"أبو عبيدة"… ليس حالة فلسطينية استثنائية

أبو عبيدة كان حريصاً منذ ظهوره قبل سنوات عديدة على إخفاء وجهه بالكوفية العربية، التي جعلته يتحول إلى "أسطورة بصرية" أكثر من كونه مجرد شخص عادي.

0:00
  • "أبو عبيدة" يمثل صورة المقاوم والمقاتل من أجل حرية شعبه.

ما إن تصدر الحديث الإسرائيلي عن اغتيال "أبو عبيدة"، الناطق العسكري باسم كتائب عز الدين القسام، نشرات الأخبار في عدد كبير من وسائل الإعلام العربية والأجنبية، حتى كانت صورته تجتاح حسابات آلاف الناشطين في شبكات التواصل الاجتماعي، ممتزجة بعبارات الإشادة والإعجاب بشخصيته المقاومة وتحديه للاحتلال الإسرائيلي، ليس فقط أثناء العدوان الحالي المستمر منذ السابع من أكتوبر عام 2023، إنما في جميع الاعتداءات السابقة الممتدة على أكثر من عقدين من الزمن.

وبغض النظر عن مدى مصداقية الإعلان الإسرائيلي من عدمه، فإن رد الفعل الشعبي أظهر أن المقاومة في قطاع غزة لا تزال تحظى بدعم واسع في الشارع العربي رغم حملات التشويه والتضليل التي شنتها وسائل إعلام مختلفة، بعضها للأسف عربية، ضد فصائل المقاومة، تارة عبر تحميلها المسؤولية عما تعرض له القطاع من إبادة إسرائيلية ممنهجة وتدمير شبه كامل لمحافظات القطاع ومدنه ومناطقه، وكأن إسرائيل ليست هي المحتلة والرافضة لتطبيق القرارات الدولية وإحلال السلام العادل في المنطقة، وتارة أخرى عبر فتح الهواء لمسؤولين وباحثين إسرائيليين ليطلوا على المشاهد العربي ويبرروا له قتل آلاف الأطفال والنساء، وتجويع مليوني مدني في القطاع المحاصر، وتشويه الحقائق وقلبها، بما يثير الشكوك في الأحداث الجارية. والمثال على ذلك ما جرى ترويجه عن تعرض الإسرائيليات خلال تنفيذ عملية طوفان الأقصى لاعتداءات جنسية وقيام المقاومين بقتل أطفال وغير ذلك.

أسباب سياسية ونفسية

لا شك في أن الحضور الإعلامي الناجح لـ "أبو عبيدة" من حيث حديثه المضبوط، ولغته الفصيحة، وثقته بالنصر، ووعده بالصمود والمقاومة، شكل سبباً أساسياً في تنامي شعبية الرجل لمرحلة بات ظهوره حدثاً يعلن عنه قبل حدوثه بساعات، وموعداً لسماع أخبار جديدة عن بطولات المقاومين، لكن في المقابل لا يمكن تجاهل أسباب أخرى أدت هي الأخرى دوراً لا يقل أهمية عن الظهور الإعلامي، وهي أسباب تتوزع بين السياسي منها، والنفسي، والاجتماعي.

في الجانب السياسي، بات "أبو عبيدة" يمثل في أذهان ملايين العرب والداعمين لنضال الشعب الفلسطيني صورة المقاوم والمقاتل من أجل حرية شعبه وصون حقوقه، في وقت تشهد الساحة الفلسطينية انقسامات رسمية وسياسية جعلتها عاجزة عن فعل أي شيء لوقف عملية الإبادة الجماعية التي ترتكب اليوم بحق مليوني فلسطيني أعزل في القطاع. كما أن تلك الانقسامات أسهمت في غياب شخصيات وزعامات سياسية فلسطينية جامعة للموقف الشعبي والوطني، فجاء "أبو عبيدة" ليملأ فراغاً سياسياً ونفسياً لدى الجمهور الفلسطيني والعربي، ورمزاً يوحدهم خلف شرعية المقاومة ووجودها.

