القرار 2803... نهاية مطاف أم بداية لمفاوضات ومقايضات وتسويات؟
اقترف العرب خطأً قاتلاً بمنحهم الثقة لمشروع القرار الأميركي إلى مجلس الأمن، وهو المشروع المفخّخ بألغام كثيرة، ليس أخطرها بسط الوصاية الدولية على غزّة، وفصل مستقبلها عن مستقبل الضفة الغربية.
-
المقاومة يمكنها الرهان على الإجماع الشعبي الفلسطيني الرافض لمضامين القرار الدولي.
ثمّة ما يشي بأنّ قرار مجلس الأمن رقم 2803 الخاصّ بغزة، ليس نهاية مطاف، وإنما بداية مشوار طويل، من المفاوضات والمقايضات والتسويات... القرار بصيغته التي صدر بها، وبالتفويض الذي منحه لقوة الاستقرار الدولية، ليس قابلاً للترجمة والتنفيذ، ودونه عقبات كأداء، بدلالة العثرات الذي تواجه واشنطن، في جمع حشد دولي مناسب، برغم إعلان عشرات الدول، موافقتها المبدئية على الانخراط في القوة الدولية.
حين تكشف واشنطن نيّتها إدامة الاتصال المباشر، رفيع المستوى، مع حركة حماس، فليس لذلك من معنى سوى أنها تدرك تمام الإدراك حجم التعقيدات التي تواجه تنفيذ القرار الأممي ومبادرة ترامب، وتسعى في تذليلها بالتفاوض والتفاهم مع المقاومة، وليس بالقوة الغاشمة، مع إبقائها سيف التهديد والوعيد، مشهراً... صحيح أنّ لقاء ويتكوف-الحيّة، قد تمّ إرجاؤه إلى حين، بفعل ما قالت "إسرائيل" إنها ضغوط وانتقادات إسرائيلية، إلّا أنّ مصادر أميركية، تعزو السبب إلى عدم إتمام الموفد الرئاسي زيارته لأنقرة، للقاء زيلينسكي، وليس لأيّ سبب آخر، بدلالة استمرار الرئيس ترامب، في استخدام "لغة إيجابية" في وصف حماس وقيادتها ومفاوضيها، محمّلة بالرسائل والإشارات، التي تفتح الباب رحباً أمام احتمالات وخيارات شتى.
وحين تلجأ القاهرة، إلى "التسريب" وسيلة لإبلاغ الجميع بموقفها من التفويض الممنوح للقوة الدولية، بما يتخطّى ما ورد في القرار المذكور، وينزع وظيفة "نزع السلاح" من جدول مهامها، فإنّ ذلك، يشي بعمق النقاشات الدائرة خلف الكواليس، وما تشفُّ عنه من خلافات واختلافات، ولقد بات معلوماً أنّ مكامن القلق المصري الأمني والاستراتيجي، إنما باتت تنحصر في "التوحّش" الإسرائيلي المتفلّت من كلّ عقال، وليس في بقاء المقاومة وسلاحها في قطاع غزة.
وحين يُعلن الأردن، على لسان الملك، بأنّ من المفهوم أن تكون القوة الدولية، قوة حفظ سلام، وليس قوة لفرضه، وأنّ الأردن لن يشارك في مهمّة نزع سلاح المقاومة، ولن يقامر بالاشتباك مع مقاتليها، فمعنى ذلك، أنّ أقرب حلفاء واشنطن إليها، لن يكون طرفاً في إنفاذ خطتها بالقوة الغاشمة، وأنّ أحداً منهم، ليس بوارد أن يستكمل المهمة التي عجز "الجيش" الإسرائيلي طيلة عامين من حرب التطويق والتطهير والإبادة، عن إنجازها.
