوت عالياً في وجه الظلم دون أي اعتبار للثمن الشخصي الذي قد يضطر إلى دفعه، وقد بدأ بدفعه في اليوم ذاته، فقد اعتلى الرئيس الكولومبي الحر والشريف "غوستافو بيترو" منبر الأمم المتحدة ليبدأ بالقول: "هذه آخر مرة أعتلي هذا المنبر"، وهو فعلاً لا يأمل أن يعتليه مرة أخرى، لأن التاريخ يصنع مرة واحدة، ولأن الحياة موقف، فقد سجل الرئيس بيترو أهم موقف ضد الظلم والإجرام والطغيان. وقف بيترو مدافعاً عن بلده وثقافة بلده وكرامته وحريته وحضارته، مُعْلِناً استعداده للتطوع لنصرة المظلومين حيثما كانوا.

وقف الرئيس بيترو كالطود في وجه العدوان الإسرائيلي المجرم على غزة، تماماً كما فعل أبناؤها وبناتها الأبرار وسط الإبادة البشعة بحق هذا الشعب الأصيل، وداعياً إلى التطوع لنصرة فلسطين، مُعْلِناً أنه يسجل اسمه كأول المتطوعين. وليقرن القول بالعمل، وليكون الرئيس الذي يستحق بجدارة هذا الموقع الرفيع، خرج من أروقة الأمم المتحدة ممثلاً بذلك أرفع درجة إنسانية ليقود تظاهرة لنصرة فلسطين في شوارع نيويورك، فيما كانت أروقة واشنطن حائرة بهذه اللحظة الإنسانية التي قل نظيرها، ففكرت عبقريتهم في حرمانه من الفيزا للولايات المتحدة، وكان شخص بهذا السمو الإنساني يُحْرَم من فيزا إلى بلد من مارسوا الفِتْنَة ست مرات منذ بدء طوفان الأقصى ليمنعوا الأسرة الدولية من إيجاد السبل لوقف هذه الإبادة المجرمة المشينة. أما الرئيس بيترو، فقد كان رد فعله على القرار الأميركي بحرمانه من الفيزا بالقول: "لا تهمني الفيزا، فأنا إنسان حر".

السؤال هو: كم من القادة والرؤساء الذين وصلوا إلى الأمم المتحدة هذا العام ليلقوا خطبهم الرنانة قادرون على أن يعلنوا بثقة وقلب لا يعتربه الوجل ولا العواقب المتوقعة، أنهم أحرار: يقولون ويقفون ما تمليه عليهم ضمائرهم؟ وكم منهم يؤمن ويستطيع أن يعلن أنه إنسان حر بغض النظر عن العواقب؟

وهنا بيت القصيد، فأحد أسباب الطغيان في عالم اليوم وعبث الشيطان به وفتكه بالقيم الإنسانية والأخلاقية التي نصت عليها كل الشرائع والأديان، هو أن الأحرار في هذا العالم قلة، وأن الكرام قليل، ولكن هؤلاء، وهؤلاء فقط، هم الذين سيُسَجِّل التاريخ أسماءهم بأحرف من نور، كما سجل أسماء الشهداء والمدافعين عن القيم والحقوق، من الشهيد قاسم سليماني إلى سيد الشهداء السيد حسن نصر الله إلى كل شهداء الحق والقضايا العادلة: الأحياء منهم والأموات، فيما سَيُذَرَفُ وَيَنْطَوِي ظلم الظالمين مُكْفَتِّين بأكاذيب إجرامهم وصلفهِم، فلن تجد لهم أثراً ولا رَكزاً، بل ستكون حياتهم وأعمالهم كرماد اشْتَدَّتْ به الريح في يوم عاصف.