الإقطاعية الرقمية واحتضار الرأسمالية
لم تعد البرجوازية صاحبة رأس المال الكلاسيكي أو مالكة المصانع والمزارع والورشات، الطبقة السائدة في المجتمعات الرأسمالية، إذ حلّت محلّها طبقة من الإقطاعيين الرقميين.
-
يختلف التغيير في نمط الإنتاج الذي فرضته الإقطاعية الرقمية.
في كتابه المهم "الإقطاعية الرقمية: ما الذي قتل الرأسمالية؟" يتحدّث السياسي والكاتب اليوناني يانيس فاروفاكيس عن الموت الوشيك للرأسمالية التقليدية والنيوليبرالية لصالح نهوض نظام جديد هو الإقطاعية الرقمية. رغم أنّ الكاتب يأتي من خلفيّة ماركسية إلّا أنّ كتابه لا ينطلق من قواعد أيديولوجية بحتة، ولكن من تجربته كوزير مالية لليونان في فترة المفاوضات بين اليونان والاتحاد الأوروبي ومن تحليل اقتصادي لما أصاب الرأسمالية من تحوّلات، خاصة بعد أزمة كوفيد 19.
موت الرأسمالية بحسب فاروفاكيس لن يكون لصالح نظام جديد أكثر تطوّراً (الاشتراكية) بل لصالح نظام أكثر رجعية يسمّيه "الإقطاعية الرقمية". ما يحدث للرأسمالية اليوم هو تقويض لدعامتين رئيستين من دعائمها هما: الأسواق والأرباح. استبدلت الأسواق بالمنصات الرقمية، التي وإن بدت للوهلة الأولى مشابهة للأسواق إلا أنها في جوهرها أكثر شبهاً بالإقطاعيات، حيث يمتلك "الإقطاعي الجديد" المنصة الرقمية التي تحتوي المنتجات التي ينتجها الأفراد أو الشركات، ويتحكّم بالسعر بعيداً عن قاعدتي العرض والطلب، والمنافسة اللتين تميّزان الاقتصاد الرأسمالي.
يتحكّم الإقطاعي بنقل المنتجات من خلال تحكّمه بسلاسل الإمداد، أما أرباح المُنتج أو الرأسمالي فحلّ محلّها الإيجار الذي يعبّر عن الكلفة الرقمية للبضائع. بعبارة أخرى لم تعد البرجوازية صاحبة رأس المال الكلاسيكي أو مالكة المصانع والمزارع والورشات، الطبقة السائدة في المجتمعات الرأسمالية، إذ حلّت محلّها طبقة من الإقطاعيين الرقميين، تمثّلها بشكل رئيسي الأخوات الست العظام: أمازون، غوغل، آبل، ميتا، مايكروسوفت، وتسلا.
المفارقة الملفتة أنّ المعول الذي يعمل على تدمير الرأسمالية هو "رأس المال" نفسه، الذي انتقل من السيطرة على القطاعات الإنتاجية التي شكّلت تاريخياً مصدر فائض الإنتاج الذي تغذّت عليه الرأسمالية، ليتحكّم بقطاع التقنية ولاحقاً السيطرة على قطاع التجارة الرقمية التي عطّلت العلاقات التنافسية التي تميّز السوق الرأسمالي، واستبدلتها بعلاقة التبعيّة.
يساعدنا استذكار خصائص النظام الإقطاعي القديم من تلاشٍ لدور المركزية مع بقائها شكلياً وبحسب ما يتفق عليه الإقطاعيون (النبلاء)، وسيطرة للإقطاعيين على الأرض ومن يعيش عليها بحيث يتحوّل هؤلاء السكان إلى أقنان، على فهم النظام الإقطاعي الجديد حيث يقوم "أقنان العصر الحديث" من أفراد وشركات بتسليم منتوجاتهم إلى أصحاب المنصات الرقمية مقابل حصة من الإنتاج، ويفقدون القدرة على التحكّم بهذه المنتجات بعد تسليمها.
