موسم زيتون الضفة واعتداءات المستوطنين.. عودة لأصل القضية

جرائم المستوطنين في الضفة الغربية سيف ذو حدّين إسرائيلياً، وهي معركة خاسرة عندما تتعلّق بشجرة الزيتون التي تحتلّ نبض الوريد في عروق الناس العاديين غير المسيسين.

0:00
  • موسم زيتون الضفة واعتداءات المستوطنين.. عودة لأصل القضية
    موسم زيتون الضفة واعتداءات المستوطنين.. عودة لأصل القضية

موسم زيتون مطرّز بصرخات الفلاحين على امتداد الضفة، ففي كلّ قرية يضيئها شعاع أشجار الزيتون، أو حياض مستوطنة يناطح أسوارها زيتونة شاهقة تسابق الشمس، أو مفرق طرق يريده سموتريتش منطقة عازلة لعقيدته الاستيطانية، مواجهات وميادين اعتداء يحاكي فيها المحتل عبر قطعان مستوطنيه، أجواء نزاع حدودي على الأرض، وهم يستخدمون أدوات الفلاحين ويتشبّهون بسواعدهم السمراء.

مشاهد تمثيلية يختلط فيها عدوان "جيش" الاحتلال مع عربدة مستوطنيه المسلحين، ما يعيد الصراع إلى يوم أقيمت مستوطنات جمعية "أحبّاء صهيون" في ملبّس وعيون قاره ورتشيون لتسيون قبيل القرن العشرين، وهم يزحفون بصمت عابر للحدود، كرعايا إنكليز وألمان وروس، يمتهنون فلاحة الأرض وهي تفضح عوراتهم وتلفظ وقع أقدامهم.

مئات الاعتداءات وقعت وما زالت تقع يومياً بحقّ أهالي القرى الفلسطينية المحاذية للمستوطنات، وخاصة منذ بدأ موسم الزيتون في بدايات تشرين الأول/أكتوبر الراهن، على الرغم من أنّ هذا الموسم هو الأقلّ ثماراً منذ سنوات بعيدة، لذا هو لا يشهد زخماً في كلّ الأراضي إلا مع وجود بعض الأشجار المثمرة القليلة في هذه السنة المجدبة، وهو ما يسبّب أجواء حزينة وسط الفلاحين المعدمين وغير المعدمين، ذلك أنّ لموسم الزيتون رمزية خاصة في الثقافة الفلسطينية كما في عادات الأهل وتقاليدهم الراسخة منذ عقود غابرة.

وقد تطوّرت أساليب العناية بالزيتون لما يدرّه من فيض عطائه على الفلاحين، حتى أنهم نجحوا بتجاوز حاجز العام المجدب بين كلّ عامين، عبر تطوير عمليات السقي والتسميد، خاصة وهم يعتاشون عليه كما يصدّرونه للأردن وللداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، وأيضاً عليه طلب متنامٍ في أوروبا التي تستورده بأثمان يعود ريعها لسدّ رمق أطفال الفلاحين وعوائلهم وتكاليف تعليمهم، وهم يقاسون ظروف الاحتلال.

وقد أضيف إليها سنتان من الجدب الاقتصادي بسبب الحرب وتقليص رواتب الموظفين كما منع العمال من الدخول لفلسطين المحتلة عام 1948، ما يتسبّب بأزمات اقتصادية اجتماعية متصاعدة، وقد انعكست على مجمل مناحي الحياة في الضفة على وقع المذبحة والمجاعة في غزة، التي وإن توقّفت فيها كثافة النار والقصف تبقى جراحاتها عميقة في الجسد الفلسطيني المثخن.

وفقاً لبيانات وزارة الزراعة الفلسطينية، تراجع الناتج الإجمالي لموسم الزيتون 2023 بما يتجاوز 67% مقارنةً بالأعوام القليلة الماضية، ويعود هذا الانخفاض الحادّ في معدّل الإنتاج إلى عوامل مركّبة هذا العام 2025، منها القيود الإسرائيلية على وصول المزارعين إلى أراضيهم في المناطق المصنّفة "ب" و"ج" بحسب اتفاقية "أوسلو"، مثل 700 دونم في قرية قريوت، و1900 دونم في قرية ترمسعيا، بينما بقيت الأراضي الواقعة داخل نطاق 56 مستوطنةً أو بالقرب منها مصنّفةً كـ"منطقة عسكرية مغلقة"، ما حرَم آلاف الفلسطينيين من الوصول إلى حقولهم خلال موسم القطاف.

وقد أضيف إلى ذلك تحرّشات المستوطنين المسلحين، حتى أنه تمّ خلال هاتين السنتين اقتلاع وقطع وحرق 31،688 شجرة، بينها 23،061 شجرة زيتون، إضافة إلى تعرّض المحاصيل للمصادرة والسرقة من قبل "جيش" الاحتلال والمستوطنين، في وقت يصعب على الفلسطيني أن يرفع يده في وجه مستوطن لأنه سيقابل بالرصاص أو بالاعتقال والمحاكمة بتهمة محاولة قتل إسرائيلي، ما يعني الزجّ به في السجن سنوات وسنوات.

