خطاب بحجم أمة

الأمة تظهر ضعيفة، مفككة، لا رأي لها، تقتات الذل، وتبحث عن حفنة أمن بينما يتغطرس الاحتلال، يبطش يمينًا وشمالًا، لا يهاب الجيوش العربية أو سلاحها، مستندًا بذلك إلى اللوبيات الضاغطة داخل الكونغرس.

0:00
  • لم يكن خطاب الرئيس الكولومبي بيترو غوستافو عاديًا أو عابرًا بالنسبة إلى الفلسطينيين.
    لم يكن خطاب الرئيس الكولومبي بيترو غوستافو عاديًا أو عابرًا بالنسبة إلى الفلسطينيين.

لم يكن خطاب الرئيس الكولومبي بيترو غوستافو عاديًا أو عابرًا بالنسبة إلى الفلسطينيين الذين شعروا بالخيبة من زعماء الأمتين العربية والإسلامية، إذ قال بلا مواربة: "أن نبقى ننتظر خطابات، هذا غير ممكن، الآن هو وقت العمل، وأؤكد وسأدعو إلى ذلك في كولومبيا أنني سأبدأ تسجيل المتطوعين من الكولومبيات والكولومبيين لتحرير فلسطين، وإن سئلت، فلن أتأخر أن أكون بينهم".

الأمر الذي يظهر الجانب الأخلاقي لكثير من بلدان العالم تجاه فلسطين بعد عملية "طوفان الأقصى"، التي شرعت في إظهار التمايز الحقيقي بين الأحرار والعبيد.

في المقابل، كانت كلمات زعماء المنطقة العربية، بمعظمهم إن لم نقل جميعهم، بما في ذلك دولة قطر التي تم الاعتداء عليها مؤخرًا، مليئة بالخنوع والتوسل، بدبلوماسية لا تتناسب مع غطرسة القوى الاستعمارية، بدلًا من أن تكون لغة تهديد ووعيد، تدعو إلى حشد جيوش وشبان هذه الأمة للدفاع عن فلسطين وعن بقية البلدان العربية التي تُنتهك من دون أي رادع، بخلاف ما فعله الرئيس بيترو الذي أعلنت الولايات المتحدة الأميركية لاحقًا أنه شخص غير مرغوب فيه على أراضيها، وسيتم سحب الفيزا منه ومن الوفد المرافق له.

علمًا أن البلدان العربية لديها عوامل قوة وضغط هائلة، يمكن استخدامها لوقف الحرب والإبادة، بل وأكثر من ذلك بتحقيق مبدأ حل الدولتين، لكنها تعمد إلى تعطيلها، بدءًا من إيقاف تصدير النفط، وليس انتهاء بمنع حركة الطيران المدني الإسرائيلي فوق الأراضي العربية، والتي ستعمل على خسارة الاحتلال لأكثر من 5% من الاقتصاد المحلي حسب أحد مراكز البحث الخليجية. 

في المقابل، وفي الوقت الذي تجري فيه إبادة غزة بكل أنواع الأسلحة الثقيلة من البر والبحر والسماء، وبينما يموت مئات الآلاف من سكان القطاع، يظهر السلوك الرسمي العربي المريب أمام صمت الشعوب المنشغلة بمتطلبات الحياة اليومية، إذ لا يمكن غض الطرف عن بقاء مندوبي بعض البلدان العربية في قاعة مقر الأمم المتحدة برفقة بعض البلدان الصغيرة الموالية للإمبريالية العالمية، كي تستمع لخطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي الفاشل -حسب رأي الصحافة العبرية- الأمر الذي يعني شذوذ هذه الدول في موقفها عن الدول العربية الأخرى، في الوقت الذي تظهر فيه تلك الدول عداءها لفصائل المقاومة ضد الاحتلال في كل مكان. 

