الحرب الإعلامية على إيران والصراع الهندي – الباكستاني
الإدارة الأميركية غير راغبة في التورط بأي حروب كبرى في العالم حالياً، في إطار محاولاتها حشد قدراتها لمواجهة الصعود الصيني المتسارع، لكن هذا لا يعني عدم قدرتها على إثارة المشاكل.
-
الحرب الهندية – الباكستانية وإعادة تشكيل التحالفات.
يقول المثل التركي: من يذهب كالحصان يرجع كالجرو، في إشارة إلى حالة الشخص الذي يندفع في مواقفه إلى درجة المبالغة، وبالتالي يكون مضطراً للتراجع المخزي عندما يجبره الواقع على دفع مقابل غير محتمل لاندفاعه الأول.
ربما ينطبق هذا المثل إلى حد كبير على موقف إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب من بعض القضايا كالصراع التجاري مع الصين والبرنامج النووي الإيراني.
فبالرغم من حجم التهويل الإعلامي الأميركي بخصوص احتمال توجيه ضربة عسكرية لإيران، ولغة التهديد الصاخبة التي يستخدمها الرئيس الأميركي، فإن فكرة اللجوء إلى الخيار العسكري في التعامل مع دولة مثل إيران، تظل بعيدة للغاية، خاصة مع الظروف الاقتصادية الأخيرة التي تواجهها الولايات المتحدة، ومن بينها تداعيات الحرب التجارية مع الصين.
من المؤكد أن الولايات المتحدة تمتلك قوة عسكرية كبيرة وقادرة على التدمير، لكن الأمر هنا لا يعتمد على القوة العسكرية بقدر ما يعتمد على مدى مقدرة الأميركيين على إنهاء الحرب التي سيشعلونها ضد إيران والتي قد تتطور إلى معركة موسعة في مناطق أخرى كاليمن.
وبالرغم من أنهم (أي الأميركيين) ربما يحظون هذه المرة بتعاطف أوروبي في حال قرروا مهاجمة إيران، وهو ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي ماكرون بكل صراحة في يناير الماضي بقوله: إن إيران تشكل التحدي الاستراتيجي والأمني لأوروبا في الشرق الأوسط، محذراً من أن تسارع البرنامج النووي الإيراني يقود إلى حافة القطيعة بين الطرفين، فإن المشكلة الحقيقية في رد فعل كل من الصين وروسيا، حليفتي إيران، وربما دول أخرى ترى أن الصمت على هجوم الأميركيين على إيران ربما يهدد مصالحها، وبالتالي فإن على الأميركيين إجراء الكثير من الحسابات قبل اتخاذ هذا القرار ووضعه موضع التنفيذ.
من الضروري التوضيح أن العقيدة السياسية التي يسعى الرئيس الأميركي ترامب لتنفيذ تعاليمها، تتمثل في الشعار "أميركا أولاً "، وهو مبدأ يعتمد على الاهتمام بالمصالح الأميركية على حساب الشراكات والتحالفات مع الدول الأخرى، والتي يرى أنها استنزفت القدرات الأميركية، ومن خلال هذا الشعار يسعى ترامب، إلى إعادة تركيز الصناعة في الولايات المتحدة الأميركية، ودعم الشركات الأميركية وعلاج العجز التجاري، ولكن على حساب دول العالم التي يطالبها علناً بضرورة الإسهام من أجل بقاء الولايات المتحدة قوة عظمى. ولهذا السبب، فقد تبنّى سياسة اقتصادية متشددة، عبر زيادة الرسوم الجمركية على السلع الواردة من الصين وأوروبا والمكسيك وكندا، بهدف تقليل الاعتماد على السلع الأجنبية، والضغط لإعادة التفاوض حول الاتفاقيات التجارية مع الحلفاء، لضمان شروط أكثر ملاءمة لمصالح الولايات المتحدة الأميركية، وتهديد التحالفات والتجمعات الاقتصادية التي تسعى لاعتماد عملات غير الدولار في تبادلاتها التجارية كدول البريكس. كذلك اتخذ قراره بالتخلي عن القوة الناعمة التي لطالما استغلها الأميركيون عبر إيقاف تمويل الجمعيات والمنظمات المدنية والدولية، والسعي الحثيث لإيقاف الحرب الروسية الأوكرانية والحرب الصهيونية على غزة ولبنان.
