المشاريع الإسرائيلية تتهاوى في قطاع غزة. ماذا عن المشروع الجديد!

معظم الهجمات التي تشنها "إسرائيل" تستهدف المدنيين العزّل، الذين لا يملكون من أدوات المواجهة سوى صدروهم العارية، وخيامهم البالية التي يتنقّلون بها هرباً من صواريخ الاحتلال.

  • مخطّطات ومشاريع الاحتلال الحالية والمقبلة لن تجد لها طريقاً للنجاح.
    مخطّطات ومشاريع الاحتلال الحالية والمقبلة لن تجد لها طريقاً للنجاح.

بات واضحاً للجميع أنّ الحرب الإجرامية التي يشنّها العدو الصهيوني على قطاع غزة، منذ أكثر من واحد عشرين شهراً، تتجاوز في أهدافها الاستراتيجية ما هو مُعلن، إذ يسعى العدو من ورائها كما تكشف الكثير من التطوّرات إلى إحداث تغيير عميق وغير مسبوق في بيئة وجغرافيا القطاع الصغير، وصولاً إلى تحويله إلى منطقة غير صالحة للسكن، قد تدفع سكّانه في مرحلة لاحقة إلى مغادرته سواء بسبب سوء أوضاعه المعيشية والحياتية، أو بفعل ما يتعرّضون له من قتل وإبادة جماعية تحت سمع وبصر العالم الظالم، والذي يكتفي حكّامه بالشجب والإدانات الخجولة، فيما تبقى شعوبه في موقع المتفرّج الذي لا يملك سوى إبداء بعض التعاطف والتضامن الذي لا يخلو من التصنّع في كثير من الأحيان.

استخدمت "إسرائيل" ومعها شركاؤها الغربيون والإقليميون من أجل الوصول إلى هدفها المُشار إليه أعلاه العديد من الوسائل والأدوات، وأقرّت العديد من الخطط والمشاريع من أجل الوصول إلى مُرادها بأقصر الطرق الممكنة، حيث لجأت إلى استخدام القوة العسكرية المفرطة، والتي لا تتناسب على الإطلاق مع ما يجري من عمليات قتالية مختلفة، إذ إنّ ما تستخدمه من قدرات وإمكانيات عسكرية في عدوانها البشع ضدّ المدنيين الفلسطينيين، أو حتى في مواجهة قوى المقاومة في غزة غير مخصّص لمثل هذا النوع من المواجهات، والتي لا تجري بين جيشين متناظرين أو متكافئين، بل لا يوجد أيّ وجه للمقارنة بين قدرات الجانبين. 

هذا في حال اعتبرنا أنّ ما تقوم به قوات الاحتلال في غزة هو هجوم على فصائل مقاومة مسلحة، غير أنّ معظم الهجمات التي يشنّها "الجيش" الإسرائيلي تستهدف في الأساس المدنيين العزّل، الذين لا يملكون من أدوات المواجهة سوى صدروهم العارية، وخيامهم البالية التي يتنقّلون بها بين المناطق المختلفة هرباً من صواريخ الاحتلال، في ظلّ ظروف إنسانية أقلّ ما يُمكن أن يُقال عنها بأنها كارثية وغير مسبوقة.

إلى جانب القوة العسكرية، لجأت "إسرائيل" إلى اعتماد خطط ومشاريع مختلفة، بدت بالنسبة لبعض المخدوعين في لحظة ما بأنها ذات طابع إنساني، وأنّ الهدف منها هو الحفاظ على حياة المدنيين الفلسطينيين، وتوفير جزء من احتياجاتهم الضرورية، غير أنّ ما تكشّف لاحقاً أظهر هذه المشاريع على حقيقتها، وأنها جزء من الحرب الشاملة التي تُشنّ على سكان القطاع، وتُستخدم فيها مروحة واسعة ومتعدّدة من الإمكانيات والأدوات.

