"أم المعارك" ومآلات المشهد السياسي في الجزائر
مآلات المشهد السياسي في الجزائر قد تتدحرج نحو التصعيد، متأثرة بما يحدث في المغرب من جهة، ونتيجة غياب الحوار السياسي بين النظام والأحزاب السياسية من جهة أخرى.
-
مآلات المشهد السياسي في الجزائر قد تتدحرج نحو التصعيد.
حدث أثناء الكتابة عن دلالات توصيف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون "لأم المعارك" كأحد أهم اجراءات مواجهة الفساد، ومآلات ذلك على المشهد السياسي في الجزائر؛ متغير مهم لا يُمكن استبعاد انعكاساته وتمدد تبعاته على المشهد في الجزائر، هذا المتغير هو اندلاع احتجاجات شبابية في المغرب عُرفت باسم احتجاجات "جيل زد" تطالب بإصلاحات اقتصادية وسياسية.
وقد كان هناك دعوات لاحتجاجات مشابهة في الجزائر كتلك التي يشهدها المغرب؛ وأطلقت على نفسها "جيل زد 213" وهو مفتاح الترقيم الهاتفي الدولي للجزائر، وسبق أن حذرت السلطات الجزائرية من تلك الاحتجاجات؛ والسؤال هل تتمدد احتجاجات "جيل زد" وتنتقل من المغرب إلى الجزائر؟، أم سيجري احتواؤها؟ وما هي مآلات المشهد السياسي في الجزائر ولا سيما عقب دعوة الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون للاستعداد لمواجهة "أم المعارك"؟.
الفساد كلمة السر؛ هذا ما أكده الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون خلال مقابلة بثها التلفزيون الجزائري في 27 أيلول/ سبتمبر 2025، بقوله إنه عندما خاض في موضوع الفساد، وما سماه هو في بداية حكمه "استرجاع الأموال المنهوبة"، أن هذا المسعى "مكّن من كسب عدة معارك تخص الفساد، واليوم نتجه نحو أم المعارك"، في إشارة إلى حجم بارونات الفساد المستشري في الجزائر.
سبق أن صرح الرئيس تبون في 23 كانون الأول/ ديسمبر 2023؛ بأن قيمة الأملاك التي صادرها القضاء بأحكام تخص ملفات فساد، تفوق 20 مليار دولار. مؤكداً حينها أن القضاء الجزائري يترقب نتائج مذكرات قضائية أرسلها إلى عدة دول غربية، يُعتقد أن بنوكها تحتضن أموالاً منهوبة وموضع شبهة فساد.
يُذكر أنه بعد استقالة الرئيس عبد العزيز بوتفليقة في 2 نيسان/ أبريل 2019، تحت ضغط الشارع والجيش، اعتقلت السلطة التي خلفته مسؤولين بارزين وسجنتهم بتهمة الفساد، من بينهم 3 رؤساء حكومات هم أحمد أويحي، وعبد المالك سلال (12 سنة سجناً مع التنفيذ لكل منهما)، ونور الدين بدوي (4 سنوات سجناً مع التنفيذ)، زيادة على سجن عشرات الوزراء ورجال الأعمال.
يُلاحظ في خطاب الرئيس تبون منذ وصوله الى الرئاسة نهاية العام 2019، كثافة تحذيراته من المؤامرات الخارجية والمتواطئين معها من الداخل، وبالتالي فإنه من بين الدلالات وراء مطالبات الرئيس تبون بالاستعداد لـ "لأم المعارك" تحت توصيف مواجهة الفساد، أن تتم عملية توظيف لذلك لمواجهة خصوم الداخل من جهة؛ وامتصاص حالة الغضب الشعبي والحزبي المتصاعد في الجزائر من جهة أخرى، لإجهاض أي حراك قد يُطالب بإجراء اصلاحات سياسية واقتصادية، ولا سيما أن هناك عدة مؤشرات سياسية واقتصادية تدفع باتجاه استمرار الأزمة السياسية في الجزائر وتدحرجها نحو التعقيد وليس الحل، أو ذهاب الشارع الجزائري لمحاكاة الاحتجاجات الحاصلة في المغرب التي يُطلق عليها احتجاجات "جيل زد" كأحد السيناريوهات المتوقعة.
من بين المؤشرات الدالة على تصاعد الأزمة السياسية في الجزائر ومآلات المشهد؛ الانغلاق السياسي وانعدام الحوار وغياب التوافق وتناقض القراءة في توصيف المشهد وفي تشخيص تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وبينما يرى النظام السياسي أن الأوضاع إيجابية وجيدة، وأن هناك نمواً اقتصادياً ويعد بمزيد من الإجراءات التي تدعم صمود المواطن، ترى الأحزاب السياسية عكس ذلك تماماً، وتحذر من مخاطر الانزلاق نحو الاحتجاجات، والذهاب إلى تعميق الأزمة السياسية نتيجة الإخفاقات الحكومية.