لم يتحدث ترامب حول أسباب قراره الأخير بخصوص الحربين الدائرتين في شرق أوروبا والشرق العربي، لكن صموئيل بابارو قائد الأسطول الأميركي في منطقة المحيطين الهندي والهادي، كشف عن أحد هذه الأسباب في تعليقه على توسع كوريا الشمالية في اختبارات الصواريخ البالستية، التي تجاوز مدى بعضها 7 آلاف كيلو متر، حيث أشار إلى أن الالتزامات العالمية للولايات المتحدة سواء الحرب الروسية الأوكرانية أو الصراع بين المقاومة العربية والكيان الصهيوني في الشرق العربي، قد أدت إلى استنزاف المخزونات التي قد تحتاج واشنطن إلى حشدها في منطقة المحيطين الهندي والهادي، ما قد يفسر حرص الرئيس الأميركي على إيقاف الحرب بين روسيا وأوكرانيا بأي ثمن، ولو على حساب حلفائه الأوكرانيين والأوروبيين، والضغط للتوصل إلى تسوية في الشرق العربي لمصلحة الكيان الصهيوني، إضافة إلى عدم الرغبة في الانخراط إلى درجة كبيرة في المواجهات البحرية مع اليمن .
إذاً، لا يمكن الحديث، مع كل هذه الظروف، عن رغبة جدية بالنسبة للأميركيين في إشعال مواجهة جديدة مع إيران، لا يمكنهم توقع كيفية إنهائها والأطراف الذين سيشاركون فيها، وسوف تؤدي حتماً إلى استنزاف قدراتهم العسكرية المستنزفة بالفعل، وإنما يمكن الحديث عن محاولة حثيثة للتوصل إلى اتفاق أو تفاهم يفرض الهدوء فرضاً لمصلحة الكيان الصهيوني على المنطقة العربية، من أجل التفرغ وحشد قدراتهم للمواجهة في منطقتي النزاع الجديدتين: الإندو-باسيفيك والمحيط الشمالي، وهما المنطقتان اللتان ارتبطت بهما المشاغبات الأميركية منذ نجاح دونالد ترامب في الانتخابات الأميركية الأخيرة .
وبالرغم من الحشد العسكري الذي يقوم به الأميركيون سواء في المحيط الهندي أم في الخليج العربي، فالمؤكد هو أن هذا الحشد من ناحية الكم لا يمكن أن يكون موجهاً لإيران، بقدر ما يدخل في إطار الصراع مع الصين حول السيطرة على المحيطين الهندي والهادي، نظراً للأهمية البالغة لهذه المنطقة من الناحية الاقتصادية، حيث يتركز فيها ثلثا تجارة العالم، ومن هنا يخشى الأميركيون كثيراً من أن يتمكن الصينيون من إحكام وجودهم في هذه المنطقة، ما دفعهم سابقاً إلى محاولة تشكيل ناتو آسيوي في مواجهة الصين بقيادتهم، إضافة إلى الهند واليابان وأستراليا .
الحرب الهندية – الباكستانية وإعادة تشكيل التحالفات
في هذا الإطار، فإن اشتعال الخلاف بين كل من الهند وباكستان، والذي سعت إليه الهند سعياً، وصولاً إلى المواجهات العسكرية، يدخل في إطار المواجهات الأميركية مع الصين، خاصة مع تغير العلاقات والتحالفات. فرغم العلاقة القوية التي كانت تربط الأميركيين بباكستان، فإن ارتباط الأخيرة بعلاقات قوية جداً مع الصين مقابل تصاعد العلاقات بين الأميركيين والهند، أدى إلى فتور في العلاقات الأميركية مع باكستان، خاصة بعد أن لجأت الأخيرة إلى شراء مكثف للأسلحة الصينية التي أثبتت فاعليتها في المواجهات الأخيرة ضد الهند. وفي المقابل، فإن تصاعد وتيرة العلاقات الهندية مع أميركا وصولاً إلى مرحلة التحالف، لم يُنظر إليه بارتياح لدى الروس، وهم الشريك العسكري الأكبر للهند حتى الآن، وبالتالي، فقد اتخذوا موقفاً شبه منحاز إلى باكستان في المواجهة الأخيرة.