لقد أدرك أستاذ الاقتصاد في جامعة لندن "نيك سرنيسك" أنّ صعود ما أسماه "رأسمالية المنصات" يعمل على تغيير شكل الرأسمالية الذي نعرفه، من خلال مراكمة الأصول الوهمية (غير الملموسة Intangible) القابلة للتوسّع إلى ما لا نهاية، والقادرة على مراكمة عائدات خيالية خلال فترة قصيرة. تأتي هذه العائدات من عوائد الابتكار والملكية الفكرية وبراءات الاختراع وإيجار المنصات وتخزين المعلومات وبيعها. هذه الحيازة الواسعة لهذا الكمّ الهائل من المعلومات لا تحقّق للإقطاعيين الرقميين عوائد مالية خياليّة فحسب، بل تمنحهم القدرة على التحكّم والهيمنة، أي السلطة.
يؤدّي هذا الخيط الواصل بين الإقطاع الرقمي والسلطة، إلى ظهور "القنانة الحديثة" حيث يرتبط "إنسان العصر" بسلسلة معقّدة من الخوارزميات ويصبح تابعاً لها، كما كان الأقنان التقليديون مرتبطين بالمجال الجغرافي للإقطاعي. هذه التبعية التي امتلكتها المنصات الرقمية من خلال فيض المعلومات الذي تختزنها مكّنتها من تجاوز القدرة على التنبّؤ بسلوك البشر والمجتمعات لتصبح قادرة على صناعة هذا السلوك وإدارته. من خلال هذه القدرة أصبح بإمكان الإقطاعيين الجدد التدخّل في السياسة بشكل واسع وتزويد السلطة بوسائل المراقبة والقمع. هذا ما اعترفت به شركتا غوغل ومايكروسوفت حول تقديمهما المساعدة للكيان الصهيوني في عمليات البحث عن الأسرى في قطاع غزّة.
يختلف التغيير في نمط الإنتاج الذي فرضته الإقطاعية الرقمية، عن جميع أنماط الإنتاج السابقة، فهو لا يستهدف طبقة بعينها: البروليتاريا (العمال) أو الفلاحين مثلاً، ولكنه يستهدف جميع الطبقات بما فيها البرجوازية التقليدية، والرأسمالية الصناعية. هذا التغيير دفع الاقتصادي الفرنسي سيدريك دوران إلى وصف الإقطاعية التقنية بأنها "رأسماالية آكلي لحوم البشر".
تعيدنا التطوّرات التي يشهدها عالم اليوم إلى مقولة جرامشي "العالم القديم يموت والعالم الجديد لم يولد بعد، وما بين العتمة والضوء تظهر الوحوش". وسط الغموض بين العتمة والنور يستعيد الفكر الماركسي أهميته، كمنهج يقود البشرية نحو الخلاص. لن يقودنا نقد الاقتصاد الرأسمالي المقبل من داخل المركز الرأسمالي إلى حلول حقيقية لما ينتظر البشرية من مآسٍ، المسؤولية اليوم ملقاة على عاتق كادحي الأطراف الذين يعيشون التناقض الحقيقي مع الرأسمالية بكلّ تجلّياتها ليقدّموا للبشرية حلولاً مبتكرة تقودهم إلى الضياء.
كتب فاروفاكيس في مقدّمة كتابه: "هل يؤثّر هذا الأمر على الطريقة التي نعيش بها ونختبر حيواتنا من خلالها؟ بالتأكيد يؤثّر كثيراً. إنّ إدراك حقيقة أنّ عالمنا يحكمه إقطاعيون تقنيون سيساعدنا كثيراً في تفكيك الكثير من الألغاز – الصغيرة والكبيرة – في عالم اليوم: من الثورة الخضراء المخادعة وقرار إيلون ماسك شراء منصة "تويتر، إلى الحرب الباردة الجديدة بين الولايات المتحدة والصين، وكيف تهدّد الحرب الأوكرانية سيادة الدولار الأميركي.
سنفهم كذلك حقيقة موت الكائن الليبرالي، واستحالة الديمقراطية الاجتماعية، وزيف الحديث عن مستقبل العملة الرقمية، وقبل هذا وذاك سنكتشف أبعاد الإجابة عن السؤال الذي يدور في دواخلنا: كيف السبيل لاستعادة استقلاليتنا، وربما حريتنا".