في الجانب النفسي والاجتماعي، هناك عدة نقاط يمكن الإشارة إليها في سياق عملية تحليل سر شعبية الناطق باسم كتائب القسام. ولعل أهمها حالة الغموض التي تكتنف شخصية "أبو عبيدة"، الذي كان حريصاً منذ ظهوره قبل سنوات عديدة على إخفاء وجهه بالكوفية العربية، التي جعلته يتحول إلى "أسطورة بصرية" أكثر من كونه مجرد شخص عادي، فالغموض هنا يغذي الخيال الشعبي ويمنحه هالة "المجهول المهاب". كما أن الخطاب العاطفي، الذي تجسد باستخدام "أبو عبيدة" لغة تجمع بين البعد الديني (آيات وأحاديث) والبعد الوطني (حديثه عن المسجد الأقصى، وحتمية تحرير الأرض المحتلة، والكرامة)، أتاح له مخاطبة مستويات مختلفة من وجدان الجمهور العربي والإسلامي على اختلاف فئاته العمرية ومستوياته الثقافية.

ومن الطبيعي في زمن كثرت فيه الهزائم والانكسارات العربية، وسادت فيه روح الهزيمة والعجز والخيانة، أن يصبح "أبو عبيدة" الواثق في كل خطاب يلقيه بحتمية النصر كصورة ذلك الطفل الذي كان يمسك بيديه حجراً ويقف في مواجهة دبابة إسرائيلية مجسداً بذلك ثقافة البطولة الفلسطينية في زمن الهزائم. كذلك، يظهر أبو عبيدة كصوت لـ"الثبات" و"التحدي"، فيرتبط اسمه بالكرامة المفقودة والأمل الذي لا يزول، وهو ما يعزز شعبيته عبر آلية التعويض النفسي.

قصص كثيرة

هذه الأسباب وغيرها تكاد تجتمع عند آلاف المقاومين في القطاع، من مدنيين وعسكريين، أي أن هناك الآلاف من شخصية "أبو عبيدة"، لكن للأسف لا يروي أحد أو يعرض قصص وحكايات هؤلاء على الرأي العام العربي والعالمي، إلا ما ندر أو ما تمكنت بعض وسائل الإعلام من سردها. وليس مبالغة القول: إن كل عائلة فلسطينية في غزة لديها حكاية صمود يمكن أن تروى، وكل صحافي يقوم بواجبه المهني تحت القصف والنيران هو وجه آخر من وجوه "أبو عبيدة"، وكل طبيب وممرض لا يزال متمسكاً بعمله هو إحدى الشخصيات الوطنية الجامعة، وغير ذلك، فهل هناك من ينكر صمود وشجاعة مدير مجمع الشفاء الطبي، وصورة ذلك البطل صاحب المعطف الأنيق الذي كان يصطاد مركبات الاحتلال، أو ذلك الحافي الذي يحمل بين ذراعيه العبوات الناسفة ليضعها على دبابات الاحتلال، وكذلك مئات الصحافيين الذين ما برحوا أماكن القصف والاستهداف وغيرهم الكثير؟

ربما واحدة من المهام الأساسية التي تنتظر مراكز التوثيق والذاكرة الوطنية الفلسطينية والعربية على حد سواء هي توثيق وسرد سير كثير من المقاومين الفلسطينيين، وتعريف الأجيال الحالية والقادمة بعظمة بطولات هؤلاء في زمن خنعت فيه أنظمة كاملة، وحيدت جيوش جرارة، وعجزت حكومات غنية عن إرسال شاحنة غذاء واحدة إلى قطاع محاصر. مثل هذا التوثيق الفردي والشخصي والأسري مهم لناحيتين: 

الأولى حماية الذاكرة الوطنية الفلسطينية من العبث ومحاولات التشويه المقصودة وغير المقصودة، فضلاً عن توثيق مراحل النضال الفلسطيني الطويل بكل موضوعية وإنصاف. والناحية الثانية تتمثل في كون مثل هذا التوثيق يمثل أحد أشكال مواجهة الثقافة الصهيونية-الأميركية القائمة على تجريد ضحايا المجزرة الصهيونية المستمرة منذ العام 1948 من أسمائهم وسيرتهم، والتعامل معهم كأرقام مجردة يسهل القفز بينها، فلا فرق إن استشهد في اليوم 200 أو 300 مدني فلسطيني، ولا فرق إن تأخر وقف إطلاق النار وزاد عدد الشهداء من 64 ألفاً إلى 65 ألفاً أو أكثر.