ويبدو الموقف الإيراني أكثر توازناً وسعياً لإيقاف الحرب، نتيجة العلاقات القوية التي تربط إيران بالدولتين، وإدراك الساسة الإيرانيين أن اشتعال مثل هذه الحرب سوف يؤدي بكل تأكيد إلى مشاكل كبيرة تحاول أميركا من خلالها الضغط على إيران، لتقديم تنازلات من دون الحاجة إلى الحرب، حيث يراهن الأميركيون على المجموعات البلوشية المتمردة (المدعومة منهم ومن الهند) سواء في باكستان أم في إيران، للقيام بأعمال تخريبية في البلدين، في حال تطورت هذه المناوشات إلى مواجهة شاملة بين الهند وباكستان، الأمر الذي قد يمثل تهديداً لأمن الحدود الشرقية لإيران، التي ستصبح مفتوحة لتنقل هذه الجماعات المتمردة على الدولتين.
إن هذه المشكلات التي يثيرها الأميركيون في جنوب آسيا وعلى حدود كل من إيران والصين عبر الهند، بما يمكّنهم من ممارسة الضغوط على كل من باكستان للتقليل من شراكتها الاقتصادية والعسكرية مع الصين، وإيران لتقديم تنازلات حول برنامجها النووي والصاروخي، تشير إلى أنهم غير مستعدين بالفعل لإشعال أي حروب مباشرة في الوقت الراهن، وبالتالي كان عليهم محاولة طرح الهند كقوة بديلة في مواجهة الصين، سواء في المحيط الهندي وجنوب آسيا، وحتى في إطار المشاركة بفاعلية في قضايا الشرق العربي، عبر الطريق التجاري من الهند وحتى الكيان الصهيوني، مروراً بالإمارات والسعودية والأردن .
وبالرغم من أن المشروعات الأميركية المطروحة مثل: الفصل بين روسيا والصين عبر إيقاف الحرب الأوكرانية، والضغط على إيران لتقديم تنازلات حول قدراتها النووية وبرنامجها الصاروخي، بما يؤدي كذلك إلى إضعاف علاقاتها مع الصين وروسيا، وحتى الضغط على باكستان للابتعاد عن الصين، وطرح الهند كقوة بديلة في المحيط الهندي وجنوب آسيا والشرق العربي. أقول إن هذه المشروعات لا يبدو أن أياً منها يسير نحو تحقيق نتائج إيجابية حقيقية، خاصة بعد التراجع الأميركي عن المواجهة مع اليمن وترك الكيان الصهيوني وحيداً، والخسائر الهندية في السلاح، وخاصة السلاح الجوي في المواجهات الأخيرة مع باكستان، ومع ذلك، فإن ترامب يبدو مضطراً تماماً للمواصلة، بغض النظر عن الثمن، وإلا، فإن التراجع يعني التسليم بالصعود والتطور الصيني، من دون قيد أو شرط، والاعتراف بأن الولايات المتحدة لم تعد القوة العظمى الوحيدة في العالم، بما يرافق هذا الاعتراف من أزمات اقتصادية ربما تؤثر على الاتحاد الأميركي نفسه لاحقاً .
موقف الكيان الصهيوني
يمكن اعتبار الكيان الصهيوني هو الخاسر الأكبر في هذا التوتر والاضطراب الذي يثيره الأميركيون، ومع سيادة مبدأ أميركا أولاً وشعور الأميركيين بالتهديد لهيمنتهم على العالم، فإن مكانة الكيان الصهيوني ومصالحه سوف تخضع بشكل كامل للمشروعات والمصالح الأميركية، بما يعني تراجع قيمته بالنسبة إلى البيت الأبيض. وقد أظهر موقف ترامب من الصراع مع اليمن، ولجوؤه إلى اتفاق منفرد مع القادة اليمنيين على حساب الكيان الصهيوني، إلى أنه رغم كل جعجعاته بخصوص أمن الكيان الصهيوني وتوسعه، لا يرى قيمة حقيقية لهذا الكيان أو رئيس وزرائه، أو أمن مواطنيه، سوى في إطار تحقيق مشروعاته.
ما يثير فزع قادة الكيان الصهيوني بشكل فعلي، هو التركيز الأميركي على الصراع مع الصين، وما تشكّله من تهديد ومنافسة لهيمنتهم، الأمر الذي يعني (جزئياً) التخلي عن وجودهم القوي في الشرق العربي، وتقليل دعمهم العسكري للكيان الصهيوني (ككل حلفائهم)، عبر محاولة فرض تفاهمات واتفاقيات مع الدول المجاورة، قد لا تحقق لبنيامين نتنياهو النتائج التي يطمح في الحصول عليها.