وحين تلجأ واشنطن إلى حكومة رشاد العليمي طلباً للمدد والعون، فتلكم إشارة دالة على حجم المتاعب التي تواجهها لتشكيل هذه القوة، فالحكومة التي لا تقوى على بسط الأمن والاستقرار في المناطق القليلة المحسوبة عليها في اليمن، يُراد لها أن تكون شريكاً في صنع الأمن والاستقرار في غزة، تلكم مفارقة غريبة عجيبة، إن دلت على شيء، فإنما تدل على بؤس المقاربة الأميركية لملفّ غزّة و"يومها التالي"، على الرغم من نجاح الدولة الأعظم، في ابتزاز المنتظم الدولي وانتزاع القرار المذكور، الذي تزكم سوءاته، الأنوف.
"دعسة ناقصة"
اقترف العرب خطأً قاتلاً بمنحهم الثقة لمشروع القرار الأميركي إلى مجلس الأمن، وهو المشروع المفخّخ بألغام كثيرة، ليس أخطرها بسط الوصاية الدولية على غزّة، وفصل مستقبلها عن مستقبل الضفة الغربية، ومصادرة حقّ الفلسطينيين في المقاومة وحكم أنفسهم بأنفسهم، وفوّتوا على أنفسهم فرصة توظيف الموقفين الروسي والصيني، أقلّه لاستدخال تعديلات ضرورية على نصّ القرار الأصلي.
في ظنّي أنهم أخطأوا الحساب مرة ثانية... لقد راهنوا على الثقل الوازن لواشنطن في دفع مسار التهدئة ووقف الحرب، وآثروا تحت الضغط والابتزاز بعودة الحرب واستئناف الإبادة، ترجيح الموقف الأميركي الملتبس على الموقفين الروسي والصيني الواضحين في نصرتهما للحقّ الفلسطيني والعربي، على اعتبار أن لا موسكو ولا بكين، لديهما القدرة للضغط على "إسرائيل" والتأثير في مجريات الميدان، وأنّ واشنطن وحدها، من تتمتّع بهذا الترف.
وأحسب أن لا حكومة واحدة، عربية أم إسلامية، من تلك التي أيّدت مشروع القرار الأميركي، كان لديها يقين من أيّ نوع، بأنّ الإشارات الغامضة حول مسار (قد) يفضي إلى الدولة وتقرير المصير، تمثّل التزاماً أميركياً بالدولة الفلسطينية أو "حلّ الدولتين"، الدولة لم تقم، و"حلّ الدولتين" لم يرَ النور، حتى في عهود أميركية، كانت أكثر وضوحاً وحماسة في دعمها لهذا الخيار، وليس ثمّة ما يشي بأنّ هذه الإدارة ستعود إلى ما انتهت إليه إدارات كلينتون، جورج بوش الابن، أوباما، وبايدن، في النظر إلى هذه المسألة... لقد استحدث ترامب استدارة في المقاربة الأميركية، وأجرى "Paradigm Shift" في مجمل السياسة الأميركية حيال الصراع الفلسطيني (العربي) الإسرائيلي، وهو يبدو سائراً في ولايته الثانية، على ما ذهب إليه في ولايته الأولى.
لقد فعلوا ذلك ظنّاً منهم، أنّ "النفخ في قربة" ترامب، يمكن أن يوقف الحرب والإبادة ومخطط الضمّ والتهجير، ولن يشفع لهم ترددهم في الانخراط في الآليات التنفيذية لترجمة القرار في شقّه العسكري-الأمني، ما قارفوه من خطأ تبديد لحظة مواتية في مجلس الأمن، كان يمكن استغلالها لتحسين شروط القرار المذكور، استعاضوا عنه، أو هكذا تقول تقديرات وتقارير، بإبقاء الباب مفتوحاً لتفاهمات لاحقة، حين يدخل القرار حيّز التنفيذ، وربما من غير المناسب، من ناحيتنا، إغلاق الباب في وجه احتمالات وجود تفاهمات "تحت الطاولة"، يوحي بها "الخط المفتوح"، وإن بصعوبة، بين حماس والبيت الأبيض.
