مَسَافِر يطا ولا أرض أخرى
وضع فيلم (لا أرض أخرى) الاحتلال أمام صورته الحقيقية في وسط جمهوره الغربي، من دون أدنى مواربة، في وقت سجّلت فيه الهيئات الأممية الرسمية عنف المستوطنين في الضفة كأكبر عدوان إجرامي لعام 2024.
-
اهتزّت أعصاب الكيان الإسرائيلي على وقع الفوز الذي حقّقه فيلم (لا أرض أخرى).
"وجدت نفسي أنام في خيمة لمدة يومين على مسافة بضعة أمتار من كرفانات المستوطنين وجهاً لوجه، يفصل بيننا سلك شائك ممتد كما الأفعى، في مشهد لم أعهده في حياتي" بهذه الكلمات كان الشهيد خضر عدنان يحدّثني بانفعال وحرقة، عن الأيام التي قضاها إلى جوار الشهيد الشيخ السبعيني سليمان الهذالين أيقونة المقاومة الشعبية ضدّ الاستيطان وحارس مسافر يطا.
اهتزّت أعصاب الكيان الإسرائيلي على وقع الفوز الذي حقّقه فيلم (لا أرض أخرى) في مهرجان أوسكار 2025 لأفضل فيلم وثائقي طويل، فيما أثار حالة من الفرح والفخر بين جمهور منصات التواصل الفلسطينية والعربية، وهو إنتاج مشترك بين فلسطين والنرويج، من إخراج رباعي يتكوّن من ثنائي فلسطيني وإسرائيلي من الذين تُعرف عنهم نشاطاتهم الداعمة للقضية الفلسطينية، ويُعدّ بمثابة عمل مقاوم لنقل معاناة الفلسطينيين في مواجهة ممارسات الاحتلال الإسرائيلي، حيث يوثّق التهجير القسري في منطقة مسافر يطا بالضفة الغربية، على مدار 95 دقيقة، مبرزاً ممارسات الهدم والتهجير التي قام بها الاحتلال ضدّ سكان مسافر يطا منذ عام 2019 وحتى عام 2023، ويتناول هذا العمل السينمائي بأسلوب وثائقي تأثير هذه الاعتداءات على حياة السكان اليومية.
بين خضر عدنان الذي قطع المسافات الطويلة من جنين حتى جنوب الخليل، ليخلّد في جوار الهذالين في مواجهة عنف المستوطنين، كان الثنائي الفذّ الذي تحقّق في مقاومة غير مسلحة، فخضر قضى شهيداً وهو مضرب عن الطعام في سجون الاحتلال ضدّ اعتقاله التعسفي، والهذالين استشهد بعد أن صدمته شاحنة عسكرية وهو يقوم بفعّالية ضدّ الاستيطان في هذه المسافر، ومع هذا العمل السينمائي نهض بعض اليهود نحو استعادة الذات الإنسانية، لمشاركة الفلسطيني في الدفاع عن أرضه عبر مقاومة سلمية في دراما سينمائية فضحت جرائم المحتل، وإن كانت جرائمه طفحت وبلغت حدّ السيل، لكنه يفزع عندما يجد الفلسطيني يهزمه في هكذا مجال وهو يفترض أنه سيد الصحافة والإعلام والسينما والمال.
وضع فيلم (لا أرض أخرى) كيان الاحتلال أمام صورته الحقيقية في وسط جمهوره الغربي، من دون أدنى مواربة أو مكياج، في وقت سجّلت فيه الهيئات الأممية الرسمية عنف المستوطنين في الضفة كأكبر عدوان إجرامي لعام 2024، بمعدل 1500 جريمة، بموازاة الجريمة الإسرائيلية/الأميركية الرسمية والعلنية الكبرى بحقّ غزة وأهلها منذ السابع من أكتوبر.