وبالرغم من أن الأميركيين لن يتخلوا عن الكيان الصهيوني بكل تأكيد، وما زالت رؤيتهم حول ضرورة توسع الكيان الصهيوني وتفريغ قطاع غزة من سكانه والقضاء على المقاومة الإسلامية في لبنان مستمرة، وربما ستزيد من وتيرتها في الفترة المقبلة، لتشمل المواجهات مناطق أخرى، خاصة مع بروز ملامح تحول الموقف المصري، بعد خوض الجيش المصري مناورات نسور الحضارة المشتركة مع القوات الصينية، وسعي القيادة المصرية إلى الحصول على أسلحة صينية تسهم في سد الفجوة التكنولوجية في مواجهة الجيش الصهيوني، ثم رفض القيادة المصرية قبول طلبات ترامب بمشاركة وحدات من الجيش في الحرب على اليمن، وإعفاء القطع البحرية الأميركية من دفع رسوم المرور بقناة السويس، والعلاقات المتطورة ببطء مع إيران.
لكن بالرغم من هذه المستجدات فإن تبنّي القادة الأميركيين لرؤية جديدة، ترى منح الأولوية لرفاهية الشعب الأميركي وسلامته الداخلية، ستؤدي إلى فقدان الكيان الصهيوني وحلفاء أميركا ،في منطقة الشرق العربي ككل، لأولويتهم بالنسبة إلى السياسة الأميركية خلال فترة رئاسة دونالد ترامب، باعتبار أن المصالح الوطنية الأميركية بالنسبة إليه أكثر أهمية من الالتزامات والتحالفات الدولية، في هذه المرحلة على الأقل .
هل يمكن أن تسمح أميركا للكيان الصهيوني بقصف إيران؟
يدرك قادة كل من أميركا والكيان الصهيوني أن قيامهم بقصف إيران سوف يؤدي إلى تصعيد المواجهات بين الكيان الصهيوني وإيران المدعومة من كل قوى المقاومة، وهو ما يتعارض مع أهداف الأميركيين بضرورة التوصل إلى ترتيبات تكفل لهم التخفيف من وجودهم العسكري في المنطقة، وقد برز هذا الحرص على التهدئة في تصريحات ترامب، التي أكد فيها أن نتنياهو لن يجرّه إلى حرب ضد إيران، كما أقال مستشاره للأمن القومي مايك والتز، بعد فضيحة التسريبات الإعلامية، والتي تُظهر تنسيقاً بينه وبين الكيان الصهيوني، بهدف توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية الإيرانية .
وتبقى الإشارة إلى مدى الارتباط بين مساري: المفاوضات الإيرانية الأميركية، والحرب في شبه القارة الهندية، فمع قيام باكستان بتوجيه ضربات عسكرية قوية للهند (المدعومة من أميركا)، اضطرت الأخيرة إلى التراجع وطلب خفض التصعيد لتجنّب السقوط في هزيمة مدوية، خاصة أن هذا الانتصار الباكستاني سيمثل تهديداً للمشروعين التجاريين طريق مومباي - تشابهار، وممر الشمال والجنوب؛ وفي المقابل اعتبرت الهزيمة الهندية بمنزلة هزيمة صريحة للأسلحة الغربية والصهيونية التي استخدمتها، وبديهي أن تسعى دول أخرى مستضعفة للتزود بهذا السلاح الفعال والزهيد الثمن، الأمر الذي سيعطّل المساعي الأميركية لمواصلة الضغوط في مواجهة الصين. وسوف يكون على الجانب الأميركي أن يقدم تنازلات أكبر في الساحتين الإيرانية والباكستانية في هذه المرحلة، بهدف إنجاح مسار المفاوضات وتجنب التورط في مواجهة عسكرية مع إيران والحفاظ على تحالفه مع الهنود. والأهم أن كلاً من باكستان وإيران بعد هذا الانتصار، سيتمكنان من ضبط الحدود المشتركة وتحجيم دور المجموعات البلوشية المتمردة.
والخلاصة أن الإدارة الأميركية غير راغبة في التورط بأي حروب كبرى في العالم حالياً، في إطار محاولاتها حشد قدراتها لمواجهة الصعود الصيني المتسارع، لكن هذا لا يعني عدم قدرتها على إثارة المشاكل والصعوبات أمام الدول التي يمكن أن تتحول وجهتها إلى الشرق وتحاول التملص من الحدود والقواعد التي وضعتها أميركا للعالم، بعد انفرادها بلقب القوة العظمى في مطلع تسعينات القرن العشرين، وبالتالي فمن المؤكد أن الأميركيين المذعورين من فقدان هيمنتهم على العالم، سيسعون مجدداً لإثارة العديد من المشاكل في المناطق المتصارع عليها، ومن بينها الشرق العربي .