وأمام هذا الخطاب، تعود الذاكرة بالفلسطيني إلى الوراء قليلًا، كيف سمحت إحدى دول الطوق للبوارج الحربية الإسرائيلية التي تحمل السلاح وترفع العلم الإسرائيلي بالمرور عبر قناة بحرية هامة خلال حرب الإبادة، ويتبجح وزير خارجيتها بأن هذا الممر المائي ممر دولي، ولا يمكن منع مرور أي سفينة، الأمر الذي يتناقض مع موقف اليمن العظيم من منع حركة السفن المتوجهة نحو "دولة" الاحتلال، ويتعارض مع عمّال ميناء جنوى في إيطاليا الذين انتفضوا قبل أيام عدة لمنع سفينة تحمل أسلحة إلى "دولة" الاحتلال، الأمر الذي يظهر تواطؤًا ضد فلسطين، أو خنوعًا غير مسبوق لأنظمة جاءت إلى السلطة بانقلابات ودماء. 

كذلك لا يمكن التغافل عن خوف الحكومة الإسرائيلية المتطرفة من المرور فوق الأراضي الأوروبية من جهة الجنوب، خوفًا من الاعتقال والملاحقة القضائية لنتنياهو وغيره من أعضاء الحكومة بعد استصدار قرار باعتقالهما من محكمة الجنايات الدولية، في الوقت الذي تغرد فيه طائرات الاحتلال فوق سمائنا العربية بكل حرية، ما يظهر حالة الهوان والخذلان، إذ إن السماء العربية مباحة للاحتلال حتى تلك التي تتوجّه لضرب الدول الأخرى كالجمهورية الإيرانية وقطر، بينما من غير المسموح مرور الطائرات الانتحارية اليمنية أو الإيرانية المتجهة نحو "دولة" الاحتلال، لإعادة التوازن وقوة الردع في المنطقة التي تتغوّل فيها "دولة" الاحتلال على الجميع، الأمر الذي يتطلب إعادة تعريف كل شيء من مفهوم القومية والعروبة إلى مفهوم الإنسانية بالنسبة إلى هذه الأمة الغارقة في التخبط والتيه. 

وبالعودة إلى خطابات الأمم المتحدة، حيث حاول الجميع المساواة بين الجلاد والضحية، بين الاحتلال والشعب الذي يعيش ويلات الحروب منذ عقود، بين "دولة" مارقة قامت على أشلاء ودماء أجدادنا الفلسطينيين وبين فصائل المقاومة التي حاولت إعادة الاعتبار إلى القضية الفلسطينية التي أوشكت على الذوبان مع حركة التطبيع العربي غير المسبوق، في تحميل الضحية جزءاً كبيراً من الإثم، بدلًا من الانتصار للدم الفلسطيني ومقاومته الطاهرة، مستذكرًا قصيدة الشاعر العراقي أحمد مطر، الذي تنبأ في قصيدته "الثور والحظيرة" بما سيجري مع الأنظمة العربية إبان معاهدة السلام بين مصر و"إسرائيل" واستشرافه لما ستؤول إليه الظروف من هرولة البلدان العربية لاحقًا نحو الكيان قوله: "الثور فر من حظيرة القر/ الثور فر" ويقصد بالسادات الذي فر من حظيرة الجامعة العربية، مستهزئًا بالجميع حين يختم تلك القصيدة: "وفي ختام المؤتمر/ وقعت حادثة مثيرة/ لم يرجع الثور (أي لم يرجع السادات ويتراجع عن اتفاقية السلام)/ ولكن ذهبت وراءه الحظيرة". 

واليوم، تظهر الأمة ضعيفة، مفككة، لا رأي لها، تقتات الذل، وتبحث عن حفنة أمن بينما يتغطرس الاحتلال، يبطش يمينًا وشمالًا، لا يهاب الجيوش العربية أو سلاحها، مستندًا بذلك إلى اللوبيات الضاغطة داخل الكونغرس والبيت الأبيض، بقوة الرأسمالية التي يقودها رئيس أرعن سيهوي بولاياته عما قريب.