جاء توقيت فوز هذا الفيلم من عام 2025، في وقت تتجه الأنظار نحو الضفة الغربية التي تواجه هجوماً عسكرياً إسرائيلياً هو الأضخم منذ عام 2002، ولعلّه الأخطر منذ عام 1967، خاصة وأنّ هذا الهجوم يأتي ضمن مخطّط صريح لضمّ الضفة الغربية للكيان بشكل رسمي يحظى بتأييد أميركي، وقد استهلّه الكيان بتدمير مخيمات شمال الضفة وخاصة في جنين وطولكرم، وهو ما ضاعف الفزع الإسرائيلي من فوز هذا الفيلم وهو يسلّط الضوء على العدوان الإسرائيلي المستمرّ ضدّ مسافر يطا بهدف ابتلاعها لصالح المستوطنين.
يأتي فوز عمل سينمائي مناهض للاحتلال الإسرائيلي، في وقت ينشغل فيه كثير من الصائمين المسلمين بمتابعة دراما خليجية سعودية عبر مسلسل معاوية بن أبي سفيان، وهو العمل ذاته الذي تمّ منع نشره العام الماضي، لما يتوقّع أن يتسبّب به من جدالات مذهبية بين السنة والشيعة، وبالحقيقة بين غلاة السلفية الوهّابية من جهة وعامّة المسلمين من جهة أخرى، لما يمثّله هذا العمل من إثارة وجع تاريخي ألقى بظلاله المباشرة على فهم الأمة للإسلام.
ففي الوقت الذي ساهم فيه فيلم (لا أرض أخرى) في توحيد جهود المخلصين من كلّ الملل في الدفاع عن أرض فلسطين، يأتي مسلسل معاوية ليساهم في تعميق الانقسامات المذهبية وسط الأمة الإسلامية، فمعاوية امتطى الحكم بعد أن خاض حرباً مستعرة، ضدّ الخليفة الراشدي الرابع أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب كرّم الله وجهه، وابنه يزيد هو من وجّه حملة عسكرية قتلت حفيد رسول الله عليه الصلاة والسلام، الإمام الحسين بن عليّ ومعه آل بيت النبوة عليهم السلام.
فما هي الرسالة التي يمكن لمسلسل معاوية أن يقدّمها وكيف يمكن تكييف هذه الأحداث التاريخية لتجاوز مآسيها؟ والأمة وسط ظرف تاريخي قدّم فيه آلاف الشيعة وقادتهم أرواحهم فداء غزة وشعبها السني المظلوم، وخاصة سيد شهداء الأمة حسن نصر الله رضوان الله عليه، ولم تجد غزة ممن يرعى ويدافع عن هكذا مسلسل مثل الشيخ عثمان الخميس وغلاة الفكر الوهّابي إلا الهجوم على المقاومة في غزة وهي وسط حرب إسرائيلية وحشية ليس لها مثيل في التاريخ.
تتصاعد الأحداث في هذا الظرف التاريخي، وهي تقود البشرية نحو اصطفافات إنسانية، جوهرها الحقّ الفلسطيني والظلم الإسرائيلي، وهنا تستوي المسمّيات والخلفيّات وهي تتلاقى وسط الطريق، فمن يرى نور القدس عبر إشراقة زيوت الأقصى، وهو فتى درزي يخرج من شفا عمرو إلى حيفا ولا يعود في ثالث أيام رمضان ليقضي برصاصات المحتل، فيما يحتفي بعض غلاة الفكر المتوحّش من المنتسبين للإسلام والإسلام براء منهم، بكلّ ما يمزّق جبهة المواجهة ضدّ المحتل الإسرائيلي للقدس، يأتي فيلم (لا أرض أخرى) بمشاركة بعض الشجعان من اليهود ليكرّس هذا الاصطفاف الإنساني حول فلسطين ورمزيّتها في مسافر يطا التي قضى لأجلها سليمان الهذالين عمره المديد، وحفت جنباتها بعبق المثابر خضر عدنان.