يونيو بين السقوط والانبعاث: درس في الوعي الشعبي والقيادة الوطنية

كانت نكسة يونيو، بكلّ جراحها، امتحاناً عسيراً لإرادة الأمّة، لكنها كشفت أنّ الهزيمة الحقيقية لا تُقاس بفقدان الأرض، بل بفقدان الأمل.

0:00
  • الدرس الأبقى: الوعي قبل السلاح.
    الدرس الأبقى: الوعي قبل السلاح.

في مساء التاسع من حزيران/يونيو عام 1967، كان الوطن العربي يتنفّس تحت ركام الانهيار. الجيوش العربية قد تهاوت أمام العدوان الإسرائيلي في ستة أيام عجاف، وأصبحت سيناء والضفة والقدس والجولان تحت الاحتلال. وفي لحظة خنق تاريخية، خرج الرئيس جمال عبد الناصر ليعلن، بصوت متهدّج ونبرة يعتصرها الألم، مسؤوليته الكاملة عن الهزيمة، ويعلن تنحّيه عن الحكم.

لم يكن خطاباً عادياً؛ لقد بدا وكأنه مشهد وداع لقائدٍ حمل مشروعاً حلمت به الملايين، وانتهى كما بدا في تلك اللحظة ـ على صخرة الواقع الجارح. لكنّ شيئاً ما كان يغلي في الشارع... لم يكن الشعب قد فرغ من حزنه بعد، حتى هبّ غاضباً. الملايين خرجوا يهتفون لا لرفض التنحّي فقط، بل لرفض الهزيمة ذاتها. لم يكن ذلك مجرّد وفاء لرجل، بل كان تمسّكاً بمشروع تحرّر، لم تكن الأمة مستعدّة لدفنه، حتى في أقسى ساعات الانكسار.

الإرادة الشعبية تفرض البقاء

في اليوم التالي، 10 يونيو، اكتظت الشوارع بالجموع، وهتف الناس من أعماق جراحهم: "لا تتنحّى يا جمال". لم يكن   المشهد طقساً من طقوس الزعامة، بل لحظة تجلٍ لإرادة أمة رفضت أن تستسلم. لقد فرض الوعي الشعبي على عبد الناصر أن يتراجع عن قراره، ليس حبّاً في الكرسي، بل إيماناً بأنّ الهزيمة لا تقاوم إلّا باستمرار المواجهة، وأنّ القائد الذي يعترف بالهزيمة علناً هو الأقدر على خوض معركة الاسترداد.

من تحت الرماد تبدأ النار

لم يمضِ وقت طويل حتى بدأت مصر، بقيادة عبد الناصر، بإعادة بناء الجيش المصري من تحت الصفر، في صمت يشبه العمل في أعماق منجم.

لم تكن خطط الإصلاح العسكري سوى بداية لتحوّل كامل في فلسفة المواجهة، حيث انتقلت مصر من صدمة الانكسار إلى حرب الاستنزاف، لتعلن عبر فعل المقاومة اليومي أنّ الهزيمة لا تصبح قدراً إلّا حين نسلّم بها.

حين صاغت الجماهير البيان العربي

في أيلول/سبتمبر من العام نفسه، انعقدت قمة الخرطوم، وكأنها الصدى السياسي للنبض الشعبي الذي دوّى في الشوارع. اجتمع القادة العرب بعد شهور من العصف والخذلان، لكنّ صوت الجماهير كان حاضراً على طاولة القمة. وجاءت "اللاءات الثلاث":

لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بـ "إسرائيل"

تلك اللاءات لم تكن مجرّد ردّ فعل غاضب، بل كانت إعادة تعريف للموقف العربي في لحظة ما بعد الصدمة. كان فيها شيء من عناد الكرامة، وشيء من الإصرار على أنّ المعركة لم تنتهِ، مهما تغيّرت الخرائط.