والملاحظ أنه بينما يستخدم النظام السياسي قضية الفساد لقوننة إجراءاته وشرعنة أدواته، تستخدم الأحزاب السياسية تصاعد الغضب في الشارع كابتزاز تلوح به رداً على استبعادها من المشاركة في الحكومة، وتغييبها في إجراءات اتخاذ القرارات.
وبالتالي، فإن جزءاً من تعقيدات المشهد السياسي في الجزائر هو التباعد عن التوافق والاتفاق بين النظام السياسي والأحزاب السياسية، حتى بات كل طرف يُكشّر عن أنيابه، وإن كانت أنياب النظام السياسي أبرز وأطول من تلك التي لدى الأحزاب السياسية، وبالنظر إلى المعطيات الحاصلة والبيانات الواضحة، يبدو أن هذا التباعد وذاك التباين بين النظام والأحزاب ليس في طريقه للحل واتجاهه للتقارب، بل إن المعطيات والمؤشرات تدفع بالاتجاه المعاكس والسير نحو الجمود وتجميد الحوار.
يبدو أن الرئيس تبون لن يتوقف عن الصدمات الموجهة للمكونات السياسية الجزائرية؛ وانتقل من الاستعداد لـ "أم المعارك" إلى صدمة تجميد أو ربما تأجيل الحوار السياسي مع الأحزاب السياسية وقانون الانتخابات، حيث أعلن أن الحوار السياسي الذي كان يعتزم تنظيمه نهاية السنة الجارية ما زال غير مؤكد في الوقت الحالي، موضحاً أن الحوار السياسي مع الأحزاب السياسية ليس من الأولويات في الوقت الحالي، وقال: "أساس التركيز الآن مرتبط بتحصين البلاد أمنياً واقتصادياً، باقي القضايا المتعلقة بكيفية التسيير الداخلي يمكن أن نتناقش فيها"، مشيراً إلى أنه "يلتقي قادة الأحزاب كلما طلب رئيس حزب ذلك". ودعا المواطنين إلى "الحذر واليقظة والتعاون لمحاربة التخريب الداخلي".
في محاولة استشراف مآلات المشهد السياسي في الجزائر، فإن تأجيل الحوار بين النظام والأحزاب السياسية متغير صادم في توقيته ودلالته، وهو كافٍ وكفيل بأن يفضي إلى تعميق الأزمة الحاصلة بدلاً من حلها، ولا سيما أن هناك متغيراً مستحدثاً وهو احتجاجات المغرب، التي قد تمتد وتنتقل إلى الجزائر، وربما إلى دول أخرى مجاورة، خاصة وأن احتجاجات "جيل زد" الحاصلة في المغرب تتقاطع مع دعوات مشابهة لها في الجزائر دعا إليها "جيل زد 213".
وبالتالي تجميد الحوار والاستفراد بصناعة القرار واستبعاد الأحزاب السياسية من التشكيلة الوزارية بما فيها الأحزاب الموالية للنظام، وتصاعد لغة الغضب في الشارع الجزائري، وهذا بات واضحاً في مواقع التواصل الاجتماعي؛ وتصاعد لغة الحدّة والتحذيرات من الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في خطابات وبيانات أحزاب المعارضة اليسارية والإسلامية وتوافقها في ذلك رغم اختلافاتها. تجاهل النظام لدعواتها بضرورة فتح أبواب الحوار، وذهابه منفرداً إلى إقرار تعديلات على قانون الانتخابات من دون التشاور أو إشراك الأحزاب السياسية؛ خاصة في نقل الإجراءات التقنية واللوجستية وبعض الصلاحيات من السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات إلى وزارة الداخلية؛ قد يُفضي إلى تعمق الأزمة وتفخيخ المشهد، ولا سيما أن الأحزاب السياسية كانت تطالب بإبعاد وزارة الداخلية عن الانتخابات لضمان شفافيتها واستقلاليتها؛ وترفض تجميد الحوار؛ وعليه شهد المشهد بعض التراشق بين الأحزاب الموالية للنظام وأحزاب المعارضة.
مآلات المشهد السياسي في الجزائر قد تتدحرج نحو التصعيد، متأثرة بما يحدث في المغرب من جهة، ونتيجة غياب الحوار السياسي بين النظام والأحزاب السياسية من جهة أخرى، واستفراد النظام باتخاذ القرارات السياسية والاقتصادية؛ ولا سيما أن مكافحة الفساد في "أم المعارك"، بحسب توصيف الرئيس تبون، إذا لم يشعر المواطن العادي بنتائج ملموسة في تفاصيل حياته اليومية وقدرته الشرائية وأوضاعه الاقتصادية سترفع مؤشرات التوتر، فاستحداث حكومة جديدة والنزول الميداني لوزير الداخلية غير كافٍ، وقد لا يمنع حدوث الاحتجاجات، وقد تلتقط الأحزاب السياسية المعارضة ذلك وتوظفه لرفع رصيدها، وهي تقف على مسافة تسعة أشهر من الانتخابات النيابية.