أولاً/ المناطق الآمنة:

على رأس تلك المشاريع كان ما سُمّي زوراً وكذباً بـ "المناطق الآمنة"، والتي كان الهدف منها تهجير سكّان شمال القطاع تحديداً، وتحويله إلى منطقة عازلة تمهيداً لعودة المستعمرات الإسرائيلية إليه.

في تلك الفترة طلب العدو من أكثر من مليون وربع مليون من سكّان مدينة غزة وشمالها التوجّه جنوباً بحجّة الحفاظ على حياتهم، مستغلّاً حاجتهم إلى تأمين عوائلهم من عمليات القصف الجنونية التي كان يقوم بها، إلى جانب سعيهم للحصول على جزء من مستلزماتهم المعيشية التي تمّ حرمان شمال القطاع منها آنذاك، وقد ساعده في ذلك العديد من المؤسسات الإغاثية العالمية، والتي طلبت بدورها من موظّفيها مغادرة أماكن عملهم في منطقة الشمال، ونقل كلّ نشاطاتهم إلى محافظتَي الوسط والجنوب.

هذه الخطة الخطيرة نجحت في ذلك الوقت بشكل جزئي، إذ أصرّ أكثر من سبعمئة ألف مواطن على البقاء في مناطق سكناهم، وفضّلوا النزوح الداخلي من الأماكن الخطرة إلى مناطق مجاورة داخل شمال القطاع، حيث تحمّلوا حينها أهوال الجوع والخوف والقتل، بالإضافة إلى الحملات النفسية التي شنّها الاحتلال عليهم لدفعهم إلى المغادرة والرحيل غير أنه فشل، ما اضطره لاحقاً إلى السماح بعودة من خرج بعد التوصّل إلى اتفاق التهدئة السابق.

ثانياً/ الميناء العائم:

كان لافتاً لجوء "دولة" الاحتلال، وبمساعدة ودعم مباشرين من الولايات المتحدة الأميركية إلى تنفيذ هذا المشروع، والذي تمّ التسويق له حينها بأنه يهدف إلى نقل المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة عن طريق البحر، بعد تعذّر نقلها من خلال المعابر البريّة التي أغلق الاحتلال معظمها، إلّا أنّ حقيقة الأمر كانت تشير إلى أهداف أخرى من وراء هذا المشروع الغامض، اتّضح جزء منها بعد عملية استعادة أربعة أسرى صهاينة من قلب مخيم النصيرات وسط قطاع غزة ، والتي كشفت الكثير من التحقيقات أنّ الميناء والقوات الأميركية الموجودة فيه كان لهما تأثير مباشر على نجاح تلك العملية.

هذا المشروع الذي أثار الكثير من المخاوف عن إمكانية انخراط قوات أميركية عسكرية بشكل مباشر في المواجهة داخل أراضي القطاع، والتي أشارت العديد من المصادر إلى أنها وقعت فعلاً في بعض المناطق وإن بشكل ضيّق، سقط وانهار بعد أن تمّ الكشف عن الهدف الحقيقي من ورائه، والذي فضحته وسائل إعلام أميركية، وهو هدف أمني بامتياز، وتمّ تفكيك الميناء بعد إنشائه بعدّة أشهر، تاركاً وراءه إخفاقاً جديداً للمشاريع الإسرائيلية والأميركية في قطاع غزة.

ثالثاً/ "الصحوات" والعشائر:

بعد إخفاقها في كسر شوكة المقاومة في غزة، ودفع حاضنتها الشعبية للانفضاض عنها، لجأت "إسرائيل" إلى محاولة إيجاد جهات فلسطينية جديدة تقوم بإدارة أمور القطاع، على غرار ما سُمّي بـ "الصحوات" في العراق بعد الاحتلال الأميركي، أو ما جرى من تشكيل ميلشيات وعصابات بقيادة سعد حدّاد وأنطوان لحد في جنوب لبنان في ثمانينيات القرن الماضي.