وإذا كانت الخرطوم لم تستطع أن تمنح العرب نصراً عسكرياً، فقد منحتهم إطاراً سياسياً للمقاومة، وخريطة طريق تضيء ما بعد الظلمة.

الدرس الأبقى: الوعي قبل السلاح

لقد علّمتنا تلك الأيام، بكلّ قسوتها ونارها، أنّ الشعوب لا تُهزم حين تنهزم جيوشها، بل حين تفقد وعيها التاريخي. وأنّ القادة، مهما بلغت أخطاؤهم، يمكن أن يعيدوا ترميم ما انكسر، إن هم أصغوا لصوت الناس، وآمنوا بأنّ الهزيمة ليست نهاية، بل امتحان لجوهر المشروع الوطني.

لقد بدأت الهزيمة في السماء، حين ضُربت الطائرات وهي رابضة على الأرض، لكنّ إرادة الانتصار الحقيقية كانت على الأرض، حين خرج الناس من الصمت إلى الفعل، ومن الانكسار إلى المواجهة.

وها نحن بعد كلّ هذه العقود، نعود لنتأمّل تلك اللحظة لا باعتبارها مجرّد فصل مظلم في التاريخ، بل كنقطة ارتكاز. أمة تُهزم حين تُخذَل، لكنها لا تموت حين تنهض. وما بين التنحّي والخرطوم، كتبت الجماهير بيانها الأول: لا تُقايَض الكرامة، ولا تُفرَّط الأرض.

 حين تنطق الجماهير باسم الأمة

لم يكن ما جرى في التاسع والعاشر من يونيو مجرد لحظة غضب شعبي، بل كان ميلاداً جديداً لروح الأمة في قلب الهزيمة. لقد قالت الجماهير كلمتها بصوت أوضح من كلّ البيانات الرسمية: إنّ إرادة الشعوب هي الرافعة الكبرى لكلّ مشروع تحرّر، وإنّ الكرامة لا تُوارى في تراب النكسات، بل تُستعاد من بين أنقاضها.

لقد أثبتت تلك اللحظة أنّ الأمم لا تقاس بما تكبّده جيوشها من خسائر، بل بما تختزنه شعوبها من وعي مقاوم وذاكرة حيّة لا تقبل التزوير. وأنّ القائد الحقيقي ليس من يتوارى خلف المبرّرات أو يحمّل الهزيمة لغيره، بل من يتقدّم الصفوف عاري الصدر، ويتحمّل وزر السقوط ليقود مشروع النهوض.

وفي الخرطوم، حيث تجسّدت اللاءات الثلاث، لم تكن القمة استعراضاً للرفض، بل كانت تعبيراً عن إرادة عربية جماعية لم تولد في أروقة الحكم، بل خرجت من جوف الجماهير المصدومة التي رفضت أن يتحوّل الاحتلال إلى واقع دائم.

وإذا كانت الهزيمة قد أطاحت بالجغرافيا، فإنّ الردّ الشعبي أعاد رسم التاريخ، وأعلن أنّ المعركة لم تنتهِ، بل بدأت الآن على أسس أكثر وعياً وجذرية.

لقد كانت نكسة يونيو، بكلّ جراحها، امتحاناً عسيراً لإرادة الأمة، لكنها كشفت أنّ الهزيمة الحقيقية لا تُقاس بفقدان الأرض، بل بفقدان الأمل. وحين نهضت الشعوب من بين الرماد، وأمسكت بخيط النور في ليل الهزيمة، بدأت معركة أخرى: معركة البناء، والتحرير، وإعادة تعريف المشروع القومي العربي لا بوصفه حلماً مؤجّلاً، بل قدراً لا مفرّ منه.

إنّ الأمم التي تنهض من كبواتها بهذا الوعي، لا تُهزم أبداً... قد تسقط، لكنها لا تنكسر؛ قد تُخذل، لكنها لا تخون مشروعها؛ وإن طال ليلها، فإنّ فجْرها مقبل لا محالة.