السيد نصرالله: إنسان بلا حدود

بعد مرور عام على ارتقائه شهيدًا، وفي زمن " التوحش" ، نحيي ذكراه كـرمزٍ للإنسانية، لا كقائد عابر.
رمزٌ لطينة نادرة من القادة. القادة الإنسانيون لا القادة الأنانيون.

0:00
  • السيد نصرالله كان الشخصية الأبرز في مسار الأحداث على مستوى المنطقة.
    السيد نصرالله كان الشخصية الأبرز في مسار الأحداث على مستوى المنطقة.

قيل في الحكم: "الفضل ما شهدت به الأعداء"، وقد كانت شخصية سماحة سيد شهداء الأمة، السيد حسن نصر الله، محورًا للدراسات والأبحاث في العديد من مراكز الدراسات الصهيونية والغربية على حد سواء.

لقد خُصصت عشرات الدراسات لتناول هذه الشخصية الفريدة، وكانت خطاباته دوماً محط تحليل وقراءة معمقة، ليس فقط في الحقل الإعلامي، بل كذلك في الأوساط الاستخبارية، إذ جرت دراسات معمقة حاولت سبر أغوار شخصية سماحته، لفهم أفكاره ونواياه وحتى مشاعره.

هذا الاهتمام الاستثنائي، الذي تميّز بفرادته ونوعيته، يعكس بوضوح مدى تأثير سماحته في مجريات الأحداث على المستويين الإقليمي والدولي. ويكفي أن نستشهد باعتراف رئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، حين وصف السيد نصر الله بـ"محور المحور"، للدلالة على عظمة هذه الشخصية وأثرها العميق.

وليس من المبالغة القول إن السيد حسن نصر الله كان الشخصية الأبرز والأكثر تأثيرًا في مسار الأحداث على مستوى المنطقة، منذ توليه منصب الأمين العام لحزب الله عام 1992 خلفًا للشهيد السيد عباس الموسوي. ومع تصاعد حضوره وتأثيره في الساحتين اللبنانية والفلسطينية، وكذلك في العالمين العربي والإسلامي، اعتبرت مؤسسات العدو أن شخصه يُمثّل تهديدًا استراتيجيًا ووجوديا ، لأنه يجمع بين ثلاثة عناصر رئيسية:

1. الكاريزما القيادية المؤثرة: فقد كانت خطاباته بمنزلة عمليات عسكرية بحد ذاتها، لما تحمله من أثر تعبوي وتوجيهي كبير.

2. الصدق والالتزام: لم يكن سماحته رجل شعارات، بل كان رجل قرار وتنفيذ؛ يُحوّل كلماته إلى أفعال، ووعوده إلى حقائق ميدانية. وهذه المصداقية أكسبته ثقة عارمة، ليس فقط بين مؤيديه، بل حتى لدى خصومه.

3. الحكمة والبصيرة النافذة: فلم يكن مجرد رجل شجاع وجريء، بل كان كذلك رجل رؤية عميقة. يقلب الأمور على وجوهها، ويفكر في عواقبها، ويحتويها بحكمة، ويتكيّف مع التحولات، فيحوّل التهديدات إلى فرص، ويوسّع من نطاق تلك الفرص ليصنع منها المزيد.

هذه الشخصية، بأبعادها القيادية المتعددة، جعلت من سماحة السيد حسن نصر الله أكثر من مجرد قائد؛ لقد جعلت منه مُلهِمًا ومدرسة، تخرّجت منها أجيال نهلت من فكره، وتشبعت بأسلوبه في مقاربة الأمور.

وبكل ثقة، يمكن القول إن أجيالاً لبنانية وعربية وإسلامية تشكلت وهي تستلهم من فكره نمط تفكيرها، وأسلوب حياتها، وطريقتها في التعامل مع الأحداث.
وقد دفع هذا التأثير العميق العديد من المحللين إلى القول إن "وجود سماحة السيد" كان في حد ذاته عاملًا حاسمًا، يُبطل احتمالات حدوث أشياء أو يُحقّق أمورًا أخرى.
اليوم، تمر سنة على رحيله المفجع والمؤلم، أو كما يقول أهل الإيمان: مضى عام على فقدان نعمة وجوده.
نفتقده في كل لحظة وتفصيل، في كل موقف وحدث، في كل مناسبة وذكرى.
هذا الفقد ليس فقدان القائد والملهم فحسب، بل هو فقد الإنسان".

السيد حسن نصر الله، بكل ما مثّله من عظمة كقائد للمقاومة خلال أصعب المراحل، ونجاحه في قيادة هذه المسيرة من نصر إلى نصر، ومن موقع قوة إلى موقع أقوى، واستطاعته تحقيق تحولات استراتيجية عميقة... إلا أن له جانبًا آخر أكثر تأثيرًا وسموًا: الجانب الإنساني.

وحين أطلق عليه محبّوه لقب "الشهيد الأسمى"، لم يكن ذلك فقط انطلاقًا من قوته القيادية، بل كان تعبيرًا وجدانيًا عن التعلّق بروحه الإنسانية التي لم تعرف حدودًا.

فهو، رغم كونه على رأس تنظيم سياسي وعسكري ذي أدوار إقليمية ويقود معارك على أكثر من جبهة، لم يرَ في دمعته السخية ضعفًا، بل كانت تلك الدمعة تعبيرًا صادقًا عن قلبه الإنساني العذب والرقيق.