تواصلت "إسرائيل" مع الكثير من العوائل والوجهاء في غزة، محاولة تشكيل جسم سياسي جديد يقوم محل لجنة إدارة غزة السابقة، بحجّة تسهيل أوضاع الناس، وتنظيم حياتهم في ظل حالة الفراغ التي أنتجتها الحرب، على أن يتولّى هذا الجسم لاحقاً إدارة غزة سياسياً واجتماعياً بعد انتهاء الحرب، ولكن تحت متابعة وإشراف من "دولة" الاحتلال، في استنساخ لتجربة "الإدارة المدنيّة" التي كان معمولاً بها في قطاع غزة قبل الانسحاب منه في العام 2005.

هذا المشروع لم يُكتب له النجاح أيضاً، بعد الموقف الوطني والتاريخي للعوائل والوجهاء، والذين رفضوا بشكل قاطع التساوق مع مخططات الاحتلال، وأعلنوا على الملأ بأنّ الشعب الفلسطيني هو من يقرّر شكل الإدارة المقبلة في غزة، وأنه وحده فقط من يملك اختيار تلك الإدارة.     

رابعاً/ نقاط توزيع المساعدات:

من جديد عادت الولايات المتحدة الأميركية للمشاركة في مشاريع الاحتلال العدوانية ضد سكّان القطاع، وكما كان الحال في مشروع إقامة الميناء العائم، حمل المشروع الجديد المتمثّل في إنشاء نقاط لتوزيع المساعدات الإغاثية المبررات الإنسانية المعتادة نفسها، إذ تمّ الإعلان أنّ هذه النقاط المُقامة بالقرب من مواقع انتشار "جيش" الاحتلال، والتي تُديرها قوات شبه عسكرية أميركية، إضافة إلى مرتزقة من دول مختلفة ستقوم بتوزيع المساعدات الإنسانية على المواطنين بعيداً عن سيطرة حركة "حماس"، والتي بحسب الادّعاء الإسرائيلي والأميركي تقوم بنهب المساعدات، وبيعها في الأسواق لتغطية نفقاتها المختلفة، وهو الأمر الذي نفته المؤسسات الدولية العاملة في الحقل الإنساني.

بعد عدّة أشهر من إقامة هذه النقاط تبيّن أنها تهدف لتحقيق أهداف بعيدة تماماً عمّا أُعلن عنه، وأنها عبارة عن مصائد للموت لقتل أكبر عدد من الفلسطينيين الجائعين، إذ يسقط يومياً عشرات الشهداء على أعتابها، إضافة إلى قيامها بدور أمني واستخباري كما كشفت الكثير من الأحداث، والتي ما زال معظمها مجهولاً، وما عمليات اختفاء الكثير ممن يذهبون إلى تلك المناطق إلا دليل واضح على أنّ دورها الحقيقي يتخطّى بمراحل ما هو مُعلن عنه.

في الأسبوعين الأخيرين، وبعد ارتفاع منسوب الانتقادات الدولية لهذه النقاط، بسبب ما نتج عنها من ضحايا أبرياء قامت الجهات المشغّلة لها بإغلاق بعضها، ويبدو أنّ الجزء المتبقّي في طريقه للإغلاق أيضاً خصوصاً إذا ما تمّ تنفيذ الاتفاق الموقّع بين الاتحاد الأوروبي و"دولة" الاحتلال، والمتعلّق بإدخال المساعدات الإنسانية بالطريقة القديمة، والتي تُشرف عليها المؤسسات الدولية المعتمدة مثل وكالة الغوث، وبرنامج الأغذية العالمي.  