ما عُدّ في الحالة العربية والإسلامية، خطأ فادحاً، أو "دعسة ناقصة" في أحسن تقدير، يمكن النظر إليه في الحالة الفلسطينية بوصفه "خطيئة"، فالسلطة التي انضمّت للركب العربي-الإسلامي، ركب مجموعة الثمانية، ومنحت القرار مباركتها، هي ذاتها السلطة التي أخرجها القرار من "ولايته"، وأدخلها في مسار إصلاحي مشروط، طويل الأمد، ينتهي بانصياعها لـ" دفتر الشروط" الأميركية-الإسرائيلية، وقبولها بمخرجات الحلّ الأميركي-الإسرائيلي... سلطة تضرب عرض الحائط، للمرة الأولى، بمواقف أصدقاء الشعب الفلسطيني، وتصادق على مشروع قرار، لم يرَ فيه أحدٌ غيرها من الفلسطينيين، تلك البشائر والوعود بالسلام والاستقرار والدولة وتقرير المصير.
لقد ارتضت السلطة أن يكون دورها، غطاء وشمّاعة... غطاء لكلّ من يريد تسهيل مهمّته في التقرّب من واشنطن وكسب رضى زعيمها النزق، المتقلّب، وشمّاعة، يُعلّق عليها كلّ من يريد التنصّل من التزاماته القومية والأخلاقية والسياسية في التصدّي الحازم لمشاريع "الانتداب الأميركي" المفروضة بالقوة الإسرائيلية الغاشمة، فمن من هؤلاء، يريد أن يكون ملكياً أكثر من الملك، أو كاثوليكياً أكثر من البابا نفسه.
ماذا بعد؟
"إسرائيل" التي ضمن لها القرار الكثير من مصالحها وأهدافها، تخشى "التدويل"، وهي التي لطالما عارضته تاريخياً، ولا تريد ليدها الطليقة في القطاع، إن تُقيّد بأيّ شكل من الأشكال، وهي غير مطمئنة لقنوات التواصل بين واشنطن وحماس، وتشعر أنها في سباق مع الزمن، للانقضاض على اتفاق التهدئة ووقف النار، وتصعيدها الأخير، ليس منفصلاً عن مخاوفها تلك، وخشيتها من أن يذهب القرار وهو في طريقه للترجمة، باتجاهات ومسارات أخرى.
والمقاومة يمكنها أن تستفيد من حالة التردّد عن المشاركة في القوة الدولية، التي تصبغ مواقف أطراف عربية وإسلامية عديدة، وخشيتها من تداعيات الصدام مع المقاومين الفلسطينيين، فتظهر أمام شعوبها بصورة "المُتمّم" لحرب التطهير والإبادة، سيما في تلك الدول التي تتوفّر على "رأي عامّ" نشط، ومجتمعات أظهرت دعماً وتضامناً مع غزة وأهلها ومقاومتها.
والمقاومة يمكنها الرهان على الإجماع الشعبي الفلسطيني الرافض لمضامين القرار الدولي، حتى وإن شذّت السلطة و"الممثّل الوحيد" عن هذا الإجماع، فقد دلّلت استطلاعات الرأي العامّ، أنها سلطة معزولة، وأنّ المطالبين باستقالتها والتخفّف من أعبائها، لا يقلّون عن ثلاثة أرباع الشعب الفلسطيني.
ولن ننجرّ في هذا المقام، لدعوات استئناف الحوار واستعادة المصالحة، التي يرى فيها بعضنا شرط وجود، وممراً إجبارياً لإسقاط مرامي المشروع الأميركي، فالسلطة أسقطت هذا الخيار، والفجوة بينها وبين شعبها ومقاومته، في اتساع متزايد، والاستمرار في اجترار الرهانات الخائبة، أو تجريب المجرّب، لم يعد خياراً أمام الشعب الفلسطيني، الذي لا يمتلك ترف تبديد المزيد من الوقت والجهد، في مطاردة خيوط الدخان.