كل من عرف سماحته، لمس فيه نبل مشاعره. كان حريصًا على ألا يُزعج أحدًا، لا بكلمة ولا بنظرة.
كثيرون ممّن جالسوه، شعروا بعمق هذا الحرص. لم يكن يريد لضيوفه أن يشعروا بأي ارتباك أو رهبة في حضرته.

وهذا ما يرويه كثير من الإعلاميين والسياسيين، من داخل الحزب وخارجه؛ فعندما جلسوا أمامه، لم يشعروا بأنهم أمام زعيم تقليدي، بل أمام أخ وأب ومحب، بابتسامته الودودة، وكلامه الحنون، وتواضعه العميق، وحرصه على بثّ الطمأنينة في نفوسهم. وكان اللقاء به لحظة لا يرغبون في انتهائها.

لقد عُرف عن السيد تواضعه الجم، وكان يُعبّر مرارًا عن خجله أمام عوائل الشهداء، رغم كونه واحدًا منهم.
أحبّ الناس وعشقهم، وسعى إلى لقائهم، واحترم عقولهم، وأفرد لهم الشرح والتوضيح في خطاباته، لم يتحدث إليهم بروح القائد المتسلّط، بل بروح القائد الأبوي.

ومن أبرز صفاته الوفاء، ليس فقط لرفاق دربه، بل أيضًا لحلفائه من القوى السياسية، وهو الذي قال يومًا:
"نحن قوم لا نسحب يدنا من يد من تحالفنا معه."
وقد تعدّى هذا الوفاء حدود الزمن؛ فقد عُرف عنه ارتباطه بشخصيات تاريخية لم يُعاصرها، لكنه كان يرى فيهم فضلًا على شعبه وبيئته ووطنه. وكان يحرص على زيارة أضرحة العلماء الذين تركوا آثارًا علمية وثقافية في لبنان.

وقد أسّس السيد، الذي امتلأ قلبه حنانًا ورأفة وحرصًا على مشاعر الناس، قسمًا خاصًا في "الأمانة العامة" لتلقّي رسائل المواطنين من مختلف الطوائف والمذاهب، وكان يحرص على قراءتها شخصيًا، والرد عليها، وتلبية الطلبات التي تحتويها، انسجامًا مع إيمانه العميق بأن "خدمة الناس من أعظم العبادات."

كان فكر السيد منشغلًا دومًا بأحوال الناس، أينما كانوا.
ويُروى أنه حين وقع زلزال تركيا الشهير، كان أول ما سأل عنه هو أوضاع أهالي مدينة طرابلس اللبنانية، لعلمه أن بعض أحيائها القديمة مأهولة بالفقراء، وقد تكون مهددة بالخطر.
أما السيد المؤمن، رجل الدين، فقد كان شديد الحرص على الالتزام بعقيدته وأحكام دينه، مدافعًا بوضوح عن آرائه العقائدية. لكنه، في الوقت نفسه، تجاوز في علاقاته ومحبته ووفائه، كل المعايير التي يمكن أن تُفرضها الاختلافات الثقافية أو العقائدية.

لقد تعامل مع الناس انطلاقًا من مقولة الإمام علي (عليه السلام):
"الناس صنفان، إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق."
فقد اتّسعت رحابة قلبه للجميع، ولم تكن الانتماءات الطائفية أو المذهبية أو الجهوية أو الفكرية أو حتى العنصرية، تشكّل عنده أي حاجز في تعامله الإنساني.

لقد تفاعل السيد وجدانيًا مع كل ما جرى ويجري في غزة واليمن والعراق وباكستان وأفغانستان، وأي مكان في العالمين العربي والإسلامي، من دون أن ينظر إلى مذهب المعتدى عليهم أو جنسيتهم.
وقف إلى جانب المظلومين، وساندهم في قضاياهم، حتى وصل بتضامنه إلى أقاصي الأرض: في البوسنة والهرسك، وأميركا اللاتينية، وأفريقيا.

لم يكن السيد يرى أن المصالح السياسية أو الذاتية هي ما يحكم علاقته بالآخر المختلف عنه.
بل كان العمق الإنساني هو المعيار الحاكم في تلك العلاقة، وهو ما يتجلّى في حرصه على تفهّم مواقف المختلفين معه، وتمسّكه الدائم بإحسان الظن وتقدير ظروف الآخرين.

ويُروى عن سماحته، على سبيل المثال، أنه أبدى تفهّمه لمواقف بعض الحلفاء الذين لم يعلنوا تأييدهم لمعركة إسناد  غزة، وقال إن الموقف كان صعبًا، وقد لا يستطيع الآخرون تحمّله، من دون أن يُحمّلهم أي تبعات على التحالف معهم.
وكان يوصي العاملين في الشأن السياسي داخل حزب الله 
بان لا يطلبوا  من أحد شيئًا، ولا يتوقعوا من أحد دعمًا تجاه أي موقف اتخذه حزب الله أو أي خيار ذهب إليه.

واليوم، بعد مرور عام على ارتقائه شهيدًا، وفي زمن " التوحش" ، نحيي ذكراه كـرمزٍ للإنسانية، لا كقائد عابر.
رمزٌ لطينة نادرة من القادة. القادة الإنسانيون لا القادة الأنانيون. 
قادة يعملون من أجل الإنسان، لا من أجل التحكم بالإنسان.


ويبقى السيد هو "السيد"، وحبه ميزانٌ يُفرّق بين من اختار أن يكون إلى جانب الإنسانية، ومن اختار أن يكون في صف التوحّش.