أخيراً/ المدينة الإنسانية في رفح:

أحدث المشاريع "الإسرائيلية" هو السعي لإنشاء ما يسمّى بـ "المدينة الإنسانية" على أنقاض "خرائب" رفح كما أطلق عليها وزير الحرب الصهيوني "يسرائيل كاتس"، والتي يُراد لها أن تحوي أكثر من ستمئة ألف مواطن فلسطيني من سكّان جنوب القطاع تحديداً، من الذين دُمّرت منازلهم، وباتوا بلا مأوى في مواصي مدينة خان يونس التي تتعرّض هي الأخرى لحملة ممنهجة من التدمير والتخريب.

بحسب الإعلان الإسرائيلي ستكون هذه المدينة نموذجاً لمدن أخرى قد تُقام لاحقاً غرب مدينة غزة، وغرب المنطقة الوسطى، في إطار خطّة "الجزر الثلاث"، والتي تسعى "دولة" الاحتلال من ورائها إلى تكديس كلّ سكّان القطاع في المناطق الغربية منه، وتحويل مناطقه الشرقية على عمق يتراوح من ثلاثة إلى تسعة كيلومترات في المناطق العريضة مثل خان يونس إلى مناطق عازلة، وهو ما يضمن لها سيطرة عملياتية ومطلقة على أكثر من 75% من مساحة القطاع.

هذا المشروع الذي سيتمّ التصويت عليه في الحكومة الإسرائيلية، والذي شهد جدالات وخلافات بين المستويين السياسي والعسكري، سيكون مقدّمة كما تشير المعلومات المتداولة إلى تنفيذ سياسة "الهجرة الطوعية" في وقت لاحق، إذ يعتقد الإسرائيليون أنّ سكّان هذه "المدينة" لن يُطيلوا البقاء فيها بسبب الأوضاع المعيشية التي لن تكون سهلة أو مريحة، وأنهم سيفضّلون في حال قُدّمت لهم تسهيلات للمغادرة إلى بلدان أخرى الخروج منها، وهو ما سيشكّل نجاحاً استثنائياً لخطة "إسرائيل" طويلة المدى الهادفة إلى إفراغ القطاع الغزّي من جزء كبير من سكّانه.

على كلّ حال، وقياساً على فشل المشاريع "الإسرائيلية" السابقة، والتي تحاول الوصول جميعها إلى الهدف نفسه، فإنه من المُتوقّع لهذا المشروع الجديد أن يفشل أيضاً، وأن يلاقي المصير نفسه الذي لقيه سابقوه، خصوصاً إذا ما عرفنا أنّ قضية ارتباط الفلسطينيين بأرضهم ليست مرتبطة بالأساس بأوضاعهم الإنسانية والمعيشية على أهميتها، وإنما بعقيدتهم التي يقوم جزء مهم منها على الإيمان بحقّهم في الحياة على أرضهم التي حموها طوال سنوات خلت بدمائهم وأشلائهم، وأنّ هذه الأرض التي يريد الاحتلال طردهم منها هي من حقّهم وحقّ أبنائهم من خلفهم، وأنّ الدفاع عنها، والتمسّك بها فرض عين لا يجوز بأيّ حال من الأحوال التخلّي عنه أو التفريط به.

نحن نعتقد كما يعتقد الكثيرون أنّ مخطّطات ومشاريع الاحتلال الحالية والمقبلة، والتي تهاوت وسقطت بفعل صمود وثبات شعبنا البطل في غزة، كما هو الحال في جنين وطولكرم ونابلس، لن تجد لها طريقاً للنجاح مهما كانت الظروف، ومهما بلغت التعقيدات، وستبوء كلّ تلك المشاريع بالفشل، وستلقى المصير نفسه عاجلاً أو آجلاً، فهذا الشعب اتخذ قراره ولن يتراجع عنه، قراراً يُعلنه كلّ صباح وكلّ مساء، ممهوراً بدماء شبابه ورجاله ونسائه، قراراً يُعلن فيه لكلّ العالم أنه لن يتنازل عن حقوقه، ولن يغادر أرضه، مهما كانت المعوّقات، ومهما ازدادت التضحيات.