وعلى الرغم من الميزان المختلّ بين المستوطنين والأهالي الفلسطينيين، بات يضطرّ كثير من الشبان والفتية أن يدافعوا عن ثمارهم وحرية تحرّكهم وهو ما يتسبّب لهم بالضرب والاعتقال وحرق مركباتهم وبيوتهم، والأهمّ مصادرة محصول زيتونهم أو قلع الأشجار بالجرّافات كما يحصل في المغير قرب رام الله، أو حتى جني ثمارهم أمام أعينهم كما حصل في ترمسعيا وكثير من قرى الخليل. 

لا يكاد يمرّ يوم وربما ساعة إلا وتأتي الأخبار بتجدّد اعتداءات المستوطنين المحميين من "جيش" الاحتلال، ففي الأسبوع الأول من تشرين الأول/أكتوبر 2025 وحده، وثّقت الأمم المتحدة أكثر من 70 اعتداء، نصفها تقريباً استهدف قاطفي الزيتون بشكل مباشر، وما يبدو كصدام موسمي هو في الحقيقة آلية منهجيّة لتفريغ القرى الزراعية عبر ضرب مصدر رزقها الأساسي، ذلك أنه منذ مطلع عام 2024، برز نمط جديد من السيطرة يعتمد على توسيع البؤر الرعوية والزراعية بدل المستوطنات الكلاسيكية، خاصة في منطقة أريحا والأغوار، هذا النمط يسمح بالاستيلاء على مساحات أوسع من دون إعلان رسمي، ويمنح المستوطنين غطاءً قانونياً أكبر، وفي مناطق الأغوار الشمالية وجنوب الخليل، يُوظّف الرعي كوسيلة لاختراق الأراضي الفلسطينية ودفع السكان المحليين إلى الرحيل نتيجة التضييق المتكرّر.

يتسبّب تصعيد المستوطنين عدوانهم ضدّ موسم الزيتون الفلسطيني بجملة من الارتدادات العكسية، فهو يؤذي الفلسطيني في عمق تكوينه النفسي والمادي نعم، ولكنه يطلق فضاءً نضالياً مفعماً بالخصوصية يعيد الصراع إلى بعده الأصلي ويفتح الميدان على جملة من الاحتمالات، خاصة بعد تدمير مخيمات شمال الضفة وتهجير أهلها منذ قرابة السنة، وأبرز هذه الاحتمالات:

أولاً: إعادة شحن القيم الكفاحية في دائرة الصراع على الأرض، وهي أصل القضية في ظلّ عمليات السطو والضمّ والمصادرة، وهو صراع على الهوية ضدّ خصم يحاصره في بقية حياته، ما يمكن أن يطلق في الكيان الجمعي الفلسطيني غضباً في جيل بدأ يتشكّل على وقع المذبحة في غزة، ثم هو يشاهد المستوطن يقتلع زيتونه بكلّ وقاحة تستفزّ كرامته ومشاعر العزة في نفسه.

ثانياً: محاولة المستوطنين خوض المواجهة بأدوات الفلاحين البدائية في كثير من المواقع لتبدو أفعالاً شخصية غير رسمية، سيؤدّي من زاوية مختلفة لتنامي شعور الفلسطينيين بإمكانية الردّ وكسر حاجز الخوف، ما يمكن أن يحوّل الردود إلى ظواهر شعبية واسعة تتجاوز الاقتصار على بعض الشبان والفتية.

ثالثاً: المسّ بالأرض والأرزاق وخاصة شجرة الزيتون بما تحمله من رمزية في وعي كبار السن والعامّة من الأهالي، قد يؤدّي إلى موجات من المواجهة غير المحسوبة إسرائيلياً.

رابعاً: تجريد المواجهة من العامل الأمني المزعوم، لما هو دفع اعتداءات ميدانية يشارك فيها نسوة مستوطنات وحتى بعض أطفال المستوطنين، خاصة عندما تتصاعد الوقاحة إلى حدّ جني محصول الزيتون من قبل عوائل كاملة من المستوطنين أمام مرأى أصحابها الفلسطينيين، ما يخلق حتماً مشاعر عميقة من الكره والحرص على الانتقام، والخصم هنا ليس جيشاً يقتل أهل غزة بسبب السابع من أكتوبر الغزي، إنما هو في مواجهة شخوص بمسمّيات معروفة، ما يعزّز التحدّي الوجداني ويخلق شعوراً بمسّ الكرامة والكبرياء حتى دون المضمون الوطني أو الديني على أهميته في هذا السياق.

خامساً: انتشار أشجار الزيتون حول البيوت المتلاصقة، وارتباطه بمكان العيش والمبيت والحركة حول القرى، يعيد المواجهة إلى جذورها الأصلية قبل اتفاقية أوسلو وكلّ محاولات التسوية العبثية.

جرائم المستوطنين في الضفة سيف ذو حدّين إسرائيلياً، وهي معركة خاسرة عندما تتعلّق بشجرة الزيتون وهي تحتلّ نبض الوريد في عروق الناس العاديين غير المسيسين، كما هي عنوان في التكوين الديني الراسخ المتصل بتوجيه نبوي عميق لمن لا يحتمل السفر أو القدرة على زيارة المسجد الأقصى؛ أن يهدي له زيتاً يسرج فيه، لأن مَن فعله فهو كمن أتاه.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.